صفحات مختارة

في التنوير والعقلانيّة والرومنطيقيّة

حازم صاغية
مصطلحات ومفاهيم “التنوير” و”العقلانيّة” و”الرومنطيقيّة” هي مما سال فيه حبر كثير، غربيّ وعربيّ. لكنّ ميزة عالم السياسة البريطانيّ الراحل “أشعيا برلين” أنّه ربّما كان أقدر مَن تناولها بطريقة مقارنة، أو أقلّه أن هذا ما يتبدّى واضحاً في كتابه “جذور الرومنطيقيّة” (وهو شأن سائر كتبه جمع لمحاضرات ألقاها). ولربّما كان مفيداً في السجالات العربيّة حول هذه العناوين الحسّاسة استدخال تأويلات “برلين” الذي اعتبر أن هناك ثلاثة أعمدة يقف عليها التقليد الغربيّ بمجمله. والأعمدة أو المبادئ الثلاثة المقصودة هي التالية:
أوّلا- أن كلّ الأسئلة الحقيقيّة قابلة لأن تجاب، فحين لا تكون الإجابة ممكنة عندها لا يكون السؤال سؤالا. فنحن قد لا نعرف الجواب، لكنّ شخصاً آخر يعرف. وقد نكون أضعف أو أكثر جهلا أو غباء من أن نعرف، وعندها يتولّى هذه المهمّة من لا يشكو من هذه النواقص. هذه المعادلة هي العمود الفقريّ للتقليد الغربيّ.
ثانياً- أن كلّ الإجابات إمّا معروفة أو قابلة لأن تُعرف عبر التعلّم، وإلاّ فعبر تقنيّات يصار إلى تطويرها.
ثالثاً- إن الإجابات يجب أن تتجانس، فإن لم تتجانس عمّت الفوضى. فلا يعقل لنتيجة منطقيّة أن تتعارض، في آخر المطاف، مع نتيجة منطقيّة أخرى.
هذه هي المقدّمات العامّة للتقليد العقلانيّ الغربيّ، أكان مسيحيّ الجذر أو وثنيّه، مؤمنه أو ملحده. أمّا الانعطافة المميّزة التي أضافها التنوير إلى التقليد هذا فهي القول إن الإجابات الصحيحة على الأسئلة الجدّيّة لا تتحصّل بالطرق التقليديّة والمألوفة التي قد تكون مطعوناً في ذاتيّتها أو نسبيّتها أو غير ذلك من الشوائب، بل تتأتّى فقط عبر الاستخدام الصائب للعقل، أي بالطرق العلميّة الصرفة كما في الرياضيّات وعلم الطبيعة. فليس هناك من سبب يقول إن إجابات كهذه أنجزت ما أنجزته من انتصارات في الفيزياء والكيمياء، غير صالحة للتطبيق على حقول أشدّ اختلاطاً، كالسياسة والأخلاق والجماليّات.
والواقع، حسب “برلين”، أن مجالات الأخلاق والسياسة مثّلت حالة نادرة من الفوضى والاستعصاء. فمن الواضح تماماً أن الناس لم يعرفوا، لا يومها ولا الآن، الإجابات عن أسئلة مثل: كيف على الإنسان أن يعيش؟ وأيّ الأنظمة السياسيّة مفضّلة على الأخرى؟ وهل من المحقّ البحث عن السعادة، أم منح الأولويّة لأداء الواجب، أم السعي إلى التوفيق بين الاثنين؟ وهل ينبغي أن نطيع الاخصائيّين في آرائهم أم أن على كلّ منا أن يجتهد جوابه؟
هذه الأسئلة وغيرها من طبيعة محيّرة، آنذاك كما الآن. وكان من الطبيعيّ حيالها التفكير بنيوتن الذي وجد الفيزياء في ظروف مشابهة تتلاعب بها فرضيّات متعدّدة ومتضاربة مؤسّسة على أخطاء كلاسيكيّة ومدرسيّة لا تحصى. فهو استطاع، انطلاقاً من فرضيّات فيزيائيّة- رياضيّة قليلة جدّاً، أن يبني نظاماً مقارناً. ونظام كهذا يمكن تطبيق مناهجه في عوالم الأخلاق والسياسة والجماليّات وسائر الكون الفوضويّ للرأي والموقف الإنسانيّين، حيث الناس يقاتلون بعضهم بعضاً ويقتلون بعضهم بعضاً باسم المبادئ. هذا ما كانه مثال التنوير. لكنّ التنوير لم يكن، على ما يُظنّ أحياناً، نوعاً من زيّ موحّد ينضوي فيه كلّ التنويريّين من دون أيّ اختلاف بينهم. فالمواقف من الطبيعة الإنسانيّة، مثلا، تباينت إلى حدّ بعيد. ففونتينيل وسان إفريمون وفولتير ولاميتري ظنّوا أن الإنسان حسود وخبيث وفاسد وضعيف على نحو لا أمل فيه منه. ولهذا فهو في حاجة إلى أشدّ الأنظمة صرامة بحيث، وبالكاد، يتمكّن من رفع رأسه فوق مستوى الماء. فبإخضاع كهذا يُضمن انضباطه في هذه الحياة. أمّا سواهم فلم تكن نظرتهم على هذا الاسوداد، ظانّين أن الإنسان، جوهريّاً، كائن مرن ومتحوّل. فهو كتلة طين في يد المربّي والمشرّع المتنوّر بما يفضي بها إلى أحسن شكل ممكن. وبالطبع كان هناك أشخاص قلائل مثل روسّو ممن ذهبوا إلى أن الإنسان، بطبيعته، ليس بالحياديّ ولا بالشرير، بل هو صالح. لكنّ ما دمّره هو المؤسّسات التي صنعها بيديه. فإذا أمكن تغيير هذه المؤسّسات، أو إصلاحها على نحو جذريّ، فلسوف نرى أمامنا الصلاح الطبيعيّ للإنسان فيما يعمّ الأرض، من جديد، حكم المحبّة.
كذلك اعتقد بعض معتقديّي التنوير بخلود الروح، وآمن آخرون بأن الروح خرافة. والبعض آمن بالنخبة وبضرورة تحكيم الحكماء إذ الدهماء لا تتعلّم طالما هناك لا مساواة في المواهب والقدرات هي معطى دائم لا يتغيّر. فالعالم، عند هؤلاء، سيبقى غابة في حال امتناع السكّان عن طاعة الخبراء والتعلّم منهم. أمّا غيرهم فذهب بهم الظنّ إلى أنّ كلّ إنسان، في مجالات الأخلاق والسياسة، خبير نفسه. فإذا صحّ أنه لا يسع كلّ واحد أن يغدو عالم رياضيّات جيّداً، إلا أن البشر كلّهم يسعهم سبر قلوبهم وتمييز الصواب من الخطأ. أمّا السبب الذي جعلهم، حتّى اليوم، لا يميّزون فأنّهم ضُلّلوا من قبل حكّام أو أشخاص سيّئين أو بلهاء، أو من جنود أشرار أو كهنة فاسدين. فإذا تسنّى استئصال هؤلاء أو التخلّص منهم بطريقة أو أخرى، عندها يستطيع كلّ فرد أن يعثر على الإجابات الملائمة.
هذه الخلافات الكثيرة وغيرها لا تلغي، في نظر “أشعيا برلين”، قاسماً مشتركاً بين مفكّري التنوير، هو مركزيّة المعرفة وكون الفضيلة مشروطة بها. فحين نعرف، ونعرف من نحن، وماذا نريد، وكيف نحرزه، عند ذاك نكون سعداء وفاضلين وعادلين وأحراراً، بحيث لا يمكن لقيمة من هذه القيم إلاّ أن تتجانس مع باقي القيم. فإذا ما قيل إن انكشاف الحقيقة يجعل صاحبها شخصاً بائساً، أو إذا قيل إن الحريّة الكاملة لا تتساوى مع المساواة الكاملة، فهذا ما ينبغي الكدّ لبرهان بطلانه، أو قيامه على سوء فهم ما. ذاك أن المناهج المستخدمة في العلوم الطبيعيّة هي الطريق إلى تلك القيم كلّها، والمناهج تلك كانت سيّدة القرن الثامن عشر.
وما يصحّ في السياسة والقيم يصحّ في الجماليّات والفنّ أيضاً. فالنظريّة الجماليّة المسيطرة مطالع القرن الثامن عشر رأت أن الفرد ينبغي أن يكون في ما يأتيه مرآة للطبيعة. لكنّ ذلك لم يعن قصر الإبداع على النسخ. فالطبيعة المقصودة هي الحياة، والمقصود بالحياة ليس ما يراه المرء بل ما ينبغي للحياة أن تبلغه من مثالات وصور وأشكال مؤمثلة. صحيح أن رافاييل رسم قطعاً ذهبيّة صدّقها صاحب النزل فأعفاه من دفع المترتّب عليه، تماماً كما فعل زيوكسس في أثينا القديمة عندما رسم عناقيد عنب صارت العصافير تحاول التهامها. لكن هذه المهارة ليست، في الحساب التنويريّ، أرفع ما تبلغه العبقريّة الفنّيّة للإنسان. ذاك أن الأخيرة تستهدف نقل المثال الموضوعيّ الداخليّ الذي يميل إليه البشر، كما الطبيعة، إلى شكل تحتويه رسمة نبيلة. أي أن هناك نوعاً من نسق يونيفيرساليّ يعبّر عنه الفنّان في حقله كما يعبّر الفيلسوف والعالم في حقليهما.
فإذا كانت هذه هي المبالغة التنويريّة إذ تصل إلى درجة تغدو معها مخيفة، فإن الأدعى للخوف تلك الرومنطيقيّة التي تضع العقل، إلى ما لا نهاية، بين هلالين.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى