صفحات مختارة

الوطن والمواطنة عند الإسلاميين

سيد القمني
-1-
الدكتور سيف الدين عبد الفتاح هو أحد رموز الرعيل المعاصر من الأصوليين المسلمين، وهو الجيل الذي انفتح على علوم العصر المتخصصة في ميادين السياسة والاقتصاد والحقوق والاجتماع، وهو الجيل الذي يقدم ما يراه فلسفة جديدة تستفيد من علوم العصر بقراءة المأثور الإسلامي العتيق بلسان الحداثة ومنطق المعاصرة وبلغة العلم ومفرداته.
والمتابع يعلم أن الدكتور سيف ليس وحيداً في هذه المساحة الجديدة التي يفرضها الفكر السلفي اليوم علي ساحة الثقافة العربية الإسلامية.
وضمن كتابات الدكتور سيف عمل هام بعنوان: الدولة في الفكر الإسلامي.. عواقب الدولة القومية..
وهو عمل ذو خصوصية رغم أنه يعبر بشكل نموذجي عن الخطاب السلفي المحدث؟!، وهو الخطاب الذي يفرض حضوره للمناقشة والتحليل لمعرفة طريقة هذا الخطاب ومنهجه وأسلوبه للترويج لمنتج عتيق بألفاظ مستمدة من العلوم الإنسانية المعاصرة خاصة علوم السياسة.
***
وتعود خصوصية هذا الموضوع إلي كون موضوعه (الدولة القومية) مسألة حاسمة وفاصلة في علاقة الأصوليين بالحداثة, وهل هم مع الحداثة أم ضدها، ثم أنها تصنع مشكلة تستعصي علي الحل بين الإسلاميين وبين أشد أنصارهم العروبيين لموقف الأصوليين الإسلاميين العريق الرافض لمبدأ المواطنة ووطنية البلاد، أي لفكرة الدولة القومية، التي هي حاصل جمع المجتمع والدولة والتاريخ والجغرافيا أرضاً وحدوداً، والإقتصاد وطبيعته المتوائمة مع جغرافيته وتاريخه، المنطبعة في عادات وتقاليد ونظم وقوانين هي مجموع ثقافته.
وهنا يقدم لنا الدكتور سيف رؤيته كإسلامي أصولي يعبر عن وجهه نظر أيديولوجية واسعة لمعنى الدولة من وجهة نظر الفكر الإسلامي، منتهياً إلى ما وضع بذرته في العنوان ببيان (العواقب) الوخيمة للانتصار لفكرة الدولة القومية كما نفهمها وكما يفهمها العالم كله. سنقوم هنا بعرض ما كتب الدكتور سيف دون إغفال أي هام أو أي عنصر فسيفسائي أو مفصلي في تركيبته، لكن مع ترتيب ما كتب حتى يمكنا تناوله لنرى أي عواقب للدولة القومية بمعنى الوطن؟ وهل البديل الذي يطرحه علينا من وجهة نظر إسلامية يستحق منا التخلي عن الوطن والمواطنة؟
يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أن واقع الدول العربية والإسلامية في ظل الخلافة الإسلامية قد عرف التعدد في الكيانات التي خضعت إسمياً ورمزياً للخلافة، وشكلت إمارات شبه مستقلة تبعاً للأجناس والأعراق أحياناً، وللمذاهب الدينية أحياناً أخرى. ويضع لهذا الشكل سؤالاً هو : هل كانت العلاقات بين هذه الإمارات علاقات داخلية داخل مجتمع واحد لكنه منقسم لدويلات بحكم أن بينها رابطاً جامعاً هو الإسلام؟ أم أن هذه العلاقات كانت خارجية لا تأخذ الدين في اعتبارها كعامل يربطها ببقية الدويلات؟ وهل أتى هذا الشكل من خلافة إسلامية واحدة، تخضع لها إمارات شبه مستقلة، بمعايير جديدة في العلاقات بينها بديلة لمعايير الشريعة الإسلامية التي تجمعهم كلهم على عقيدة واحدة.
ثم ينتقل د. سيف دون تقديم إجابات لهذه الأسئلة للدولة العثمانية التي حققت جامعية الأمة مع إتاحتها للتعدد داخلها حسبما يقول، فجمعت بقوة السلاح الإمارات الإسلامية في منظومتها الواحدة، بل وأضافت للدول الإسلامية تحت الخلافة بلاداً أخرى اقتطعتها من أوروبا. وبدورها سقطت الإمبراطورية العثمانية لأسباب خارجية تمثلت في تشكيل أوروبا جبهة موحدة ضد التحدي العثماني، ولأسباب داخلية نتيجة ما سمي بالثورة العربية (حسب تعبيره)، وهو ما أدى مع ظهور الحقبة الاستعمارية واحتلال أوروبا المباشر لبلاد الإمبراطورية العثمانية إلى ظهور علاقات جديدة, هي علاقات المستعمِر والمستعمر، السيد والتابع، ضمن ولادات قيصرية وقسرية لكيانات تم سلخها عن الإمبراطورية العثمانية، تتحرك ضمن علاقات جديدة شكلها شعار الاستعمار الأوروبي (فرق تسد)، وبنهاية الإستعمار القديم وظهور الإستعمار الجديد الذي عمل بنظرية (إرحل لتبقى) باستمرار العلاقات حميمة بين الدول المستقلة وبين مستعمرها السابق، وفي الوقت نفسه تفجير العلاقات بين الدولة الإسلامية المستقلة وبعضها البعض، إلى حد القتال كما في نزاعات الحدود ونزاعات المذاهب بينما غاب التعاون بين هذه الدول إلى حد بعيد، وهكذا نشأت وخلقت الدولة القومية في بلادنا بولادة قسرية قيصرية فجاءت مولوداً شائها لمجموعة دويلات تتعارك مع بعضها.
ثم يقارن بين قيام ونشوء الدولة القومية في بلاد الغرب الحر بما حدث عندنا فيقول: “إن الدولة القومية في الغرب كانت جامعة، بينما هي في العالم الإسلامي نتاج تفكيك كيانات أكبر، فخلقت ميراثاً من المشاكل، إن هذه المرحلة تميزت بالولادة القسرية الشائهة لما أسمى بالدولة القومية في دول العالم الإسلامي.. وحملت في طياتها عناصر تفكيك وهذا ما أريد لها، أكثر مما حملت عناصر جامعية.. إن ميراث الدولة القومية حافظ بشكل حاد ومتواتر على علاقات تسير صوب التفكك لا التكامل (السيادة، الحدود).. والإستمساك الضار بمعنى الدولة القومية.. إن مفهوم الدولة القومية تتعاطاها هذه الدول في مواجهة بعضها، وتتهاون بصدده حيال علاقتها بالعالم الخارجي خاصة الغربي، وهو ما لا يصب إلا في ضعف ووهن هذه الدول فرادي… وزيادة علاقتها التابعة. إن مفهوم الدولة القومية.. جامع في الخبرة الأوروبية.. مفكك في عالم المسلمين.. عبر علاقات غير متكافئة تصب في عافية الذات”.
ولمزيد من تأكيد عواقب الدولة القومية في بلاد المسلمين يشرح الدكتور سيف فيقول: “إن مفهوم الدولة القومية قد انعكس سلباً على مفهوم الأمة الإسلامية، وكذلك على مفهومنا التقليدي المتعارف عليه باسم (دار الإسلام). فقد أفرز مفهوم الدولة القومية تعدد لا هو انفصال بين دولة عباسية عاصمتها بغداد ودولة أموية في الأندلس، ولا هو تعدد التغلب والاستيلاء الذي أفرز كيانات وإمارات ارتبطت اسمياً بالخلافة العباسية، ولا هو التعدد الذي أفرزه النزاع على النفوذ في الحقبة الاستعمارية، لكنه التعدد الذي حكمته موازين ما بعد حقبة الاستعمار الاستيطاني والدخول في مرحلة جديدة من علاقات الدولة القومية التابعة. وهو التعدد الذي صاحبه تعدد في الرؤى ونماذج التنمية.. من الرأسمالية إلي الإشتراكية.. وسادت فيه علاقات وسياسات التجزئة والتبعية والتخلف أكثر مما أثرت فيه سياسات وعلاقات التكامل والوحدة والاستقلال والنهضة. إن هذه الخريطة للتعدد تختلف عن أي خريطة تعدد سابقة في ظل الخلافة لأنها أثرت على المفهوم التقليدي الفقهي الراسخ عن دار الإسلام ودار الحرب، لأن المعايير قد تغيرت وبرز مفهوم المصلحة القومية، هذا ناهيك عن صعوبة توصيف واقعنا اليوم من خلال المفاهيم الفقهية. ولهذا السبب صادف عالم المسلمين أزمات انتهت إلى تحالفات عجيبة كما حدث في حرب الخليج الأولى والحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية وغزو الكويت، مع فوضى فكرية تسربلت بغطاء ديني فشكلت ما يستحق تسميته (الفتنة الفكرية والدينية) التي استخدم فيها الدين وسلاح الفتاوى من كل الفرقاء. ومن ثم فإن مفهوم الدولة القومية كما يمارسه المسلمون يشكل مساراً تهميشياً لمفهوم الوحدة وكانت معظم تأثيراته سلبية على مفهوم الأمة.
ولعل أهم هذه السلبيات أن دولنا القومية هي دول تابعة منشغلة بالحفاظ على واقع التجزئة، ومقلدة لنماذج لا تنبع من داخلها أو من تاريخها إنما مستوردة من خارجها. بل وحاول هذا المفهوم طرد تكويننا الأصيل (الخلافة الواحدة الموحدة) بخلق تكوينات مبتدعة من قبيل الجامعة الإسلامية والشرق أوسطية والشراكة العربية الأوروبية.
وبينما الخبرة الأوروربية تتجاوز مفهوم الدولة القومية نحو التوحد (الاتحاد الأوروبي) نستمر نحن في دعم الدولة القومية في مواجهة التوحد بوضع هذه الدول في مواجهة بعضها، بينما يتجه العالم كله نحو التوحد في قرية عالمية فإن مفهوم القرية العالمية عندنا هو فقط تعظيم الإتصال بالغرب أكثر من الإتصال بالعالمين العربي والإسلامي. بل على العكس أبقت كل عوامل الإنفصال والتجزئة والتبعية والتخلف الذي تكسوه قشرة حضارة “. انتهى كلامه.
إلى هنا ينتهي السرد الموجز المكثف الذي عرضناه بكل أمانة لعمل الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وهو فيما هو واضح وجلي، كلام عشرة على عشرة، ومن الحكمة عدم الاعتراض على ما قدم من حقائق. لكن ما أرتكبه الدكتور سيف الدين ليس الإفتراء على الحقائق أو اللعب بها، فهو لم يفعل ذلك، لكنه فعل ما هو أسوأ وأنكى وأردأ، لقد زور على قارئه كل شئ، عندما انتقى من اللوحة التاريخية ما يناسب غرضه النهائي، ألا وهو إثبات أن دولة الخلافة هي الحل، لأنها كانت هي الجامع للمسلمين وسر قوتهم التي احتلوا بها أجزاء من أوروبا، وأنه بانهيارها وتفككها انهارت أو ضاع الدول المسلمة المستقلة الوطنية الضعيفة، والحل هو استعادة القوة باستعادة النظام المنشئ لها والمتفق مع ديننا وتاريخنا وفقهنا ومنطقنا، في تقسيم العالم إلى ديار سلم وديار حرب، فتتفق أمورنا وواقعنا مع ثقافتنا مما يؤدى إلى تماسك جماعي قوي معياره وحاكمه هو الدين، حتى تعود ديار السلم إلى فتح ديار الحرب!!
بالضبط مثل الدعوة الصهيونية التي سبقت قيام دولة إسرائيل!!
ثم هل من العلمية أو من الواقعية أن يكون أو ل بنود اهتمامات بلادنا الأشد جهلاً ومرضاً وتخلفاً وضعفاً في العالمين، هو إقامة دولة إمبراطورية للخلافة على غرار الأموية والعباسية؟ إن النبي لم يقم للعرب ما يشبه الدولة في جزيرتهم إلا بعد ما يفوق على الثمانيين معركة عسكرية دموية بكل معنى الكلمة، وتفككت دولته وهو على سرير المرض، فقام أبو بكر يعيد جمعها وتوحيدها بالحرب أيضاً، فلم تقم إمبراطورية في التاريخ بالجدل والحوار، لأنها إخضاع شعب لعبودية شعب آخر سيد حاكم، وإكراه حاكم محلي للتخلي عن الكرسي لحاكم آخر قادم من خارج الحدود وهو ما لا يحدث إلا قسراً.
لقد نازع سعد بن عبادة الأنصاري والإمام علي بن أبى طالب والهاشميون أبا بكر وعمر وعثمان على الحكم ، وتنازع معاوية وابنه يزيد مع الإمام علي وولده الحسين على حكم المسلمين، فهل كان كل هؤلاء سفهاء لأنهم لم يتوحدوا بالطريقة التي يطرحها علينا هنا الدكتور سيف عبد الفتاح؟
وهل كان ظهور دولة أموية مستقلة في أسبانيا خروجا على ملة الإسلام أم إضافة له؟
الدكتور سيف يعلي من الدين كرابطة على سلم الروابط الاجتماعية كحل يجمع الشامي والمغربي والماليزي ليشكلوا القوة المطلوبة لقيام ديار الإسلام. ولا تشغله روابط أخرى تجمع المجتمعات وتميزها عن بعضها مثل رابط العنصر أحياناً (كما في الروابط القبلية)، أو مثل رابط التجاور الجغرافي كما في تجاور الجزر اليونانية الذي أنشأ مجتمعاً واحداً، أو كما في رابط النهر المشترك كالنيل وقال هيرودت مصر هبة النيل، أي أن النيل ربط بين الناس فأقاموا الحضارة، وهو ما حدث في حوض الرافدين وحوض السند، وهناك روابط المصالح المشتركة التي جمعت ولايات أمريكا لتصبح متحدة، أو كما نرى في الاتحاد الأوروبي.
والدين أيضاً رابط اجتماعي قوي لا يمكن إنكاره، لكن المجتمع عبر ما يمر به من مشاكل أو انفراجات أو علاقات أو حروب، فإنه يقوم بتغيير أولوياته باختيار ما يكون مطلوباً من روابط على سلم الروابط فتأتى المصلحة على أو ل درجة وأحيانا الدين وأحيانا أخرى العنصر وأحيانا اللغة، ويتم ترتيب الروابط حسب حاجة المجتمع في زمن ما وظرف طارئ بالذات، تتفق في النهاية وما يراه المجتمع في صالح ما يطلبه الوقت والظرف، ومن ثم تترتب الأولويات للروابط على سلم الروابط الإجتماعية بحساب المصالح كمعيار أساسي لهذا السلم، سواء أدرك المجتمع ذلك بشكل علمي واضح أو لم يدرك، لكن الدين بين هذه الروابط لا تشغله مصلحة الأوطان أو الأفراد بقدر ما ينشغل رجاله بمدى توسيع نفوذهم ومدى توسيع الرقعة الجغرافية الواقعة تحت سلطان الإسلام، حتى ولو كان وضع الدين على الدرجة الأولى في سلم الروابط الاجتماعية شديد المضرة والأذى في بعض الحقب، فإن المجتمع لا يبالي ويقبل بالأذى والمضرة. بسبب جوهري يكمن في الدين كرابط اجتماعي ، وهو أن الناس تعلم أن الدين ليس تحت سيطرتها كالجغرافيا وليس من اختراعها كاللغة والعادات والتقاليد، إنما هو مستقل عنها، ومن ثم فهي لا تستطيع التدخل فيه وتتلقاه كما هو بأوامره ونواهيه دون اعتراض، ولا يبقى في المجتمع من يمكنه التعامل مع هذا المقدس سوى رجال الدين وعصابات المنتفعين بإسم الدين، وكثيراً ما أدى هؤلاء باستخدامهم الدين إلى تخلف مشين كما كان حال أوروبا في العصور الوسطى، وكما هو حال بلادنا اليوم حيث تقبع على التخوم الأخيرة لبراري التاريخ.
المثال الصارخ في العراق حيث الصراع الدموي الانتقامي بين السنة والشيعة في العراق، لأن أهل العراق جعلوا الأولوية على سلم روابطهم الاجتماعية للمذهب الديني وليس الوطن. وبالأمس القريب انفجرت البلقان كلها في صراع دموي عندما اعتلى الدين قمة سلم الروابط الاجتماعية، وهو ما تصرخ به السودان، وما كان من تشقق القارة الهندية لباكستان والهند. عندما كان الدين على القمة لم تشغله مصالح الناس أو البلاد لحظة واحدة، بينما عندما كان الوطن على قمة الروابط فإن ألمانيا رغم انفصالها بعد الحرب ظلت الألمانيتان تؤكدان على ألمانيا واحدة حتى اتحدتا مرة أخرى طوعيا، لأن كل من الطرفين كان يضع على سلم روابطه الحدود الجغرافية للوطن ويعطيه هويته فيسميه ألمانيا.
أما في مصرنا الغالية فلا زلنا نذكر أو نقرأ عن زمن كان طابور المدرسة يهتف قبل أي شئ (تحيا مصر حرة مستقلة). زمنها كانت مصر في حال أفضل بما لا يقارن بحالها بعدما رفع طلابها المصاحف وهتفوا الله أكبر ولله الحمد، منذ الصحوة الإسلامية لا بارك الله فيها. إذن فالجماعة ذات منشأ إجتماعي طوعي تلقائي، أما الدولة فذات منشأ سياسي يقوم على القصد والترتيب، لذلك نجد أن دولة الرسول بالمدينة (مع التجاوز في تسميتها دولة) كانت تجمع اليهود والمسلمين وقبائل متباينة الأعراف، لأنها لم تضع الدين عند عقد صحيفة المدينة كرابط أو ل، إنما وضعت المصلحة المشتركة بين كل الأطراف.
فالجماعة متجانسة تدخل في تشكيل أي دولة، وفي الدولة تدخل عدة جماعات، لكل جماعة روابط اجتماعية يتفق بعضها ويختلف بعضها مع باقي الجماعات، وهذه الجماعات تقدم أو تؤخر على سلم الروابط أولويات إهتمامها، فتجعل الروابط المتفق عليها بين كل الجماعات هي الأعلى، والرابط الذي لا تختلف عليه جماعة تريد الاستمرار في الوجود هو رابط المواطنة، الذي يتم تعظيمه وإعلاءه على الدين والعرق واللغة والتقاليد، فتصبح الجماعات وحدة تشكل دولة. فإن تقدم العرق على رابطة المواطنة كانت الحروب العنصرية، وإن تقدم الدين كانت الحروب الطائفية، فتتفكك الدولة، وهو ما حدث في الهند سنة 1948 فظهرت باكستان، كذلك هو الشأن في كشمير وجنوب السودان ودارفور. لأنه عندما تتنحى المواطنة عن قمة الروابط تتفكك الدولة إلى دويلات طبقاً للرابط الجديد الذي حل محل المواطنة، فإن كان الدين هو المتقدم كان الانقسام دينياً وإن كان العرق تم التقسيم طبقاً للأعراق.. وهكذا.
والجماعات البشرية متنوعة في الحجم منها الصغيرة ومنها الكبيرة، ومتنوعة في التركيب منها البسيط ومنها المعقد الذي يضم في داخله أكثر من جماعة بسيطة. وللجماعات البشرية مسميات عديدة طبقاً للحجم والتركيب، أبسطها هو الأسرة المكون الأساسي لكل الجماعات، والإنسان بطبعه حيوان اجتماعي يصعب عليه العيش بلا جماعة توفر له الأمان وسبل المعيشة.
وتتصف الجماعة بالترابط وعدم التنافر لأنها لو تنافرت تفتت لجماعات أصغر حجماً وتركيباً. ويقوم ترابط الجماعة على خصوصيات جامعة، ولذلك يختلف عدد الروابط الاجتماعية باختلاف شكل الجماعة، فكلما كانت بسيطة كانت روابطها أقل، وكلما تعقدت تركيباً وعدداً زاد عدد الروابط. والروابط ليست على مستوى واحد من الأهمية أو الأولوية لكنها هي مركز تمحور الجماعة، فإن تشاركت جماعتان أو أكثر في الرابط المركزي المحوري دارت حوله الجماعات مشكلة جماعة مركبة، فإن ظهرت جماعة ثالثة لها نفس المركز المحوري دارت مع الأخريات في ذات الفلك متحولين من جماعات بسيطة إلى جماعة مركبة أو معقدة.
إذن الروابط تصنعها في الأصل الجماعات البسيطة وهي من يدرجها على سلم الأولويات، وأحياناً تقوم بإعادة ترتيب تلك الأولويات فتنحي رابطاً مركزياً وتستبدله بآخر كان في المؤخرة، فتقدمه وتجعله مركز محورياً. وقد تنحي روابط قديمة مركزية لتحل محلها روابط مستحدثة تراها الجماعة من صالحها وأن هذا الصالح لم تعد تحققه الروابط القديمة، كما يحدث في اعتناق دين جديد أو لغة جديدة أو أيديولوجيا جديدة أو فكر فلسفي جديد، ليحل محل القديم الذي أقرت الجماعة عدم جدواه أو عدم كفايته لتوفير الأمن والأمان، وتحقيق أهداف الجماعة الإنسانية من كفاية وعدل وسعادة وتحاشي الألم.. إلخ.
قالمجتمع البشري يوازن بين الروابط وينحي من على أولويات سلمها ما يراه قد أمسى غير ذي جدوى ويحل محله ما يراه أكثر تحقيقاً لآماله، سواء كان هذا الجديد من بين الروابط الأدنى على السلم أو مستورد أو وافد من ثقافة أخرى. المهم قدرة الرابط على تحقيق أمل الجماعة.
وأقوى الروابط المستمر وراء اختيار أي روابط أخرى هو المصلحة والمنفعة التي هي في الوقت ذاته الحاكم والمعيار على الروابط الأخرى، والجغرافيا هي أهم روابط المنفعة، لذلك ظهرت أو ل الجماعات البشرية في أحواض الأنهار لأن النهر رابط جغرافي، وأن حسن استغلاله من الجميع نفع الجميع، وهو ما يفسر قيام الحضارات على أحواض الأنهار، مقابل تأخر المجتمعات البدوية الصحراوية لفقدان الرابط الجغرافي بحسبانها قبائل متحركة لا تعرف الوطن المستقر. وهو ما يفسر لنا لماذا أنزلت قبائل العرب الإسلام من على سلم روابطها عندما استشعرت مرض النبي وعادت تثور على المدينة في حركات انفصالية ارتدادية. وحالما بدأت الفتوحات كان رابط المنفعة هو الفئ والمغانم والسبي والجزية، فاتخذت قبائل العرب من عائد الحروب رابطاً لها مكنها من الفرس والروم، وعندما كان رابط المنفعة يتراجع كانت تظهر النزعات القبيلة، فإن حصلت القبائل على المنافع التي ترضيها هدأت الأمور. وهكذا قامت نزاعات المنفعة بين الصحابة بلا مراعاة للدين بل باستثمار الدين كحليف ومؤيد لكل فريق ضد الأخر، وقتل فيها الصحابة الصحابة وآل البيت، فلم يكن الدين هو الرابط الحقيقى إنما المنفعة، فرابطة الدين لم تكن الأول على سلم الروابط لذلك تم اغتيال عثمان بن عفان، وهاجمت السيدة عائشة علي بن أبي طالب في الجمل، ولم تردع رابطة الإسلام العراق عن غزو الكويت، ولا تفجير المتأسلمين للسيارات المفخخة في بلاد المسلمين لقتل المسلمين، ولم تمنع الوهابيين من هدم قبر فاطمة بنت النبي ولا نهب كنوز الكعبة، ولا ردعت عن استباحة فروج المسلمات والصحابيات وبنات الصحابة في واقعة الحرة المخزية، إن هذه الأحداث كلها ما كانت لتحدث إلا عندما تم وضع الدين في أعلى سلم الروابط دون أن يكون كذلك في الحقيقة، لأن الحقيقة كانت معاملة الدين واستثماره ومعاملته بانتهازية في صراعات المصالح السياسية والمكاسب الدنيوية كما لو كان هو الرابط الأعلى دون أن يكون ذلك صادقاً أو حقيقياً بالمرة، فكل ما حدث أن كل طرف يستخدم الدين انتهازياً لتحقيق أطماعه، وأعلن كل قاتل إنه يقتل أخيه المسلم بإسم الدين وفى سبيل الله. وبسبيل إنزال الدين من على سلم الروابط يقوم البعض بإحلال مذهب جديد يتمركزون حوله ويدورون، كرابطة جديدة لأصحاب تدور حول محوره الجماعة تاركة الآخرين يدورون حول ذات الدين لكنه القديم قبل المذهب المحدث. حتى يظل الدين واجهة ترضي العامة فيتحول من رابط فعلي إلى شكلي، والفارق بين الرابط الجغرافي الثابت المحسوس الواضح غير الملتبس والذي تشارك فيه كل جماعات المجتمع، وبين أي رابط آخر، أن أي روابط أخرى مثل المذهب الديني واللغة هي روابط صنعها البشر فهي مكتسبة لم تأت من السماء مع الخلق. الذي جاء من السماء هو الدين الأم وعنه أنتج البشر مذاهبهم وعن قصد بشري وليس بإرادة السماء، ورغم أن المذاهب المصنوعة تغطي على الأصيل النصي القرآني، فإن المذاهب ليس لها أنبياء ولا رسل ولا كتب سماوية خاصة بهم، لكنهم يحوزون عند المسلمين مكان التقديس!!
رغم أن المذاهب غير موحى بها وأنها صناعة بشرية محض وتم إنتاجها بدوافع بشرية محض، لاتخاذها مركزاً ومحوراً يدور حوله المجتمع فيكتسب المجتمع المتذهب استقلالية وتمايزاً عن أصحاب المذاهب الأخرى، وعن مجتمعه الأم.
أيضاً اللغة كرابط تخرج منها لغات جديدة متفرعة عن اللغة الأم لتأكيد الذات والاستقلالية عن الغير، ولم يذكر لنا تاريخ الأديان أن هناك نبي أو رسول قد جاء بلغة جديدة لتحل محل أخرى.
لكن الرابط الثابت بثبات التضاريس والنهر أو الصحراء التي أو جدته أو البحر أو البحيرات، كلها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وعليه ينشأ رابطة المنفعة، فنفط الخليج أنشأ رابط خليجي عازل لها عن بقية الدول العربية، كما غير نمط مجتمعاتها وطبعها بطابع واحد أو شديد التماثل، وجعل هذه الدول ترفض انضمام الأفراد الذين كانت تقبل بهم مواطنين قبل ظهور هذا الرابط (ظاهرة البدون مثلا).. كما أن هذا الرابط جعل الدين يأتي في المرتبة التالية على سلم الروابط بعد أن كان في المقدمة زمن العوز والحاجة، وكانت تتخذ منة مبرراً للهجرة إلى مواطن الوفرة في أحواض الأنهار كمصر والعراق، والممطرة مثل بلاد الشام وشمال أفريقيا أو الجامعة بين الميزتين كبلاد الأندلس.
إذن فالجماعة تنشأ طواعية طبقاً لرغبات وحاجات أفرادها وموروثهم البيولوجي أو لاً، ثم تستمر في التواجد مدعومة بموروثهم الثقافي القابل للتعديل والتبديل، وهو ما كان يؤدي إلى تجمع الجماعات في تركيبات أكبر وأكثر تعقيداً، أو إلى تفكك ذلك المعقد المركب ليعود إلى مجموعات وجماعات أقل تعقيداً وأكثر قدرة على البقاء.
أما الدولة والإمبراطورية فهي رابط في شكل تجمع سياسي تقيمه القوة العسكرية يجمع بداخله تجمعات من أسر وعائلات وقبائل وأمم، وقد تحتوي الدولة على أكثر من أمة، أو على جزء من أمة، كما هو حال الأمة الكردية الموزعة بين أكثر من دولة. فإذا انهارت الإمبراطورية عادت البلاد إلى ما كانت عليه قبل قيامها من الإمبراطورية الرومية مروراً بالعربية إلى الإمبراطوريات الحديثة كالإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس أو الإمبراطورية الشيوعية التي تمثلت في الإتحاد السوفيتي. فالإمبراطوريات لا تسقط لكي تقوم، بل تسقط لتذهب وتفسح المجال للأمم لتتطور وترتقي. وسقوط الإمبراطوريات ليس سقوطاً إرادياً إنما هو سقوط نظام حكم ثبت فشله عبر التاريخ وعجز عن تحقيق الحلم البشري فسقطت ليحل محله الأصلح.
وعليه فإن طريقة اختيار الحاكم ونظام الحكم وتحديد علاقة الفرد بالسلطة وأنواع السلطة وطبيعتها وعلاقتها ببعضها، هذا يدخل في علم السياسة لنظام الدولة، فإن قلنا أن الدولة تأتي لاحقة للمجتمع وليست سابقة عليه، فمعنى هذا أن الإسلام لا يبدأ بالسياسة ولكنه يبدأ بتكوين المجتمع لتقوم الدولة على هذا المجتمع من بعد. ورغم أن ذلك لا ينطبق إلا على جزيرة العرب وحدها دون غيرها، حيث لم يكن مجتمع الجزيرة قد تجاوز التفرق القبلي نحو النضج والاكتمال لإقامة دولة حاكمة له، إلا على يد الإسلام الذي أكمل تكوين بل وتشكيل ذلك المجتمع قهراً لينضبط في دولة يوافقها رضا أو كرها. بينما كان محيط الجزيرة دولاً ذات حضارات قامت واكتملت قبل ظهور جميع الأديان، فإذا كان الإسلام قد أقام للعرب مجتمعهم قسراً فإن باقي دول الجوار لم يكن للإسلام أي فضل في إقامة مجمعاتها أو دولها. وإذا كان ثمة علاقة بين الدين والسلطة (أو الدولة) فذلك إنما يخص جزيرة العرب وحدها وفي زمن الدعوة وحده.
وبينما لم تلبث دولة النبي الناشئة حتى تفككت وعادت القبائل إلى شكلها الأول، حتى أعاد أبو بكر إنشاء دولة جديدة مرة أخرى على أنقاض الدولة الإسلامية الأولى، ثم سقطت ثم قامت عدة مرات، ولكن خارج الحجاز حيث بلاد الحضارات المفتوحة، ووفق جهاز إداري كان قائماً من ألوف السنين حافظ على تماسك هذه الدول من التفكك. وبينما بقيت مصر منذ مينا حتى اليوم عبر خمسة ألاف عام دون أن ينفك منها أي عضو جغرافي، فإن دولة النبي تفككت وهو على سرير المرض، لأنها كانت بدائية، كان المقصود منها تجميع العرب تحت راية مبدأ ديني واحد، فلم تكن سوى تجمع قبلي لم ينضج بعد ويتطور ويضع لنفسه آلياته وقواعده وجهازه الإداري والرقابي والقانوني، ومجمل الأجهزة الحافظة لنظام الدولة. وظل وضع الجزيرة هكذا إلى أن ظهر بن عبد الوهاب متحالفاً مع بن سعود وتمكنا من إنشاء دولة عربية حديثة مستقرة، وما استقرت لأن أياً منهما لم يكن نبي الإسلام لذلك كانا يعلمان جيداً أن دولتهما ليست هي دولة الإسلام ، لهذا تمكنا من التمكين…. باستخدام الإسلام كركوبة موصلة ليس أكثر.
-2-
رغم وضوح التاريخ إلى حد الصدمة أحياناً، فإن الصدمات لا تفيق أهلنا الراغبين في استعادة الخلافة المقبورة، وهم بسبيل ذلك يفعلون بالضبط فعل الإسلام (ق 7 م ) في جزيرة كانت مفككة إلى قبائل عربية متصارعة منذ سبعة عشر قرنا، يفعلون ذات الفعل ولكن في دولة معاصرة وقائمة من ألوف السنين / مصر مثلا، هم يريدون إقامة المجتمع المسلم القبلي الأول كما كان في جزيرته، قبل إقامة الدولة الإسلامية، كما هو في ترتيب أهداف الإخوان المسلمين في مختلف وثائقهم.
إنهم حتى يقيمون دولة عليهم إن ينفوا أولاً وجود المجتمع المناسب لهذه الدولة اليوم. لهذا يجب إعادة خلق هذا المجتمع الأول المطلوب مرة أخرى. إنهم يكفرون كل المجتمع بداية وبداهة مسلم بها، مع بديهية أخرى هي أنهم وحدهم المسلمون، ليأخذوا هم دور الهداة لدينهم الجديد الذي يطلقون عليه اسم الإسلام، رغم أن هذا الإسلام موجود في الواقع في مجتمع مسلم. لكن العقل البدوي يبدأ بالمجتمع أولاً، والحل هو سلخ جزء من هذا المجتمع وإدخاله في الإسلام أو بالأحرى في الدين الجديد المستتر بالإسلام القديم، بدليل ما لحق الإسلام في الوهابية من متغيرات كبرى حتى بات ديناً غير الدين الذي عرفه المسلمون منذ أربعة عشر قرناً.
وبعد سلخ مجتمع الدين الجديد من مجتمع الدين القائم يعود المجتمع الجديد لفتح المجتمع القديم/ كما سبق وفتح المجتمع المدني اليثربي المجتمع العربي والمكي كله/ من أجل حكمة والسيطرة علية، عبر كل الوسائل الممكنة ولو بوسائل مكروهة وطاغوتية معاصرة كفرية المنشأ بما فيها الانتخابات كأداة سياسية معاصرة فعالة، وحينها يمكن إقامة الدولة الإسلامية. ومن بعدها تخوض الحروب وتلغ في الدماء لتقيم الخلافة.
إن البشرية تسير نحو المستقبل فتنتج الكهرباء وما ترتب عليها من اختراعات بالملايين، وتجوب الفضاء وتلعب بأسس الحياة الجينية، ونريد أن نعود نحن لعصر اكتشاف النار، البشرية أنتجت أجهزة الراحة والمتعة والمساعدة على الإنجاز والتشريعات الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن وحقوق الإنسان ومحكمة جنيف، والكمبيوتر وعالم النت الوهمي الواقعي بخلق بشرى إعجازي، ونحن نطلب عودة عصر الإمبراطوريات، في جنوح ذهاني واضح يشير إلى خلل عميق أصاب العقل المسلم.
فإذا كانوا يؤكدون طول الوقت إن الإسلام لم يتم فرضه عنوة ولا بالعنف ولا بالسيف، فكيف يفرضون دولته بالعنف والحروب، فوفق هذا تكون الدولة التي قامت عنوة على يد أبي بكر الصديق، (ووفق التسليم بمقدمة قيام الإسلام بقوته الإقناعية وليس بالسيف)، لا يصح إن تكون دولة الإسلام لأنها قامت على السيف، كذلك لا يمكن القول بأن إمبراطورية العرب التي قامت بالحرب والغزو إمبراطورية الإسلام الذي لا يعرف العنف ولا ينتشر بالسيف ولا يفرض نفسه على الناس بالإرغام والإجبار.
إن الدولة التي يصح وصفها بالإسلامية أو الدينية هي التي قامت في عهد صاحب الدعوة، حيث اتحدت السلطات زمنية ودينية في شخص الحاكم، على نحو الدولة المسيحية في العصور الوسطى، وعلى نحو دولة النبي (ص) الذي جمع بيده كل السلطات صغيرة كانت أو كبيرة مدنية كانت أم دينية، هذا مع التجاوز في وصفها بالدولة، لأنها بالأحرى كانت تجمعاً قبلياً رئاسياً. ترأس فيه قبيلة بعينها بقية القبائل وتؤلف بينها تحت راية العقيدة الإسلامية.
زمن محمد علي استقلت مصر الحديثة عن الخلافة وأبقت على العلاقة معها رمزياً وإسمياً، وشكلت دولة بالمفهوم المعاصر الغربي الحديث، فلم يضعف شأنها بل تمكنت من تكوين قوة دفعتها لاحتلال محيطها رغم أنها ترتبط مع هذا المحيط برابطة الدين، فقامت باحتلال السودان وقمع المهدية، وقمعت الوهابية في جزيرة العرب، ثم تحولت إلى احتلال ممتلكات الإمبراطورية العثمانية حتى دخلت بلاد العثمانيين (تركيا)، ولولا تحالف دول الغرب ضد مصر في موقعة نفارين بالجزر اليونانية حفاظاً من الغرب على تركيا، وإعادة محمد علي إلى حدوده داخل مصر، لالتهم محمد علي تركيا وربما ما هو أبعد من تركيا. وتم هذا كله خلال عشر سنوات فقط عندما استقلت مصر عن الخلافة، وهو ما يؤدي إلى نتيجة واضحة لا ينتطح بشأنها عنزتان وهي أن الخلافة كانت هي سر تخلف مصر، وبعدما عادت مصر حرة مستقلة في شكل دولة وطنية حديثة جاءت نكسة استيلاء غفر يوليو على السلطة الذين كانوا جميعا أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين، لم يفعل الحكام الوطنيون بحكم مرجعيتهم الدينية فعل محمد علي بالإتجاه نحو أوروبا وكما نصح طه حسين العميد العبقري، إنما اتجهوا نحو نوع من الخلافة الجديدة، كل منهم يعين نفسه خليفة أو تعينه الظروف ويعطيه شعبة البيعة، عندها إنهار الشأن المصري والعربي كله إلى ما وصل إليه اليوم من وضع مهين.
الملحوظة المهمة بهذا السياق هو أن غياب الخلافة لم يؤد إلى غياب الإسلام ولا إلى تراجعه، ففي قرننا الحادي والعشرين حيث لا إمبراطوريات ولا خليفة في أي مكان ولا أهل حل وعقد ولا والي ولا محتسب ولا جزية، ومع ذلك فالإسلام قائم على قوائم صلبة وعلى خير وجه، والمسلمون الركع السجود تجاوزوا المليار، وهو ما كان يخطر لصاحب الدعوة نفسه ولا للفاتحين الأوائل، ناهيك عن كون هؤلاء المسلمين أمسوا يعرفوا كل شئون دينهم بدقائق تفاصيله عبر أجهزة الإعلام وسيطرة الفكر الديني على كل شئون حياتنا، بينما لم يكن يعلم خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص وهم يفتحون بلادنا من دينهم سوى بضع آيات يستخدمونها في أداء طقوس الصلاة، مع مجموعة شديدة البساطة من الأوامر والنواهي.
وبعد سقوط الخلافة تزايد عدد المسلمين بالداخلين فيه قادمين من أديان أخرى دون فتح ولا غزو ولا غنم ولا سبي ولا ذبح ولا سلخ. إن غياب الخلافة لم يؤثر على ديننا بل كان غيابها هو الفعل الموجب العظيم لصالح الإسلام الحنيف.
وربما كان أهم ما بقى من إنجازات محمد علي هو ما بقى منه وهو استقلال مصر كدولة معاصرة عن الخلافة ونظمها، وظلت مصر دولة لها نظمها وجهازها الهرمي التراتبي الإداري، ماكينة تدور على محور وروابط الوطن والمواطنة، حتى بدأت المباراة بين الجماعات المتأسلمة وبين الحكام الوطنيين على من يتمكن منهم إثبات وضعة للدين في ذروة الروابط الاجتماعية المصرية، نعم لازالت الماكينة تدور، ولكن بناقص 12 مليون مواطن مسيحي، ومليون مواطن ملل ونحل أخرى، تدور لكن إلى الخلف، ومثل هذا العبث لا يلحق الضرر بالدولة وحدها إنما هو يلحق الهوان بمجتمع بكامله. ولو ظل الدين والمذهب فوق سلم الروابط فستتحول العراق إلى مجموعة دول، وتنقسم الجزائر إلى دولتين أمازيغية وعربية، ومصر إلى ثلاث دول نوبية وقبطية وعربية .. وهكذا.
بينما عندما يكون أعلى الروابط هو جغرافيا الوطن وحدوده ووحدة هذا التراب وعشقه والإيمان به فوق كل معبود ومقدس، عندما يكون الوطن محراب قدسنا الذي نمارس فيه حب الوطن والجماعة، لن يكون هناك مجرد هاجس أو شاغل بتفكك الأمة المصرية أو غيرها لجماعاتها الأولية كما هو الحال عندما نضع الدين على سلم الأولويات الرابطة للمجتمع، ولأن الدين لم يكن هو الذي وحد تلك الدول القديمة العريقة في الحضارة تحت حكم الخلافة الإسلامية، إنما هو الطموح السياسي والمادي في الاحتلال والسلب والنهب وممارسة كل أنواع الظلم. وهو الأمر الذي لا يستمر أبداً، لأن الإمبراطوريات هي توحيد قسري لأوطان تاريخية لها نظامها المجتمعي والاقتصادي وشكلها الجغرافي وحدودها، لذلك ما تفككت إمبراطورية في التاريخ إلا لتعود الأوطان لشكلها الأول، وما قامت إمبراطورية إلا وتفككت لأنها قامت على القهر والشوكة والغلبة، ولم يشغلها ربط المجتمع ببعضه بقدر ما شغلها استعباد الروح والضمير في طاعة مطلقة بتحجبها وراء الدين، فعندما ينفرط رابط الإمبراطورية التي قامت على القهر تعود الحدود إلى أصلها بمجتمعها وخصائصه وشخصيته، فهي عودة الشيء إلى أصله، بل أن الإمبراطورية الإسلامية ذاتها كانت تضع ولاتها في الأقاليم حسب تقسيم هذه الأقاليم التاريخي الجغرافي الأول قبل فتحها. وهو الأمر الذي لم يشر إليه الدكتور من قريب أو بعيد، كما لو كنا قد وجدنا وخلقنا دولاً وبشراً من بدء الخليقة ونحن جزء مدمج غير محدد بل على المشاع في دولة الخلافة، وهو ما أباح له أن يلقي بتصريحه الثقيل، وهو أن دولنا المستقلة الحالية هي ولادات قيصرية قسرية مشوهة. فكأننا، قبل الخلافة، لم نكن أبداً!! ولم نوجد أبداً.
إن الدين الإسلامي حمل في داخله مبررات تفكك إمبراطورية، فقد انطبع الإسلام بجغرافية منشأة في جزيرة العرب، حيث الصحراء لا تعطي الحد الأدنى للحياة. ويعيش العرب حياة بدائية أقرب إلى الإنسان الأول منة إلى الإنسان صانع الحضارات، في شكل قبائل متحركة دوماً وراء الكلأ والعشب وعيون أو برك ومستنقعات الماء بالأحرى، حيث أي شيء يتحرك قابل للأكل في بيئة شحيحة ضنينة، بيئة لا تعرف ما هو الوطن ولا يكلفها أحد فوق طاقتها مما لا تعلم أصلاً، فالقبيلة المتحركة ليس لها وطن وإنما وطنها مستبطن داخلها وهو ما يسمى بالحمى، وهو شيء معنوي يربط أفراد القبيلة بعضهم بعضا بشكل متين، وعادة ما كان الحمى رمزاً لسلف القبيلة البعيد الذي تم تأهيله كرب خاص بالقبيلة يتحرك معها أينما تحركت، ومع حركة القبائل عالة على الطبيعة تبحث عن طعام أو ماء جاهز، فإنها تدخل في صراع صفري مع القبائل الأخرى يكون حتماً نهاية أحد الطرفين إما بالإبادة التامة والاستيلاء على ما يملك، أو استسلام طرف لآخر ليدخلوا عبيداً في مجتمع القبيلة المنتصرة. لذلك كان النسب هو الحمى الظاهر الملموس المسموع، لذلك حرص العرب ولازالوا على عدم اختلاط الأنساب حتى بين العرب فهم قبائل تعتز كل منها بنسبها فهو عزها وفخرها وشرفها، يتحرك معها يحميها من غوائل الطبيعة أو القبائل الأخرى لأنه الحمى. لذلك عندما جاء الإسلام لم ينشغل بالمرة بشيء اسمه الدولة الوطن لأنه لم يكن في مجتمع يعرف بعد معنى كلمة دولة، بينما ركز اهتمامه على أحوال المسلم الشتى من كبيرها كوضع الرجل والمرأة إلى صغيرها كالنظافة الشخصية في أدق تفاصيلها كنظافة المؤخرة بعد التبرز وكيف تكون، وليس هناك شيء عن الدولة ولا الدستور ولا مؤسسات الدولة، لذلك وحتى في ظل دولة الخلافة من بعد، كان العربي يقدم نسبه وقبيلته وأسرته وعشيرته على أي أرض كانت.
ورغم حضور الثقافة البدوية العربية مع الفتوح تركب الإسلام إلى دول الحضارات المجاورة، وأحياناً فرض هذه الثقافة بفرض اللغة التي تحملها مع إبادة اللغات المحلية المحلية لتضيع معها ثقافات تلك المواطن ولا يبقي لها سوى الثقافة العربية وحدها، رغم ذلك فإن رابط الجغرافيا كثيراً ما كان يجد لنفسه وسيلة يثبت بها وجوده، حفاظاً على المجتمع من التفكك والتشظي، لأنه الرابط الذي يجمع الأديان واللغات والعادات والأجناس والمسيحي والشيعي والسني.
والوطن لا يقوم ولا يحدث بقرار، فقد تنازل المصريون مكرهين عن معظم روابط المواطنة الباقية من زمن كانوا دولة حرة قوية، وتصارعوا في شأن الدين لكنهم لم يتصارعوا أبداً على المصرية، فالقبطي والمسلم والنوبي والبهائي والشيعي والسني والأرثوذكسي والإنجيلي ومن بقى بها من يهود، كل منهم يتمسك بهذه المصرية، فإذا قدمنا الدين على سلم الروابط خاصة مع دين كالإسلام الذي ظهر في بيئة بدوية مفككة، نكون قد قمنا ببدونة المجتمع وأعدناه إلى المنطق القبلي، نكون قد زرعنا فيه بذور التفكيك لا التجمع أو الجماعية التي يركز عليها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح كل التركيز كحل خلاصي. فيترك الشاب المتفوق علمه وحاجة وطنه إليه ليذهب متخفياً لينتحر في العراق عند باب كنيسة أو حسينية من أجل ما قالوا له أنه قبيلته الصحيحة ونسبة المتين وأهلة الحقيقيين الذين سيعيش معهم في الأبدية الفردوسية، أو لينتحر في البوسنة أو الشيشان أو كشمير أو أفغانستان عند بقية أفخاذ القبيلة المتشظية، وهي كلها ليست وطناً بأي معنى من المعاني، إنه يموت من أجل القبيلة، وحمى القبيلة ورمز القبيلة ونسب القبيلة ذلك النسب الذي كان ربها وحاميها. إنه ينتحر من أجل المعنوي الذي بدأ نسباً وحمى ورباً قبلياً، وفي الإسلام أصبح رباً للمسلمين والعالمين، معنى لا علاقة له بأرض ولا بتاريخ ولا بلغة، له معنى يرتبط بقبيلة المسلمين الكبرى في أي صقع كان وفي أي بلاد تعيش.
مرة أخرى أعود فأؤكد أن عامل المصلحة والمنفعة هو الذي يقف وراء ترشيح رابطة بعينة ليكون أعلى الروابط الاجتماعية، ولنضرب لذلك مثلاً واضحاً قائماً فاعلاً هو الوهابية في العربية السعودية، حيث نجد ظاهرة غريبة وجديدة في تاريخ المذاهب الإسلامية إذ لا يضع المذهب الوهابي نفسه على طاولة مستديرة تضم كل المذاهب الإسلامية كما هو واقع الحال مع كل المذاهب على قدم المساواة ولا يقبل حتى بطاولة مستطيلة يجلس هو على رأسها، إنما هو يصنع لنفسه طاولة خاصة يعطيها رتبة تعلو فوق اتحاد روابط المجتمع كلها بما فيها الإسلام نفسه، لا يجلس عليها أحد غيره.
ابتدع ابن عبد الوهاب مذهباً ينكر غيره من مذاهب ولا يعتبرها في رتبته أبداً، ثم جعل لنفسه مجموعة خاصة دون بقية المسلمين هي فقط الفرقة الناجية والمسلمون الصحاح الباقون على الدين الإسلامي الصحيح، وغيرهم كافر. ثم انفصل بجماعته عن بقية المجتمع، وهو نفس ما تقوم به جماعة الإخوان المسلمين عندما تسلخ عن المجتمع الأم مجتمعاً خاصاً بها يعلو فوق المجتمع الأم. لم يعجبهم الإسلام على حاله فخرجوا على الجماعة المسلمة، وما كانت حملة إبراهيم باشا ابن محمد علي التي جردها على الوهابيين بجزيرة العرب حتى أسقط عاصمتها الدرعية، إلا مطبقة لشرع الله ضد الخارجين على جماعة المسلمين، ثم عادت الوهابية بعد عودة الجيوش المصرية لبلادها، بالتحالف مع ابن سعود لتصعد مرة أخرى، لأن الإسلام على حاله لم يحقق لهم المنافع كما ينبغي، فاخترعوا لهم مذهباً يحقق لهم ما يريدون وأعلنوا أن هذه هو الإسلام الصحيح وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح.
ما فعله المذهب الوهابي مع المسلمين أنه تركهم بإسلامهم غير الصحيح وقام يصوغ لنفسه ديناً جديداً، فالدين وحده هو ما يمكنه أن يقصي بقية الأديان ويعتبر أتباعها كفاراً لأنهم لا يؤمنون به، أما المذهب فيجلس على الطاولة المستديرة للدين الواحد مثله مثل بقية االمذاهب، قد يتشاحنون، قد يقتتلون أحياناً، لكنهم جميعاً لا يبارحون طاولة الإسلام المستديرة، بينما اعتبر الوهابيون أن مذهبهم هو وحده كل الإسلام وهو وحده الإسلام الصحيح مما يعني أن غيرها غير ذلك. وهكذا عندما لم يتمكن ابن عبد الوهاب بالإسلام الموجود لدى الجميع من تحقيق أغراضه، انقلب عليه من الداخل وسلخ منه، واقتطع جزءاً من المجتمع جعلهم سادة جدد للمجتمع لأنهم الأتباع للدين الجديد الذي مهمته هي السيادة وإصلاح شأن المسلمين بإدخالهم جميعاً حظيرته، فيظهر المذهب كالثقب الأسود ليلتهم من بعد كل ما حوله بما فيه الدين الأم.
إذن فالرابطة الإسلامية التي يصر عليها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بطول موضوعة كرابطة أساس تليق بثقافتنا وهي الكفيلة بتقدمنا، كانت على عكس ما يراه الدكتور ويريد منا الإيمان به والمنافحة عنه بما قدم مما رآه براهين على وجهة نظره، كانت سبباً في تخلف وجهل وفقر ومرض عم الإمبراطورية كلها.
واللطيف في المسألة أن دكتورنا لا يلتفت إلي أن الرابطة الإسلامية لم تكن هي التي أقامت إمبراطورية الخلافة، لأن الناس في البلاد المفتوحة ظلوا على أديانهم وفضلوا دفع الجزية إلى ما يزيد عن قرنين من الزمان، وظل باق منهم نسب كبيرة من السكان حتى اليوم، مما يعني أن سكان الإمبراطورية كان تسعون بالمائة منهم من غير المسلمين حتى زمن العباسيين، وظل هذا الرقم يتناقص ببطء، ومن ثم لم يكن الدين هنا عاملاً في قيام الإمبراطورية إلا بأوامره بالغزو والفتح لنشر دين الله، ولعودة منافع الغزو على العرب فيئا ومغانم وسبايا وعبيد. ظل السكان قروناً طويلة يقاومون الأسلمة، لأن جماعتهم تشكلت قبل ظهور الإسلام بقرون متطاولة في عمق التاريخ الإنساني القديم، لأن الجماعة البشرية في المفهوم الإنساني وليس الإسلامي هي الأسبق في الوجود من الأديان السماوية الثلاث، وكان كل رسول تبعث به السماء إلى جماعته أو أمته خاصة إلا محمداً الذي بعث للبشرية كافة. إذن حيث لا توجد جماعة لا يوجد أنبياء ولا مرسلين لأن مقصد الرسل هو الإنسان وليس الجبال ولا الأرض ولا حتى السماء نفسها.
إنهم يقيمون نظرتهم إلى المواطن الإسلامية حيثما يقيم المسلمون، حتى لو أقام مسلم واحد في بلد أصبح هذا بلداً إسلامياً، وهوشأن لا يعلنونه لأنه سيكون مرفوضاً من كل العالم على إجماع.
***
والدكتور سيف، وهو( أستاذ علم السياسة بجامعة القاهرة ومسؤول عن عقول أبنائنا) إذ يرشح نظام الخلافة الإسلامية كنظام أو حد يناسبنا وكفيل بحل كل مشاكلنا، لا يلتفت إلى أن الإمبراطوريات لا تنشأ بالدعوة وبالكتابة في إسلام أو ن لاين ولا برغبة الدكتور، وإنما تقوم على الغلبة ووسيلتها الأولى والأخيرة تقوم علي القوة المسلحة. فالشعوب لا تخضعها القناعات والحوارات، فمن أراد إحياء الخلافة فعليه أن يفعل كما فعل بنو أمية بالقهر والغلبة وحد السيف، فلا يعرف التاريخ أن شعباً خضع لشعب بغير السيف. وحديثه عن الدول شبه المستقلة التي كانت في كنف دولة الخلافة باسم (الكيانات) تحقيراً وتصغيراً، رغم أنهم هم من أبدع أي شيء ينسبه العرب اليوم لمكتشفاتهم ومعارفهم. لم يكن للعرب في هذا الإبداع شيء يمكن وضعه في نسبة وتناسب مع ما أنتجه غير العرب. كانوا كلهم على الجملة مع استثناءات تعد على أقل من أصابع اليد الواحدة، فارسيون أو مصريون أو عراقيون أو شوام أو مغاربة، واخترع الفارسيون لأنفسهم مذهباً يستقلون به عن العرب وإسلامهم، فتشيعوا من باب الإحتفاظ بالهوية والتي دعموها بالحفاظ على لغتهم. وعندما كان الدين هو أو ل الروابط، كان كل من يريد الانفصال يعمل لنفسه ديناً جديداً باسم مذهبي جديد، لأن الرابط الوطني قد تم تذويبه تحت سلطان الخلافة، فانقسمت شتاتاً، ومع كل اختلاف يعملوا فرقة جديدة بمذهب جديد وهكذا دواليك. والسبب الرئيسي لهذه الانشقاقات هو وضع الخلافة للدين الإسلامي كأول رابط في سلم الروابط الإجتماعية، فعما بن عبد الوهاب وهابية وانفصل، وغيرة عمل شيعة وانفصل، وغيرة عمل إخوان مسلمين واستولى على السلطة وانفصل، عمل قاعدة وأنفصل عن العالم كله بما فيه المسلمين بأفغانستان. المهم أن التاريخ يؤكد لنا أن الصدام كان حتمياً بين هذه الفرق، لأن هذه الفرق لم تكن أكرم من صحابة النبي الذين سبق وتصارعوا على الدنيا باستخدام الدين. وهنا لابد أن يقفز السؤال: أي مذهب سيكون مذهب الخلافة؟ وماذا سيكون مصير سائر المذاهب؟ وهل عندما تستقل دولة مسلمة بأرضها بمذهب مخالف لمذهب الخلافة كالصوفية مثلا، هل سيكونون كفاراً مارقين، وماذا عن الرافضة؟ أم ستحتويهم تعددية الدكتور سيف داخل خلافة المذهب السني وحده، والذي تبلور جميعه اليوم في المذهب الوهابي وحده، في مختلف أصقاع بلاد المسلمين وحواضرهم.
وإعمالا لهذا كله نصل إلى نتيجة هي أن إنزال الدين من على قمة سلم الروابط الاجتماعية هو تكريم له وتنزيه له ورفع يد العبث عنه، وجعله بمنأى عن الاستخدام الانتهازي في صراع يضر بالمسلمين وبدينهم، لقد أنزلت السيدة عائشة زوج النبي الدين من درجته الأولى كرابط اجتماعي عندما حرضت على عثمان وعندما شقت عصى الطاعة على الخليفة الشرعي، فلماذا لا نتأسى بها؟ لقد انزل الصحابة بقيادة محمد ابن أبي بكر الدين من على سلم أوليات سلم الروابط وقاموا بثورتهم ضد خليفة ديكتاتور، لقد أنزل علي بن أبي طالب الدين من علم قمته عندما حارب السيدة عائشة بل وأمر رجاله بعقر جملها وهي فوقه في هودجها، من أجل سلامة بقية المؤمنين. فهلا تأسينا بهؤلاء الصحابة الكرام؟
الملحوظة الهامة في كلام الدكتور سيف أنه يخلط بين معنيين لا يختلطان؛ فهو يكرر الخلط بين مفهومي الدولة والأمة التي هي جماعة المجتمع، كما في قوله مثلاً أن الدولة العثمانية حققت جامعية الأمة، أو كما يقول إن مفهوم الدولة القومية قد انعكس سلباً على مفهوم الأمة الإسلامية. وهو ما يتطلب التساؤل حول قيمة الدرجات العلمية في بلادنا مع الاستفسار الساذج: توجد في فرنسا الآن جالية مسلمة، فهل هي جماعة مستقلة أم طائفة ضمن دولة؟ إن الدولة تشمل عدة جماعات منها الأسرة والعائلة الكبيرة والمسلم والمسيحي واليهودي أو صاحب أي دين آخر أو بدون وكذلك الأسود والأبيض، وتشكل هذه الجماعات الأمة، والمجتمع بهذا المعنى هو من يشكل نفسه بمجموع هذه الوحدات ليصبح وحدة سياسية كبرى هي الدولة، ثم وحدة سياسية أكبر هي الإمبراطورية التي تشكلها القوة العسكرية قبل أي عامل آخر. أما الدولة فإنها تقام عن قصد وغرض وتخطيط إن سلماً أو حرباً، لتوحيد الجماعات المتقاربة بروابط متفق عليها في منظومة سياسية مركزية، يكون سبب ما بين جماعتها من تماسك حتى ولو بالحرب، هو الجغرافيا الجامعة لهم. والدين الإسلامي عندما وصل كانت الجماعات موجودة من الأصل في جزيرة العرب، ولم تكن لهم دولة توحدهم بينما كان في الجوار منهم دول أعلام يزورونها ويتاجرون معها ويعرفون بأمرها، كان العرب موجودين كمجتمع قائم، فأقام لهم الإسلام دولة عن قصد وتخطيط، أو بالأحرى شبه دولة. الأمة تستمر في الزمن لأنها تتكون من جماعات تشكل مجتمعاً لا يموت ولا يستحدث من عدم ولا يتم صنعه، فالإسلام لم يخلق المجتمع لأن المجتمع كان موجوداً، كل ما حدث أن الإسلام جاء فبدل في وضع الروابط الاجتماعية على سلمها، وجعل من نفسه الرابطة الأولى المفترض إن تكون على سلم اهتمامات المسلم.
وحتى اليوم تجد الأمة المصرية هي هي من زمن مينا، تغيرت لغتها ودينها وظلت مصرية، فالمجتمع يحتفظ بتلقائيته بحد أدنى من الروابط حتى يمكنه الاستمرار في الوجود عبر متغيرات الزمان، العيد الوحيد الذي يشارك فيه كل المجتمع بكافة طوائفه وفرقه ودياناته ومذاهبه هو “شم النسيم” الذي يعود للعصور الفرعونية. وهو احتفال عريق ببداية الحياة على الأرض، كذلك استبقى المصري ألفاظاً مصرية تصل في بعض الأماكن كالفيوم والصعيد وسيوة وغيرها إلى نسبة 20 % في المعجم العامي المصري، كذلك احتفظ المصري بقواعد النحو القديمة وطبقها على اللغة العربية فأصبح للعامية المصرية نحوها الخاص بها، وعادة ما يكتفي المصري بزوجة واحدة كما كان يفعل أسلافه، ولا تتزوج الأرملة المصرية عادة، بينما تزوج النبي محمد (ص) ما ينوف على عشر ثيبات معظمهن أرامل، حتى التقاليد المعتادة ظلت منذ العصور الفرعونية حتى اليوم.
بينما مهدي عاكف زعيم الإخوان يقول: “طز في مصر وأبو مصر واللي في مصر”، ولا يعيبه، بل هو يفخر بأن يحكمه ماليزي عن أن يحكمه مصري غير مسلم. لقد ضاع الوطن والمواطنة وأصبحوا على استعداد لتسليمه لأي أجنبي شرط أن يكون مسلماً على أن يحكم الوطن مصري غير مسلم؟!
لقد حكموا على طلعت السادات لأنه أهان القوات المسلحة المصرية بسنة سجن، ومن أهان مصر كلها لم تتم محاكمته حتى الآن .. لعل المانع خير يا حكومة؟! ألا يوجد في مصر كلها محام واحد محترم يرفع قضية على هذا الرجل كما يرفعون القضايا على المفكرين والكتاب.
مصر زمن محمد علي كانت قد تأكدت وتيقنت ان رابطة الدين أدت إلى تخلفها، فأعلت رابطة الوطن والمواطنة وأعطت الدين درجة ثالثة في سلم الرابطة الاجتماعية، لأنها رأت ذلك في مصلحتها. ومثلها اليوم دول الخليج أنشأوا ناديا للأغنياء لا علاقة له ببقية المسلمين، وتضع في ناديها هذا (مجلس التعاون) مصالحها الوطنية في المقدمة ولا تضع الدين رغم وجود السعودية حيث جغرافيا الإسلام وتاريخه، كأكبر الأعضاء في هذا النادي.
ثم ماذا لو رفضت دول الخليج الخلافة التي يدعونا إليها الدكتور سيف، والمؤكد أنها سوف ترفضها، بدليل أن ناديهم الخاص بهم للأغنياء فقط له عائد وثمار تعود عليهم فقط. فهل ستقبل السعودية مثلاً إن تخلط ميزانيتها بميزانية مصر المالية، ونحن مستعدون كمصريين أن نبايع جميعاً خليفة سعودي من عندهم. هل تقبل السعودية؟ أم هو كلام لا يثمر ولا ينتج يلقيه علينا الإسلاميون إلقاء دون أي قراءة لواقع اليوم على أرضه، من باب تجييش المجتمع تمهيداً لتفكيكه وانهياره بالكلية.
لو كان رابط الدين بهذه الأهمية التي تعطيه إياه الإخوان والدكتور سيف وكل الإسلاميين، ما حدثت حروب بين الصحابة الأكارم، لو كان الدين هو الأعلى في سلم الروابط ما حدث مجازر لحقت بآل البيت، ولا تطهير عرقي حملت بعدة ألف عذراء من بنات الصحابة في مدينة رسول الله، وما أحرق الصحابة الكعبة، لأنهم كانوا سيتفقون بالتمام والكمال على دينهم الذي لا خلاف حوله، فقد كانوا هم أجلة صحابة النبي ومنهم أهل بدر الذين غفر لهم الله ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، ومنهم العشرة المبشرين بالجنة، ومنهم أمهات المؤمنين، أي القمم الشوامخ لرجال ونساء الإسلام الأوائل الذين لن يجود بمثلهم الزمان مرة أخرى لارتباطهم بزمن النبوة ولا نبي بعدها، ولم تكن هناك مذاهب مفرقة قد ظهرت بعد، وكان الدين واحداُ وكان مفترضاً بحضورهم الزمن النبوي أن يكون تفسيره وفهمه عندهم جميعاً واحد، ومع ذلك قاتل كل منهم الآخر متخذاً من الإسلام الدين الكامل درعاً له ولمصالحة الدنيوية الزائلة.
إن المنفعة كانت هي الأعلى في سلم كل الاهتمامات، والمنفعة الدنيوية المادية المحض، والأكرم لهم القول أنهم حاربوا على الدنيا من أن نقول أنهم يؤمنون بدين واحد ويتحاربون به انتهازياً ونفعاً. كان الدين رابط فقط من باب الإعلان والترويج كشعار جذاب لجلب الزبائن لهذا الفريق أو ذاك.
أما البؤس الذي يعانيه الدكتور سيف وأقرانه من كل فرق التأسلم وتعازيهم المستمرة لسقوط الخلافة العثمانية، فهو ليس فقط غير مفهوم، بل أنه يشي أنهم على استعداد للتضحية بأي شيء حتى لو كان مستقبل الأوطان وخراب العمار ومزيد من التخلف وعودة الظلم والطغيان مقابل عودة الخلافة.
كل هذا ليس بحسبان الذين يألمون اليوم لسقوط هذه الخلافة البشعة بكل المقاييس، لا يشغله البشر المسلمين في كثير أو قليل. لقد جعل العثمانيون كل الإمبراطورية تدفع الجزية غير مسلمين ومسلمين.
يقول الدكتور حسين فوزي النجار في كتابه الإسلام والسياسة (دار المعارف ط 2) أن نظاماً بائساً نشأ مع بدايات الخلافة الإسلامية، حيث كان العرب الفاتحون بمنجاة عن الجباية ومظالمها، وهو ما دفع الشعب المصري إلى اللجوء للعرب فينزلون لهم عن أراضيهم طواعية، ليكفوا عن أنفسهم التعذيب، ولا يكون لهم طبقاً لهذا النظام إلا حصة الزراع في الغلة، وبتوالي السنين تصبح الأرض ملكاً للعربي الملجوء إليه. ويقول بن خلدون وابن الفقيه عن نظام الإلجاء : ” وقد بدأ الإلجاء في عهد الأمويين وامتد إلى أيام العباسيين، وأصبح ما يملكه رجال الدولة والأمراء أضعاف أضعاف ما يملكه عامة الشعب، بينما بلغ ضآلة ما يضرب منه للجباية أقل مما يجبى من الفلاحين المواطنين على قلة أراضيهم وفداحة ما يضرب عليها فتحول الناس إلى أقنان “. ثم يقول لنا الدكتور سيف وبطانته إن الإستعمار الغربي أسقط خلافتنا العظمية وأنشأ في بلادنا احتلالاً استيطانياً، وهو ما يخص فلسطين وحدها فقط كما نعلم، لكن أليس الإلجاء في النهاية هو نظام احتلال استيطاني دفع الناس للتخلص من أرضهم لصالح الغازي الجابي الذي لا يرحم، والذي ظل لا يرحم ولا يعدل ففرض على ما بيد المواطنين من أرض ضئيلة تمسكوا بها، أضعاف أضعاف ما كان يؤخذ جباية من السادة العرب رغم أنهم حازوا معظم الأرض بنظام الإلجاء، في عملية طرد لأصحاب الأرض للإستيلاء عليها بمساندة القانون والشريعة. أم هو حلال للخليفة حرام على الاستعمار الغربي لأنة ليس مسلماً.
أليس ذلك سوء استغلال من السلطة الحاكمة القامعة الظالمة للدين الذي أتت به واستندت إليه لاستنزاف بلادنا. وهل شرع الإسلام للخلافة المقدسة بحق قدسيتها استغلال الشعوب واستيطان أراضيهم بعد طردهم منها. يقول بن الفقية على لسان الفضل بن يحي : ” أصبح الناس أربع طبقات، ملوك قدّمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعُلْية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء لكع ولكاع وربيطة إقناع همّ أحدهم طعامه ونومه “.
فهل هذا هو المجتمع الذي يدعونا إليه الدكتور سيف ويتمنى عودته في ظل خليفة مقدس؟ وفي أى طبقة ترى سيكون موضع الدكتور سيف، وهوبلا حسب عربي معروف ولا نسب قرشي ولا حتى يمني، وليس ابن الأكرمين من الصحابة، إنما هو مصري وضعه الطبيعي والشرعي القانوني بين الموالي، وستكون نساءه جميعاً تحت حق السبي في اى وقت تضعف فيه الخلافة، لتغزونا خلافة أخرى تطبق السبي والاستعباد والقتل، ألا يرى الدكتور وأقرانه إلى أين يذهبون بنا وبأنفسهم؟
ألا يرى الدكتور سيف غرائب التاريخ في بلادنا؟ ألا يرى أن أهل الجزيرة أنفسهم هم من ساعد بذراع طويلة في إسقاط الخلافة بالتحالف مع الإنجليز، مع وعد بتمليك العرب على كل ما يتم تحريره من الخلافة، فأصبح فيصل ملكاً في العراق والأمير حسين على مكة والحجاز ثم أعطوه بعدها الأردن. أليس من مدهشات التاريخ أن البلاد التي خرجت جيوشها لتقيم أو ل خلافة في القرن السادس الميلادي، هي ذات البلاد التي خرجت منها الجيوش في القرن العشرين لتدك عرش آخر خلافة وتقيم دولاً مستقلة. ولمزيد من الإدهاش يفاجئنا التاريخ أن من هدم تلك الخلافة هم من صلب جماعة المسلمين الأولى، فهم من نسل القرشيين الأشراف، هم كما في حال أشراف مكة الذين حكموا ملوكاً على دول مستقلة بعد إسقاطهم الخلافة، في العراق والأردن ومكة والحجاز. إن أصحاب الخلافة وأبناء الخلافة وصانعي الخلافة هم من دكوا الخلافة بحسابات المصالح للإستقلال عن الخلافة.
والملحوظ الواضح أن استقلال الدول الإسلامية عن التبعية لدول الخلافة لم يتسبب بأي ضرر للدين الإسلامي، لأن هذه الدول المستقلة هي التي حافظت على بقاء الإسلام ديناً قوياً متواجداً، يشهد على ذلك أزهر مصر وزيتونة تونس وقيروان المغرب ونجف العراق وقم إيران. ثم يشهد بأعلى الصوت رجال الأزهر ودكاترته الذين تم بعثهم إلى جزيرة العرب ليعلموا أهلها الإسلام ويعيدوا تثقيفهم به.
كانت الكسوة الشريفة تخرج من دار الكسوة المصرية بأبرع فن يدوي إسلامي من نوع خاص ونادر بين فنون العالم، وأوقاف الحرمين، والتكية، إنها مصر المستقلة التي تحب الإسلام لكنها أيضاً تحب الحرية، ومن الحرية أنها سترفض دفع الجزية مرة أخرى لدولة أخرى، ولن تأخذ الجزية من مواطنيها، إن مصر دولة قومية استقلت بعد سنوات طوال من موقعة مرج دابق التي هُزم فيها المصريون أمام العثمانيون، ولم تكن مرج دابق حرباً في سبيل الدين ولا غزواً في سبيل الله، لقد كانت استعماراً تركيا جاء يطلب عرقنا ويمتص دماءنا في شكل خراج وجزية.
-3-
يقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في دراسته عن سبب الرفض الإسلامي للدولة الوطنية القومية المعاصرة التي نتابع مناقشتها هنا: “إنه من البداية نؤكد على أن معنى الجماعية أو الجماعة في مفهوم الأمة الإسلامية غير نافية للتعدد وغير مانعة من انضواء عقائد أخرى، أو ما استقر على تسميته بغير المسلمين في الدولة الإسلامية. ومن المهم أن التصور الإسلامي للمعمورة قام على قاعدة دار الإسلام، تحكمهم قواعد نظام عام واحد وتجمعهم قبلة واحدة، ومن ثم كان التعدد في ذلك الوقت يعني خروجاً عن الأصل الذي أقره الفقهاء”.
كلام واضح ومحدد، لكن بعين متأنية يمكنك أن تكتشف داخل هذه الكلمات القليلة الكثير من الفخاخ اللفظية باستخدام ألفاظ ذات دلالات محددة بعينها لتدل على معان ومقاصد بعكس الدلالات الأصلية في اللفظة، لأن اللفظ هو ابن التاريخ وابن الواقع الذي يعطيه المعنى والدلالة. ومثل تلك الفخاخ والمتاهات اللفظية أصبحت سمة في الخطاب الأصولي والديني عموماً. تعالوا نفهم ما كتب مرة أخرى في تأكيده على مفهوم الجماعية (الجماعة) في مفهوم (الأمة الإسلامية)، لنجد أستاذ علم السياسة بيقول أي كلام في أي حديت، وأنه يستخدم الألفاظ بغير مدلولاتها عن قصد ورغبة اعتادوها في خطابهم على الناس، حتى باتت تلك الألفاظ تحمل دلالاتها المشيخية وأغراضها الدينية بشكل معتاد، حتى أمست تبدو حقيقة بينما يتم استخدامها للدلالة على أشد الأمور بطلاناً، بل للدلالة على مدلولات غير موجودة أصلاً.
والفخ الواضح لكل ذي عينين إعلانهم القبول بالتعدد داخل الجماعة المسلمة السياسية حتى لو كان تعدداً عقدياً، ولا تفهم كيف ستنضوي عقائد كالمسيحية أو اليهودية تحت عنوان (الجماعة المسلمة)، خاصة مع اعترافه الواضح أنه خلال الأزمنة السوالف التي يطلق عليها عبارة (في ذلك الوقت)، كان التصور الإسلامي للمعمورة يقوم على قاعدة دار الإسلام ودار الكفر أو ديار السلام وديار الحرب، وأن ديار الإسلام لم تقبل فقهياً بالتعددية في ذلك الوقت (الذي لم يحدد لنا أين بدايته وأين نهايته) لأنها كانت تعد كما قال خروجاً على الأصل الذي هو : قواعد إسلامية واحدة وقبلة واحدة.
وهكذا يبدأ الدكتور سيف زمن المعاصرة ليحدثنا بلغة الحداثة دون أن يحدد لنا بوضوح زمن انتهاء القديم الذي لم يكن يسمح بالتعدد، وزمن بداية الجديد الذي سيسمح بالتعدد، ولماذا يسمح اليوم بالتعدد؟ هل تغير الفقه؟ أم تم إلغاؤه؟ أم تغيرت القبلة الواحدة؟ أم تغير المسلمون؟ وإذا كانوا قد تغيروا فهل معني ذلك أن القديم المقدس كان هو الخطأ؟
إن مفهوم دار الإسلام وهي دار السلام، ودار الكفر وهي دار الحرب، مفاهيم إسلامية ظرفية ظهرت زمن قوة العرب، وهي القوة التي حضرت في التاريخ نتيجة ضعف القوى الأخرى في محيط الجزيرة الجغرافي، فتمكنوا من الغزو والإحتلال وانتزاع الأرض من أصحابها بحجة إيمانية لا منطقية، وهي أن أصحاب الأرض كفار لا يحق لهم الامتلاك ولا الحكم ولا حتى الحياة إلا بشروط الغازي العربي.
واليوم لا يملك العرب ولا المسلمون جميعاً تلك المقومات التي أدت لظهور مفهوم دار الحرب والسلام، لأنهما كانا نتيجة مقدمات لم تعد متوفرة اليوم لتؤدي إلى تلك النتائج. إن العصر الحديث جاء بمفاهيم بديلة هي دار الحداثة ودار التخلف، أو دار العلم ودار الجهل، أو دار العافية ودار المرض، أو دار المنهج العلمي في التفكير ودار الأساطير، أو دار الحرية ودار الاستبداد، أو دار الجمال النفسي والسلوكي ودار القبح على كل المستويات. إن الدولة بالمعنى الحديث، وبالمعنى القديم الما قبل إسلامي، قبل أن يحتلها العرب، هي الدولة القطرية ذات الحدود الواضحة دولياً وإقليمياً يعيش فيها مجتمع متعدد الثقافات والأعراف والألوان، لأنه من المستحيل علمياً القول بمجتمع من عرق واحد ذا ثقافة واحدة. و المجتمع بأرضه وحدوده وعروقة المتعددة وأديانه المتباينة هو ما يسمى دولة قومية أو وطنية قطرية، لكن الإسلاميين يرفضون مثل هذا التعريف للدولة، بل هم يرفضون معنى الدولة ذاته. وإزاء ما ينشأ من تناقض حاد بين المفهومين الإسلامي والمحدث الذي فرض نفسه على العالم حتى توارى المفهوم الإسلامي لأمة خلافة كبرى، وأصبح من الماضي. يحاول هنا الفلاسفة الجدد للتيار المتأسلم استعادة المفهوم الإسلامي القديم بصبغة حديثة يزعمون أنها ستراعى التعدد بداخلها ثقافات أو أعراق أو ديانات.
إن المغالطة هنا تظل نوعاً من التلبيس الذي ينسبونه هم إلى إبليس حتى أنه تجسد بيننا وعشش في عقولنا وأصبح للمسلمين سيداً في شكل جماعات إسلامية. وسنجد هنا تلبيساً بارعاً ومخاتلة مدروسة ومصاغة في قوالب معاصرة يسهل لها التسلل إلى العقل المعاصر والتعامل معه بالأساليب المحدثة، لتمرير القديم إليه وفق شكل يبدو حداثيا مقنعاً ومنطقياً وهو أبعد ما يكون عن ذلك. لو كان هدفهم الإسلام ما سلكوا مسالك الشيطان وسبلة التي بين أيدينا هنا بأقلامهم.
أول تلبيس هو في تقديمه مفهوم الجماعة الإسلامية كما لو كان أمراً متفقاً عليه ومنتهياً كمقدمة ينتقل بعدها إلى النتائج التي يريدها، بينما تعريف الجماعة الذي يدل على هويتها لا يتم إلا بالجماعة نفسها، فالجماعة هي التي تقرر شكل وصفة أعضائها وهويتها، فتقرر من ينتمي إليها ومن ليس عضواً فيها.
والجماعة الإنسانية ابتداء من أبسط صورها هي (الأسرة) التي تقوم بتعريف نفسها ابتداء، ثم مجموع الأسر الذي كان في تاريخه القديم يشكل القبيلة البدوية، وكانت بدورها هي من يقرر إن كان هذا الشخص عضواً فيها من عدمه. وكان قصد القبيلة المتبدية من صنعها لنفسها تعريفها المعنوي والمادي، هو حماية كيان الجماعة وهويتها. لذلك لم تكن تسمح لغريب عنها أن يخترق حدودها التي توافقت عليها سواء كانت تلك الحدود معنوية أو مادية. لأنها ببساطة لا تملك أرضاً ولا تستقر في مكان واحد.
وبسبيل تقوية ذاتها تقوم بدعم كلي للجانب المعنوي فتعلم أفرادها الإعتزاز بالنسب والأصل والسلف الذي هو إعتزاز بالنفس والذات التي يعبر عنها هذا النسب المتصل. وكان هذا الاعتزاز يصل إلى حد عبادة الأسلاف من باب تقوية التماسك بين أعضاء الجماعة. لذلك كان البدو يحفظون أنسابهم حفظاً لبقاء الجماعة وعدم ذوبانها في غيرها, أو ضعف الولاء والإنتماء بشكل يهدد وحدتها وتماسكها فتنحل وتضعف وتفقد قوتها إزاء جماعات أخرى, وهو ما يعني فقدانها لسيادتها وكرامتها، وهو ما كان يؤدي في الأزمنة السوالف إلى استعباد أفرادها من قبل آخرين، وأجلى صورة لهذا الشكل للجماعة كان في جزيرة العرب في الزمن الما قبل إسلامي وإلى أجل طويل بعده يستمر حتى اليوم في القرن الحادي والعشرين، ولأن الجماعة البدائية البدوية لم تكن تعرف الوطن وحدوده، لأنها لم تكن تعرف الاستقرار، وتعتمد بالكلية على عطاء الطبيعة العشوائي المتنقل والمتقطع لصحراويته، فقد استمر هذا الشكل من الجماعات الإنسانية لمدة أطول عن نظيره في المجتمعات النهرية, التي انتقلت من مرحلة الصيد المرتحل والسعي وراء خيرات الطبيعة, إلى اكتشاف الزراعة ومن ثم الإستقرار فالتمدن، فعرفت معنى الوطن وحدوده وهويته مبكراً بالقياس على حياة البداوة التي استمر فيها الإنسان عالة على الطبيعة، مرتحلاً دوماً وراء عيون الماء والكلأ فلم تعرف الجماعة البدوية معنى الوطن، لذلك كان تركيزها وتأكيدها الشديد على الجانب المعنوي : النسب والثقافة وأطلقوا على ذلك إصطلاح (الحمى) الذي يتحرك معهم أينما كانوا في حمى الأسلاف الأرباب الذين ينتسبون إليهم, كمقابل لاصطلاح المواطنة في البلاد الخصيبة النهرية. وهكذا كان أخطر ما يمكن أن تتعرض له الجماعة البدوية هو الغزو الثقافي والعدوان المعنوي، لذلك كانت تصد ذلك بشدة وقسوة إذا ما وجدت أحد أفرادها لا يسلك بموجب ما اعتادت تقاليدها المتوارثة عليه منذ وجدوا آباءهم وأجدادهم، وهو ما يشكل هوية الجماعة القبلية. فالحمى من ثقافة وعادات وتقاليد ونسب في بيئة ندرة شحيحة هو السبيل الوحيد لحماية القبيلة وشخصيتها المستقلة، وهو ذات الموقف الذي يتخذه المتأسلمون من ثقافات عالم اليوم كحفرية حية لزمن أصبح من الماضي البدائي العتيق.
وعندما كانت القبيلة تتعرض لعدوان ثقافي شديد، كانت تضطر أحياناً للتنازل عن بعض محددات الحمى مع الإبقاء على حدود دنيا من محددات هويتها القديمة حتى لا تذوب في غيرها. والأمة هي الجماعة البشرية الأكبر عدداً، والتي تضم قبائل وعشائر وأفخاذ وبطون توافقت على الحدود الدنيا بينها وقبلت بها محددات لهويتها.
وللتوضيح (مع بعض التجاوز) يمكن القول أن النوبيين مثلاً هم أمة قبلت نتيجة للغزو العربي بالإسلام ديناً وباللغة العربية، لكنها احتفظت بلغتها الخاصة إلي جوار العربية، وبكثير من عادات الأجداد وتقاليدهم حرصاً على هويتها لذلك بقيت مستمرة حتى اليوم.
والأكراد أمة والأمازيغ والترك والفرس أمم غزاها العرب المسلمون، لكن كل منها احتفظ بمحددات تميزه، فمثلاً اختار الفرس المذهب الشيعي محدداً مميزاً واحتفظوا بلغتهم لإظهار شخصيتها وهويتها المستقلة.
وفي مصر تمسك المصريون بقواعد لغتهم المصرية القديمة نحواً وصرفاً وتكلموا العربية وفق قواعدهم الخاصة منشئين العامية المصرية، واحتفظوا بآلاف المفردات من زمن الأجداد في مصر القديمة، وبكثير من العادات والتقاليد والاحتفاليات الخاصة بهم وحدهم كشم النسيم وسبوع المولود وأربعين الموتى وأكل الفسيخ في الأعياد والتقويم القبطي للزرع والحصد، حفاظاً على هويتها من الضياع. وكان ذلك يتم من قبل أبناء الأمة بشكل ميكانيكي تلقائي رغم محاولات الطمس المقصود من الغزاة العرب لهويات الأمم المفتوحة جغرافياً وثقافياً. وما أن خف الضغط بسقوط الخلافة حتى استعادت معظم هذه الأمم هويتها وحدودها الجغرافية منذ مينا الفرعون الأول في مصر أو منذ سرجون الثاني في العراق.
وإعمالاً لما سلف نصل إلى نتيجة صنعها التاريخ، وهو أن الجماعة الإنسانية لا تنشأ بقرار كما يرى الدكتور سيف عبد الفتاح وأهل بيته الأيديولوجي من الإسلاميين، ولا كما يريدون، الجماعة لا تنشأ بإرادة فرد ولا بقرار جماعة كالإخوان المسلمين ولا حتى بظهور دين بعينه، وإلا اختفت باختفاء الفرد المنشئ لها أو الدين الذي قامت عليه.
وليبان ذلك كمثال قبيلة قريش صاحبة الدين الإسلامي ذاتها، كانت جماعة بشرية قائمة قبل الإسلام عندما كانت مكة معقلاً للوثنية، وظلت قائمة عندما أسلم بعضها وظل أغلبها مشركاً، وظلت قائمة بعد أن أسلمت جميعاً. وحافظ الإسلام على استقلالية قريش وهويتها عندما قال: “جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، وبالحديث النبوي: “الإمامة في قريش”. وعليه فإن الإسلام كدين (بغض النظر عن سيرة الصحابة والفاتحين فهم بشر لهم ما للبشر وعليهم ما على البشر)، الإسلام لم يأت ليهدم المجتمعات البشرية بقرار سيادي كما يريد أنصار عودة الإمبراطورية الإسلامية، بل هو يحترم هويات الأمم والشعوب بل وحتى القبائل.
نعود إلى تلبيس إبليس، فنجد تلبيساً في التعريفات والمفاهيم، فالأمة والجماعة والمجتمع شأن سابق على ظهور الأديان، فمصر كمجتمع وأمة كانت موجودة قبل موسى ويوسف ويسوع ومحمد وغيرهم، ولم ينشئها أحد منهم، ولم يتم نسبتها إلى أي منهم، وإلا كنا نسبناها بالأحرى إلى موحد القطرين مينا فقلنا مصر الميناوية مثلاً، قياساً على الشكل القبلي للدول الأموية والعباسية والطولونية والإخشيدية والحمدانية..إلخ.
وقد أدرك العربان مبكراً أن الإسلام لا يشكل أمة ولا ينشىء دولة، لذلك نسبوا الدول إلى أنفسهم وحتى اليوم كما في السعودية مركز الإسلام ومنبعه ومالك جغرافيته وتاريخه، فلم يتم نسبة البلاد للإسلام بل لإبن سعود. كالمسلك القبلي القديم بالإنتساب إلى الأجداد والنسب والحمى.
وعليه فإن تعبير (الأمة الإسلامية) تعبير بلا مفهوم وبلا تاريخ في أشتات بقاع الأرض، بالمعنى القبلي القديم المنتسب إلى ثقافة واحدة، رغم تشرذم المسلمين في كل الأرض من أمريكا حتى الصين، كل منهم ينتمي إلى أمة اجتماعية معروفة ومعرفة من قبل ظهور الأديان، لأن الأديان ظهرت في الأمم والأمم هي الأصل والأساس، هي حاضن الأديان وليس العكس كما يحب الدكتور سيف وجماعته الذين يضعون العربة أمام الحصان، ويريدون أيضاً نسخ القرآن “وجعلناكم قبائل وشعوباً لتعارفوا”.
إن الدكتور سيف ورفاق دربه يستخدمون المصطلحات لغير مدلولاتها بقصد خدمة هدف واحد هو كرسي الحكم، ويخلطون المجتمعات المختلفة بمعنى الأمة الواحدة ذات المجتمع الواحد مصبوغة بالإسلام كموحد للمجتمعات المختلفة والأمم المختلفة والدول المختلفة، بما لا يفي في النهاية باستنتاج علمي واحد سليم.
إن مصطلح (الأمة الإسلامية) إذن هو تعريف ديني وليس تعريفاً اجتماعياً أو سياسياً ومن ثم فهو غير منشئ للدولة التي هي اجتماع وسياسة. إن الأمة المنشئة للدولة يلزم أن تكون في حيز جغرافي واحد، وأن تكون ذات منشأ طبيعي لا صناعي مكتسب، وأن هذا المنشأ الطبيعي قد استغرق في تكوينه قروناً متطاولة بعملية تدريبية تطورية دون أية ضغوط أو غزو أو فتح، وروابط الأمة هي اقتصادية أمنية اجتماعية تصب جميعاً في نفع الجماعة، مما ينشأ عنه توافق في العادات والتقاليد تتيح للفرد حرية الإنتقال داخل أمته والتزاوج بين أفرادها بسهولة دون إجبار أو ضغوط.
الأمة الفارسية كانت أمة قبل الإسلام ومعه وكانت قبل الإسلام تشكل إمبراطورية خضع لها الشام ومصر وأمم أخرى، وظلت أمة إمبراطورية في شكل سياسي. ومثلها الأمة المصرية وغيرها. هم أمم اجتماعية المنشأ بشكل طبيعي بروابط أنشأتها الجماعة لتطور طبيعي لنمو المجتمع، وليس بفعل جيوش ضاغطة أو إمبراطوريات حاكمة.
إن مصطلح الأمة الإسلامية هو شئ بلا معنى، هو من لغو الكلام وخلل التفكير وغياب أبسط آليات التفكير المنطقي البسيطة.
هذا ناهيك عن خطأ التعريف (الدولة الإسلامية) من الأساس. فالدولة عبر تاريخها القديم الابتدائي الأول كانت دولة دينية فعلاً، لأن ذلك كان يناسب ظرفها الابتدائي الأول، لأنها كانت وثنية، والوثنية كانت تعني توافق المجتمع على آلهة بعينها تتفق مع بيئاتهم وظروفهم، فتجد مصر مثلاً تقدس سوبك التمساح لوجوده في نيلهم بوفرة، بينما بدو الجزيرة يقدسون الخروف، ومصر تقدس من ظواهر الطبيعة أعظمها الشمس لدورها الهام في نضوج المحصول ودورتها الفصلية في البذار والحصاد، بينما بدو الجزيرة كانوا يقدسون القمر لدوره في إضاءة ليل الصحراء المقفر الموحش، كانت الأمم تصنع أربابها بنفسها لنفسها بما يوافق جغرافيتها ومصالحها وطريقة تفكيرها ومتطلبات عيشها، كذلك لم يحدث أن وقع صراع اجتماعي في المجتمعات الوثنية بسبب الدين، لأن الدين كان من إبداعهم على التوافق بينهم، أما الأديان الكبرى كاليهودية والمسيحية والإسلام المنسوبة إلى رب كوني فإنها ذات طابع صراعي لأنها لا تجيز اعتراف بعضها ببعض، فلا يمكن وصف الدولة ذات الأديان الكبرى المتعددة بأحد هذه الأديان وإلا وقع الصراع بين أطراف هذا المجتمع، صراعاً لا زال يطل برأسه كل يوم حتى اليوم في بلادنا. لأن تلك الأديان لم يتم التوافق الإجتماعي والتواضع الشعبي عليها، وليست بنت بيئته الوطن التي يتشارك فيها جميع المواطنين، إنما هي جاءت جميعاً من خارج الحدود وتم فرضها فرضاً على مختلف الأمم المفتوحة.
ومع دين الإسلام نجد أن هناك رباً واحداً، ونبياً واحداً، وكتاباً مقدساً واحداً، ومع ذلك لا نستطيع أسلمة المجتمع أو الدولة ووصفها بالإسلامية إذ ستتفاقم المشاكل المجتمعية، كنتيجة لعدم إجماع المسلمين أنفسهم، واختلافهم في شئون ليست من البسائط الهينات، بل هي من العظائم الكارثيات، اختلفوا حول الله وصفاته وشب بينهم الخلاف والتكفير وما يتبعه من الإقصاء والموت والتدمير، حتى تكاد تجد في الإسلام أكثر من رب، عندما تطالع الفرق والمذاهب وكيف ترى رأيها في هذا الرب الذي كان في البدء واحداً فعدده المسلمون وتفرقوا حول آلهة شتى لا تلتقي أبداً، مع إصرار كل فريق على صحة وجهة نظره مابين منزهة ومشبهة ومعطلة ومرجئة وجبرية فأصبحوا مللا ونحلا.
لن تجد تعريفاً واحداً فقط للإله متفق عليه بين هذه الفرق رغم أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، فقد صار له أكثر من وصف وتعريف لدى كل فرقة، واختلفوا حول القرآن الواحد فصارت له تفاسير تتضارب بالكلية ولا تلتقي بحال، وقال بعضهم بالنسخ في الوحي كما قرر القرآن، وأنكره آخرون، وبعضهم احتسب المتشابه محكماً وآخرون احتسبوا المحكم متشابهاً، ولم يجمعوا على آيتين، ويحدثوننا عن إجماعهم وإجماع المسلمين على ضرورة قيام الدولة الإسلامية الواحدة الجامعة كحل لهوان المسلمين وضعفهم، بينما الأصل لهذه الدولة المنتظرة الذي هو (الإسلامية) لم يتفق المسلمون حول مفرداته وتفاصيله بل اختلفوا حتى بادت فرق بكاملها بحد السيف، وما بقى منهم في زماننا يبيدون بعضهم بالمتفجرات الحديثة وبالصواريخ عندما تحين الفرصة وتتهيأ الظروف. لم يختلف الوثنيون لأنهم من صنعوا آلهتهم بأيديهم وأقاموا إمبراطوريات عظمى هي درر تاج التاريخ الإنساني، بينما أبناء الدين الواحد والكتاب الواحد والرب الواحد يقتلون بعضهم بعضا على أدق التفاصيل، ويريدون إنشاء الأمة الإسلامية الجامعة !!! من أول وجديد !!!. لقد ركب العرب الإسلام عندما جاءوا لفتح بلادنا بقيم العرب لا بقيم الإسلام، وبعادات العرب وليس بآيات القرآن، فظلوا قبائل. وسرت عدوى القبلية إلى الشعوب المفتوحة المتماسكة كدول وأمم من فجر التاريخ فكانت النتيجة ان تفكك تعارفهم وانحلت مجتمعاتهم.
إن الإسلام لم يأت لينشئ دولة، ولا ليقيم إميراطوريات، ولا علاقة له بالوحدة والتعدد الاجتماعي، ولم يعرف أصلاً معنى كلمة دولة، وكانت الدولة عنده هي تداول الأزمان والأشياء اى تحركها وتبدلها ” وتلك الأيام نداولها بين الناس ” ليس أكثر. ومع ذلك يتقدم فلاسفة التيار الإسلامي المعاصر بلا وجل، ليستخدموا مصطلحات الآخرين بحسبانها مصطلحات إسلامية. ويحدثوننا عن شئ ليس في مرجعهم المقدس أي بيان بشأنه، ويحدوثوننا عن الدولة رغم وصف أنفسهم بالإسلاميين، أي المتميزين بخلق الإسلام عن غيرهم من فاقديه، لكنك لا تجد هذا الخلق واضحاً لديهم، لأن استخدام ألفاظ غريبة على الإسلام بحسبانها ألفاظاً إسلامية ذات دلالة إسلامية كالدولة، هو تزوير وتدليس وغش للمسلمين والإسلام. ولا يحق لأحد أن يعبث بمنتج شعب آخر فهذا جرم قبيح فالدولة ليست منجزاً إسلامياً. واستخدام مصطلح دولة يجب أن يعود لأصحابه، سواء مصطلح الدولة في التاريخ القديم، أو مصطلح الدولة في المفاهيم الحديثة والمعاصرة، لكن الدكتور سيف يلبس علينا مصطلح الدولة كما لبس علينا مصطلح الجماعة. أليس أستاذا في فن السياسة؟
***
إن الدولة القديمة ذات الدين الوثني والتي كان شعبها هو من يضع دينه لنفسه ويشكل تفاصيله حسب مصالحه، ويصور آلهته حسب ثقافته وتصوراته وأخيلته التي حددتها له بيئته، والتي كان شعبها هو من يضع لنفسه عاداته وتقاليده بنفس الطريقة، وألوان مأكله ومشربه وملبسه وعلاقاته بمجتمعه وبغيره، والتي كان شعبها هو من يبتكر لنفسه أساليب التواصل بآلهته وكيفية العبادة، وهو من يحدد مطالبه من هذه الآلهة، تشكل هذا المجتمع منذ فجر التاريخ اجتماعياً وطبيعياً في شكل دولة واحدة تضم أمة واحدة، فإن توسعت فلتشكل إمبراطورية. وضمن هذه الإمبراطورية تظل الشعوب محتفظة بهويتها الاجتماعية والدينية دون قسر أو فرض، فكان الخضوع قبل الإسلام قاصراً على الخضوع الإداري والسياسي فقط.
وفي العصر الحديث تكرر ظهور الإمبراطوريات على النسق القديم ذاته، كما حدث مع الإمبراطورية الإنجليزية التي لا تغيب عنها الشمس، والفرنسية والأسبانية في العصر الصناعي. ودولة الفتوحات العربية ضمت بدورها أمماً عدة كان العرب والمسلمون فيها أقليات، ضمت الخلافة الأمة المصرية والفارسية والعراقية والشامية والكردية وجزءاً من المغولية، وظلت تلك الأمم محتفظة بهويتها فترة حتى بدء القسر بالتغول في الجباية وفرض اللغة العربية في الأمصار، ومع الفقر والإفقار والمذلة وعهد الذمة العمري، بدأ أبناء هذه البلاد يدخلون إلى الإسلام هرباً من جباية لا يستطيعونها فانتشر الإسلام محدثاً التضارب بين هذه الأمم وليس الذوبان، فهو ما لا يستطيعه دين من الأديان، لأنه ضد الطبيعة وضد سير التاريخ وضد النظام الإجتماعي نفسه.
والدولة الواحدة قد يتكون شعبها من امة واحدة أو من عدة أمم أو جزء من أمة، فالاتحاد السوفياتي كان أمماً عديدة جمعتها ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، وعندما تغيرت الظروف تفكك الاتحاد السوفياتي وعادت الأمم للظهور وهو ما حدث من قبل للإمبراطورية الإسلامية عندما تفككت فعادت الأمم الأصيلة للظهور مرة أخرى. بل أن الإسلام لم يتمكن من إذابة الصورة الاجتماعية الأصغر (القبيلة) التي هي أبسط من الأمة، فظلت القبائل العربية بطول التاريخ الإسلامي قائمة متواجدة دون ذوبان أو إندماج. النتيجة أن هناك قبائل اعتنقت الإسلام، وشعوباً اعتنقت الإسلام، وأمماً اعتنقت الإسلام، وظل كل منها محتفظ بهويته حتى اليوم.
ومن ثم فلا توجد علاقة بين الأمة والدولة، فقد تكون الأمة ضمن أمم أخرى عديدة داخله في تشكيل عدة دول كالأمة الكردية والأمة التركية والأمة المغولية. وقد تتكون الدولة من جزء من أمة أو امة بكاملها أو عدة أمم كاملة، لكنهم عندما يكونون ضمن دولة واحدة فإن الدولة في هذه الحال تحكم شعباً واحداً متعدد الأمم والأعراف والأديان، فالدولة تشكيل سياسي متنوع الأعراق والأديان كما كانت إمبراطورية العرب التي تخيروا لها اسم دولة الخلافة، بينما هي كانت إمبراطورية حلت محل إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم نتيجة سقوطهما حسب حركة التاريخ التي لم تؤد إلى سقوط الأديان أو انتهاء الأمم والمجتمعات.
هذا بينما يقدم لنا الفلاسفة المتأسلمون تعريفاً لشئ اسمه “الأمة الإسلامية”، وهو تعريف ديني بحت لا هو اجتماعي ولا هو سياسي ومن ثم هو لا ينشئ دولاً. لأن الأمة المنشئة للدولة يلزم أن يكون لها حيز جغرافي واضح واحد، وذات منشأ طبيعي تدريجي تم خلال آلاف السنين دون ضغوط عسكرية غزواً أو فتحاً، وذات روابط اقتصادية وأمنية وعلاقات اجتماعية تتمثل في توافقها على مجموعة عادات وتقاليد ونظم، تتيح لأفرادها حرية الإنتقال داخله آمنه والتزاوج بين أفرادها بسهولة، بينما حتى اليوم لا تتيح تقاليد الجزيرة مثلاً زواج البنت لمسلم غير سعودي من أمة أخرى، بل أحياناً لا يجوز ذلك ما بين قبيلة وأخرى، فلا زالت حتى الآن قبائل، حتى الآن لم يشكلوا دولة بالمعنى الحديث بعد.
لذلك إذا دخلت الأمم المتكونة طبيعياً بشكل قسري داخل إمبراطوريات أو دعاة أديان، فإنها سرعان ما تعود إلى أصولها الطبيعية عند زوال عوامل الضغط والإرغام.
وإعمالاً لكل هذا فإن مصطلح (الأمة الإسلامية) هو مصطلح بلا معنى ولا وجود له، فهو بلا معنى سياسي ولا معنى اجتماعي، كل ما يعنيه هو الإشارة إلى مجموع المؤمنين بالإسلام المتفرقين أشتاتاً في بقاع الأرض جميعاً.
أما إذا كان المقصود باصطلاح الأمة الإسلامية هو دعوة تقوم على حق تاريخي بإقامة دولة الخلافة المقبورة وإحيائها من مرقدها، فهو ما يعنى إعطاء الحق بالمثل للمطالبة بإحياء الإمبراطورية الفارسية والإمبراطوريات الإستعمارية الحديثة من بريطانية وفرنسية وأسبانية، وعودة الصراع العسكري سيفاً وفتحاً ومغانم بين تلك الإمبراطوريات وبعضها، كما يعني وجوب السكوت التام عن قيام دولة إسرائيل بالمرة ودون أن ننبس ببنت شفة؟!
ثم أننا إن أردنا إعادة دولة الخلافة فعلينا أن نفهم أن الشعوب لن تخضع بالحوار والقناعات، فجزيرة العرب لم تخضع لابن سعود بالحوار والقناعات، ومن أراد إعادة الإمبراطورية الخلافية فعليه أن يفعل فعل بني أمية وبني العباس وبني عثمان بالقهر والغلبة وأنهار الدماء. فالتاريخ لا يعرف شعوباً خضعت لغيرها بدون العنف والقوة، وهو اليوم ما سيصطدم بمعادلة القوة والضعف، والتي نحن فيها الطرف الأضعف بين العالمين. لذلك فإن ما يكتبه الدكتور سيف ورفاقه لا يزيد في الواقع عن كونه لوناً من العهن المنفوش والمخيال الإسلامي المدقع فقرا. خاصة وأن الدولة لم تكن إطلاقاً من صلب الدين الإسلامي، لأنها لو كانت من الدين ما تصارع الصحابة فيما بينهم ذبحاً وقتلاً على الحكم، ولاكتسب حاكم الدولة هيبة الدين المؤسس لها، ولما جرؤ الصحابة على قتل الخليفة عثمان، لأن ذلك كان سيعد خروجاً على الدين ومروقاً من الإيمان ولكان معاوية خارجاً على الدين منكراً لمعلوم من الدين بالضرورة، ولكانت خلافته ودولته مناهضة للدين وضد مبادئه ولا يصح وصفها بالإسلامية، والإسلاميون هم من يصفون تلك الخلافة بالإسلامية وليس أحد غيرهم.
ولأن الدولة والحكومة نظام سياسي إداري وليس دينياً تصارعت دولة علي بن أبي طالب وحكومته مع دولة معاوية وحكومته، صراعاً سياسياً إدارياً لا دينياً، وإلا كان احدهما كافراً خارجاً عن الدين، وكلاهما صحابي يعلم حقيقة الإسلام والدين، وأنه ليس فيه حكومة ولا دولة، لذلك تصارعاً دون خشية رب العالمين أو غضبه.
كما أن واقع المسلمين اتجه من بعد إلى تعدد الكيانات السياسية التي حكمت المسلمين على التزامن والتجاور، فإن كان الإسلام دين ودولة لكان هناك تعددية دينية مواكبة لهذا التعدد السياسي. وكانت البداية بخلافة عباسية في بغداد وخلافة أموية في الأندلس، ولكل منها شعب تحكمه، وأمم تخضع لها، فإذا كان الإسلام ينشئ أمه فهل كان هناك أمتان إسلاميتان متباينتان إسلاماً؟ ثم بعدما تفتت الإمبراطورية إلى كيانات تغلب استندت إلى شوكتها وغلبتها وقدرتها على الإستيلاء على السلطة، وظلت تحت ما أسموه خضوعا إسميا للخلافة، مثل الطولونية والحمدانية والإخشيدية والأيوبية هل كانت تلك الكيانات مسلمة أم كافرة؟ وهل أصبح الدين الإسلامي ديانات بعدد تلك الدول شبة المستقلة عن الخلافة؟ أم أن الإسلام واحد ولا علاقة له بالدولة أو بالدول العديدة، لأن الدين شئ والدولة شئ آخر. إن شعار الإسلام دين ودولة شعار كاذب، وهو أول ما يكذب فإنه يكذب على ديننا وإسلامنا، وتكذبه أو ل ما تكذبه أحداث الفتنة الكبرى بين كبار صحابة رسول الله، فعلي بن أبي طالب كان الصحابي الذي كرم الله وجهة، وابن عباس هو حبر الأمة وراويها الأكبر عن رسول الإسلام، ومعاوية كان كاتب الوحي، وهم من عرفوا الإسلام من رسوله مباشرة، وكلهم تصارع على السلطة والدولة والأموال دون أن يأثم واحد منهم دينيا. إن الدولة القومية القطرية التي يرفضها المتأسلمون كانت دولة علي بن أبي طالب في العراق وارتضاها العراقيون لأنفسهم، وكانت دولة معاوية بن أبي سفيان في بلاد الشام وارتضاها الشوام لأنفسهم، وحافظ كلا الشعبين قدر استطاعته على دولته التي ارتضاها لنفسه وساندوها حتى حققت نصرها، فكانت لها السيطرة على الأخرى ثم التمكن من إخضاع أمم أخرى بالسيف وحده. وعندما تمكنت الأمم والقوميات من الاستقلال عن دولة الخلافة في كيانات خاصة، فعلت ذلك وإن ظلت ترتبط بالخلافة إسمياً ورمزياً، وإيغالاً في الخصوصية اتبعت هذه الأمم مذاهب دينية خاصة بها لتؤكد استقلالية هويتها وتميزها عن غيرها من أمم تتبع الخلافة. فرجع الشئ لأصله ووضعه الطبيعي السابق على الإحتلال العربي.
لقد ارتضت الشعوب لنفسها دين الإسلام لكنها في الوقت ذاته رفضت الخضوع لغير بني جلدتها من حكام بالشكل الذي يطمس هويتها، ويقضي على شخصيتها بين الأمم، واستمرت هذه الأمم تناضل حتى استعادت هويتها كما هو حالها اليوم.
حتى مهبط الوحي ومركز الإسلام الجغرافي والتاريخ جزيرة العرب، إدراكاً من أهلها أنهم أمة تتميز بخصوصيتها عن الأمم المجاورة اختارت لنفسها اسماً يدل على هويتها فأصبحت المملكة العربية السعودية، ولم تتخذ اسم دولة الخلافة الإسلامية، ولم تقرن باسمها لفظ الإسلام أو الإسلامية، لقناعة الوهابيين الداخلية وهم أكثر المسلمين تشدداً بأن الدولة لا علاقة لها بالدين. إن ما يسمونه شعوبية وتفتت لأمة الخلافة إن هو إلا عودة إلى الدولة القومية الأولى الطبيعية، إلى ما قبل الاحتلال العربي وقيام إمبراطورية العرب، كما حدث لكل الإمبراطوريات. وأن انتصار العرب زمن الفتوحات لا يعطيهم حقاً أبدياً في استعمار وحكم البلاد التي فتحوها بالقوة والغلبة.
لقد قامت الخلافة بالقوة وانهارت بنفس الطريقة كغيرها من إمبراطوريات. أيضاً بالقوة. فالأمم تريد هويتها وحرياتها وشخصياتها المميزة، وترفض المذلة والاستعباد لغيرها، إلا قلة من أبنائها يجدون في الدعوة للعودة إلى العبودية لأنفسهم مكاناً بين السادة في حلمهم بالخلافة العائدة، غير مدركين أنهم موالي، وأنهم فئ ومغنم للسادة كبقية أبناء الأمم المفتوحة.
ومن غرائب دعاة الأسلمة تباكيهم على سقوط الإمبراطورية العثمانية وتفكك دولة الخلافة وظهور الدول القومية، وهو ما يصنعه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بقوله: “إن هذه المرحلة تميزت بالولادة القسرية والشائهة لما أسمى بالدولة القومية في العالم الإسلامي”. وما أحدثته هذه النشأة المشوهة والقسرية للدولة القومية من ميراث من المشاكل الممتد في داخلها.. وأن هذا السقوط والتفكك والولادة القسرية الشائهة للدولة القومية كان بفعل الإستعمار الغربي الذي عمد إلى إضعاف الخلافة وإسقاطها لتفتيت المسلمين إلى دول وكيانات ضعيفة.
إن الرد على الزعم بأن تفتت دولة الخلافة يعود إلى المستعمر الغربي واتفاقات سايكس بيكو وغيره مما يزعمون، لابد أن يعيدنا إلى تذكر أن الإمبراطورية العثمانية عندما قامت كان قيامها بقوة السيف والجيوش، ولم تصبح مصر ولاية عثمانية إلا بعد هزيمة جيش المماليك في موقعة مرج دابق، وكانت بين جيشين : جيش يريد ان يحمي تراب الوطن واستقلاله، وجيش يريد احتلاله والسيطرة عليه. ونتيجة للهزيمة العسكرية وليس لقناعات دينية بإقامة إمبراطورية خلافة إسلامية، تم ضم مصر قسراً لتلك الإمبراطورية، وتم استنزاف ثرواتها وكرامتها إلى حد قياسي، مع إهمال تام لشئون البلاد والعباد، حتى تحولت مصر إلى دولة من العبيد المعزولين عن العالم والحضارة. حتى نجح محمد علي في تحقيق الاستقلال بينما انهارت الخلافة نتيجة ضعفها وتخلفها وتفككها من داخلها، وهو منهج التاريخ الذي سبق وسقطت بموجبه إمبراطورية فارس وإمبراطورية الروم لتحل محلها إمبراطورية العرب، التي ضعفت ووهنت في الزمن العثماني وهو ما ادى إلى إحتلالها من الدول الأوروبية ولم يكن الإستعمار الغربي هو السبب بل كان هو النتيجة لذلك.
والملحظ الواضح فيما يصر الدكتور سيف والفقهاء على استعادته، أقصد مفهوم (دار السلم ودار الحرب)، انه إصرار ضد أصل قرآني مقدس هو (عالمية الإسلام) التي تنفي مصطلح (غير المسلمين أو ديار الحرب) لأنه بموجب تلك العالمية لابد أن نفترض أن دار الإسلام هي العالم أجمع، ويترتب على هذا القول : إن أمام المسلمين مرحلتين، الأولى هي توحيد الأمة في دولة خلافة يحكمها قانون ونظام عام واحد وقبلة واحدة، تليها مرحلة ثانية هي توحيد باقي العالم حول القبلة الواحدة وتحت راية واحدة ليحكمه خليفة واحد، وفي مثل هذه الدولة العالمية يجب أن يطبق مجلس الأمن الشريعة الإسلامية، وأن يحل أهل الحل والعقد محل هيئة الأمم المتحدة، وأن يحل الأزهر الشريف محل يونسكو، وان يحل فقه الجهاد محل اتفاقات جينيف، وأن يحل بنك فيصل الإسلامي محل البنك الدولي، وأن يسمى العالم بالقرية الإسلامية بدلاً من القرية الكونية. إن كلاماً مثل ذلك لابد ان يترتب عليه كلاماً مثل هذا، وهو أقرب إلى العبث الكاريكاتوري منه إلى الحق والمنطق. وبينما يرى دكتور العلوم السياسية وأضرابه أننا نتعرض لغزو ثقافي غربي ويطالبونا بالوعي لرده وردعه، يرى مواطنون آخرون صادقوا الإيمان بدينهم وبوطنهم وبالتقدم والحداثة، أن الإتصال بالغرب المتقدم هو ضروري وحتمي إذا أردنا البقاء، ويجب أن نسعى لهذا الإتصال والتواصل وأن نعمقه، لأن هذا الغرب المكروه هو مصدر العلم والتكنولوجيا والكشوف والاختراع والإبداع، هو قلب العالم وعقله وعضلاته، هو التقدم والحداثة باختصار، هو السبيل إلى بقائنا في الوجود إن أردنا البقاء، فليعملوا بمبدأ : ومن نكد الدنيا على الحر عدو ما من صداقته بد، وحتى لو فكرنا بعقلية سلفية، فإنه ما لم نعزز اتصالنا بالغرب فمن أين سيأتي إنتحاريونا بالمتفجرات لصنع المفخخات لنقتل بعضنا بعضا لخلاف ديني ومذهبي وعرقي؟ ونستورد من هذا الغرب كل علوم الطب وأجهزته الإلكترونية، دون أن نتمكن نحن من اكتشاف سر الشفاء في بول الناقة ولا المادة الفعالة فيه.
إن القول بأن دولنا المستقلة اليوم تحكمها حكومات تابعة للغرب، لا يرى أن من اكتشف لنا بترولنا في صحراوتنا القواحل هو الغرب، وان ما بأيدينا من أدوات الحضارة جاءنا من عندهم، بل ان تجديد وحفظ مقدسنا وإعادة طبعه ونشره كان بفضل هذا الغرب. ومع إدراك بعض مشايخنا لهذا المعنى قاموا يربطون مقدسنا بتلك الحضارة فيما يعرف بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وهو كله ما يعنى أنه بدون التواصل والإتصال مع الغرب ما كنا سنحافظ على مقدسنا بشكل لائق، ولا كنا سنعرف المعاني العلمية الحقيقية لقرآننا وسنتنا، ولاستحال علينا أداء فريضة الحج إلى مكة القديمة العتيقة الضيقة ذات المنشأ القبلي الخيموي الذي لا يعرف معماراً، فالغرب هو من علمنا كيف نعمرها وأمدنا بالكريستال السويسري والرخام الإيطالي وما صحبة من هندسات كفرية، لتوسعة ديارنا المقدسة، وكذلك عرفنا مواقيت الصلاة والصيام بدقة أينما كنا، وأصبح بإمكان المسلم أن يحمل مؤذناً خاصة بجيبه في برنامج تليفونه، وأن يجد البوصلة الخاصة بتحديد القبلة مدمجة بسجادة الصلاة التي صنعتها له اليابان الشنتوية والصين الشيوعية والبوذية والكنفوشيوسية وبقية البلاد الطاغوتية، فيسر لنا تقدم العلم عندهم طرق تعبدنا وتواصلنا مع إسلامنا ومقدساتنا.
-4-
إن الحق الواضح فيما قال أستاذ العلوم السياسية الدكتور سيف الدين عبد الفتاح هو تركيزه على أن الدولة القومية في بلاد الغرب كانت جامعة موحدة، بينما هي في العالم الإسلامي نتيجة تفكك الوحدة الجامعة (الخلافة) إلى كيانات أصغرمما خلق ميراثاً من المشاكل.
لكن الدكتور وهويسوق هذا الحق يلبسه علينا أكثر من تلبيس، لأنه لم يقل لقارئه المسلم الطيب المستسلم له أن الدولة القومية في أوروبا نتجت حديثا بتجمع لدويلات وإمارات صغيرة متجاورة، بينما الدولة القومية الوطنية المستقلة في بلادنا كانت أسبق في الوجود من كل الدول ومن كل الإمبراطوريات، وأنه مع الفتح الإسلامى تم جمع هذه الدول القومية المستقلة قسرا تحت دولة الخلافة، ونتيجة هذا القسر بدأت تفككها ونبيها الذي جمعها على سرير المرض الأخير، بظهور المتنبئين والمرتدين.
لم يقل د. سيف أن دولنا القومية الوطنية عادت إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال العربي ، لأنها كانت أسبق في الوجود من هذا الاحتلال بألوف السنين وكانت أعلى تحضراً وأعمق قيمه، وأن جمعها تحت ظل الخلافة كان مأساة تاريخية لشعوب متحضرة عظيمة، كان كارثة إنسانية انتكست بالحضارة في البلاد المفتوحة إلى البداوة، كارثة صحبها تطهير عرقي وديني وجرائم في حق الإنسانية ، ستظل لطخة عار في الجبين الإنساني حتى يعترف عرب الجزيرة ويعتذروا اعتذارا تاريخيا يسمعه العالم كله، بعد أن آلت معهم مصرنا وكل أمصار حضارات حوض المتوسط الشرقي إلى ما هي عليه الآن، وبين تلك الحضارات القديمة وبين وضعها الآن… شتان!!
هذا بينما الدكتور سيف لا يرى سوى دولة الخلافة حلاً سحرياً لواقعنا المتردي، ولو سألناه عن السبب فإنه يجيب قائلاً: “جاءت الدولة العثمانية لتشكل نموذجاً في تحقيق جامعية الأمة حتى لو أتاحت التعدد داخلها، ولكن ذلك لم يكن على نمط إقرار التعدد المتغلب وإمارات الإستيلاء والإرتباط الاسمي الرمزي بالكيان المركزي للخلافة العباسية ولكنه يعني نظم هذه الكيانات من خلال حروب جمعت تلك الكيانات في منظومة الخلافة العثمانية، فاتجهت بالأساس لتكوين جامعة إسلامية، ثم انطلقت بعد ذلك فاتحة أجزاء من أوروبا”.
لأن الدكتور سيف باعاً وذراعاً مع الخلافة، ولأن الدولة القومية (مصر) ليست في قاموسه بالمرة، فإنه لا يلتفت إلى أن الدولة العثمانية لم تكن تفتح دولاً نصرانية ولا يهودية ولا وثنية، بل دولاً إسلامية حتى النخاع؟ فلماذا إذن الفتح مرة أخرى؟ ولماذا يسمونه فتحاً؟ كنا أمماً مسلمة مؤمنة مسبحة بالغداوة والعشي، كنا بالضبط مثل أهل الكويت يوم دخل عليهم صدام حسين بلادهم. فالدولة العثمانية لم تأت بشعار الفاتحين الأوائل: “الإسلام أو الجزية أو الحرب”، لكنها جاءت بشعار جديد هو أنه ليس فقط من سيدفع الجزية هم النصارى واليهود، إنما المسلمين أيضاً، لقد جاءت الخلافة العثمانية جابية ولم تأت ناشرة للإسلام، لأننا كنا أسبق منهم إسلاماً. لقد كانت إمبراطورية قاسية استغلت الشعوب أسوأ استغلال وحجبتها عن التطور والتقدم وعمدت عمداً إلى تخلفها قروناً، وهو ما أدى إلى إصابتها جميعاً بفيروس التخلف، فعجزت عن مواكبة عصر النهضة والدخول في منافسة علمية مع أوروبا، فقط اكتفت بجمع الجزية والعبيد والنساء والإنكشارية والمماليك تحت شعار الخلافة المقدس دون مبرر واضح في القرآن أو السنة. فإن كانت الخلافة العثمانية قد شكلت جامعية الأمة كما يقول الدكتور، فهي قد كونت كياناً مريضاً متخلفاً لازالت آثار تخلفه تزلزل العالم حتى اليوم في فتوحات كارثية وغزوات مباركة كغزوتي نيويورك وواشنطن المباركتين.
عاشت الخلافة الخرافات والأساطير وطردت العلم والتحضر حتى قضى عليها تخلفها مقسمة بين أيدي الاستعمار الغربي.
ومن ثم يتابع الدكتور سيف متحسراً على سقوط الخلافة قائلاً: “.. فإن الحقبة العثمانية قد انتهت، وبرزت الحقبة الاستعمارية التي استولت على ميراث الدولة العثمانية، وألغيت الخلافة”.
كعادة الرجل يقول عبارت صادقة لأنها تصف حركة التاريخ بالضبط، لكن على ذات القياس يجب أن نصف حركة التاريخ كله بذات العبارت الصادقة، فنقول: “.. فإن الحقبة الرومانية قد انتهت وبرزت الحقبة العربية التي استولت على ميراث الدولة الرومانية.. وألغيت القيصرية “.
وبذات المعيار الصادق يمكن القول : “فإن الحقبة الفارسية قد انتهت وبرزت الحقبة العربية التي استولت على ميراث الدولة الفارسية .. وألغيت الكسروية”.
وهكذا إلى نهاية الحقب الاستعمارية بقيام الأمم المتحدة لتحرير العالم من أى شئ اسمه استعمار وإدارة العالم بطريقة ديموقراطية لازالت تحتاج إلى المزيد من النضوج. لقد كانت عصور الظلام والاستعمار تعتمد على إقامة الإمبراطوريات لإدراة العالم بالقوة، وبذهاب تلك العصور إلى غير عودة، أفسحت المجال للديموقراطية، فاليوم يتولى الشأن العالمي فكر متحضر وهيئة أمم متحدة وقانون دولي يراعي إنسانية الإنسان ولا يعامله باعتباره مولى أو عبد أو ذمي فقد حريته وشرفه وذاته نتيجة هزيمته في معركة عسكرية. بات للمهزوم اليوم حقوقاً نظمتها مواثيق واتفاقات جنيف الدولية، فله حقوق كاملة ويعامل كإنسان لا يباع ولا يشترى ولا تسبى بناته وتنكح نساءة ولا تصادر أمواله لصالح المنتصر كما كان يحدث في العصور البربرية.
إن العالم اليوم يسير أول خطواته نحوالإنسانية الكاملة لتحقيق الحرية والمساواة والعدل التي كانت أحلاماً عند فلاسفة العصور السوالف ولم يجدوا في زمنهم آليات تحقيق أحلامهم. لقد اهتدى الإنسان المعاصر إلى هذه الآلية وهديها وهداها، فأصبح ضمير العالم يهب لنجدة أخيه الإنسان أياً كان مكانه أو دينه أو لونه أو عرقه بالمعونات والتطبيب والإغاثة في الكوارث. وتتدخل الأمم المتحدة لحل مشكلات العالم حلاً عادلاً وإنسانياً تتوافق عليه الدنيا لكن الإسلاميين لهم في تلك المنظمة رأياً أخر، فميثاق حماس مثلاً يعلن أن هيئة الأمم أنشأها وأقامها اليهود والنصارى بقصد تدمير العالم والاستيلاء عليه بعد تدمير القيم والمبادئ الأخلاقية، ومنظمة القاعدة تدعوها المنظمة الكفرية العالمية، حتى الدكتور سيف الدين عبد الفتاح يرى أن النظام الدولي هو نتيجة وإفرازللحقبة الإستعمارية من أنماط سلوك وسياسات وتفاعل علاقات وأنظمة سميت فيما بعد بالنظام الدولي.
إنهم يهاجمون النظام الدولي لأنه البديل المعاصر الذي أثبت وجوده بعد زوال الإمبراطوريات واحتلال البلاد بالقوة إلى غير رجعة، وهوما يعني تخليهم عن مشروعهم لاحتلال العالم بالخلافة، أو حتى إحتلال بعضهم بعضاً لذات الهدف، فهوما لن يسمح به النظام الدولي. ويعيب الدكتور سيف على مرحلة النظام الدولي استمرار علاقات الدول المستقلة عن الاستعمار بالدول الغربية التي استعمرتها ، وتفجر العلاقات البينية بين الدول المستقلة وبعضها البعض.
وغني عن البيان إن الإنسانية لا زالت بحاجة إلى تطوير أداء الأمم المتحدة، وإصلاح سلبياتها، لكن مثل ذلك النقد لا يصح أن يأتي من أنصار الخلافة والإمبراطوريات المنتصرة لإكتساح العالم، إنما هو النقد الذي يوجهه أنصار الحقوق الإنسانية والحريات في العالم. الدكتور سيف يكرس العيوب في النظام العالمي الدولي الذي تمكن من أن يعيد للكويت ترابها حراً، ولوتم هذا الغزوالصدامي إبان الخلافة العثمانية لتمكن صدام من الإستيلاء على كل الحجاز والجزيرة، كما سبقه إلى ذلك محمد علي برضى من الخلافة وبطلب منها، لأن الخلافة لم تكن ترى أى بأس في العدوان بين شعوبها طالما الجزية ترد إليها كاملة غير منقوصة. وهوالأمر الذي يرفضه الضمير الدولي والنظام العالمي اليوم.
ثم يقول أنه في ظل هذا النظام العالمي استمرت العلاقة بين المستعمرات السابقة ومستعمريها، في حين أن هذه العلاقة هي التي مكنت مصر من حفر قناة السويس ثم تأميمها ثم حماية هذا التأميم يمجلس الأمن الذي رد العدوان الثلاثي وضمنه الاستعمار الإنجليزي الذي كان يحتل مصر قبل استقلالها، وبترول الخليج تم استخراجه واستثماره بناء على علاقة الدول المستقلة بمستعمرها السابق، فبدون عون هؤلاء السادة القدامي ما أمكن للخليج العربي الوصول إلى مستواه الحالي من الرفاهية، ولوركز الخليج على العلاقات البينية العربية ماعرف أن تحت أرضة سوى الأرضين السبع بما قيها من الجن والعفاريت ووادي الأفاعي.
أما حديثه عن تفجر العلاقات البينية بين الدول الإسلامية التي استقلت فهي متفجرات من صنع محلي وذات أصول عريقة في بلادنا، فما يحدث في السودان هو ناتج أصيل عريق في ثقافتنا يريد إنشاء دولة إسلامية تطبق الشريعة في بلاد تحوي مختلف الملل والأعراف، وذات الشأن ما يحدث في الجزائر بسبب السعي لتطبيق الشريعة بالحديد والنار، وهوما يحدث اليوم في العراق كثمرة لثقافة محلية مريضة ومتخلفة، وتفجيرات عمان ومصر والرياض وغيرها لم ينتجها الغرب ولا النظام العالمي. إذن هم يحفظون لنا حدودنا كما حدث بالكويت، ويساعدونا في إنشاء منظماتنا الخاصة كالجامعة العربية بينما أنصار الخلافة يبكون على الخلافة ويريدون إرجاعناعبيداً للإنكشارية والمماليك وباقى سقط متاع الأرض لمجرد أنهم مسلمون. قتصبح المشكلة هى : لمن يجب أن نكون عبيداً؟!!
ومن ثم يتابع الدكتور سيف معقباً على الحقبة الإستعمارية التي تلت سقوط الخلافة بقوله : “وخلقت تلك الحقبة الإستعمارية وضمن علاقات المُستعمِر والمستعمَر والسيد التابع، وتقسيم علاقات النفوذ، إلى أن تكون المنطقة التي يشار إليها بالعالم الإسلامي (حتى في أمتداداته الآسيوية والإفريقية) موضوعاً لا طرفاً، مفعولاً لا فاعلاً. في انماط علاقات تابعة للدول المستعمرة”.
لا زال الدكتور سيف يبكي خلافته النافقة من خلال تأكيد العلاقات السلبية التي حلت بالمنطقة بين الأشقاء وبعضهم نتيجة سقوطها فريسة للاستعمار، ويريد أن يوهمنا أننا في ظل الاحتلال التركي كنا سادة أنفسنا نتمتع بالحرية والعدل والمساواة والسعادة والقوة والعلم والمعرفة والتقدم. وأننا في ظل الخلافة لم نخضع لعلاقة السيد والتابع، ولم نكن موضوعاً بل طرفاً، ولم يكن مفعولاً بنا بل فاعلون. ورغم ما كان عليه المسلمين من استعباد وجور وظلم وجهل ومرض مفعولا بهم على الخوازيق فى الأسواق، لقد كان المسلمون في ظل الخلافة العثمانية في أسوأ أو ضاع مرت بهم عبر تاريخهم. لقد تم الاستيلاء على البلاد والأرض مع فرض الجزية على الجميع، مع ترك البلاد فريسة لعصابات الإنكشارية بمباركة عثمانية. لهذا قامت الثورات الاستقلالية في تلك البلاد، فلوكان حكم الخلافة خيراً من حكم الاستعمار الأوروبي، ما قام تحالف وهابي إسلامى انجليزي ليناهضه، ولما طاردت الجيوش العربية الأتراك في جزيرة العرب. إنه يعيب على عرب الجزيرة تحالفهم مع الإنجليز ضد الخلافة لنيل الحرية.
لا يرى ولا يطل على الثورات ضد الخلافة، لكنه يراها واضحة عندما حدثت ضد الإستعمار الغربي، يقول: “أن هذه الشعوب لم تكن في حالة الإقرار لهذا الوضع أو تلك الحالة الإستعمارية من غير مقاومة، وبرز العامل الإسلامي العقدي ضمن عوامل أخرى في عناصر المقاومة للإستعمار الإستيطاني والمطالبة بالإستقلال والتحرر”.
فى فلتات لسانية لا يقصدونها ولو لوجه الحق، يعترف في خطأ لساني بأننا كنا شعوباً لا شعباً واحداً، وأن منطقياً كانت مجموعة من الشعوب التي كانت تأبى الإستعمار أياً كانت، فكانت تثور ضده ولا تقره طلباً لاستقلالها وحريتها. وهذا شئ طبيعي لممارسة حق طبيعي لكل الشعوب على مدار التاريخ قديمه وحديثه.
فالعالم لم يعرف شعباً قبل الخضوع لشعب آخر إلا عنوة وقسراً، فالحجاز والدرعية لم تخضع لمحمد علي إلا عنوة وقسراً، رغم أن جيوش محمد علي كانت موفدة من خليفة المسلمين الحاكم الشرعي لهم، ورغم هذه الصبغة الإسلامية التي تشرع مهاجمة محمد علي للحجاز، فإن اهل الحجاز رفضوا تقديم فروض الطاعة والولاء للخليفة العثماني الذي هو الزعيم الروحي لكل المسلمين، ولكن قسراً، ولأن شعب الحجاز شعب يحب الحرية كأي شعب آخر ولا يقبل أن يحكمه أحد من خارج بلاده، فقد قاوم جيوش الخليفة التي أرسلها له من مصر.
ترى لوسألنا شعب السعودية هل يقبل بعودة الخلافة العثمانية التركية لتحكم بما أنزل الله فيهم؟ فهل سيقبل الوهابيون وأئمتهم؟ وهل سيقبل خادم الحرمين أن يكون خادماً لثالث؟ تركي، أو لآوردوغان الذى لا يعرف حتى لغة القرآن؟
***
نعم إن الحقبة الإستعمارية قد استغلت بلادنا بلا شك لصالح اقتصادها، لكن كان هناك مقابل لهذا الاستغلال، ففيهم وعنهم عرفنا الحضارة والعلم والتكنولوجيا، لقد كانت الفائدة متبادلة، أخذوا خيرات مقابل علم وحضارة وفن وكشوف لثرواتنا التى ماكنا نعلم عنها شيئا طوال عصور الخلافة، بينما الخلافة التركية التي عاشت أربعة قرون كانت تأخذ فقط ولم تعط أبداً إلا الذل والخضوع والاستعباد وعدم الأمان والجهل والتخلف تخلفاً مقيتاً.
وبعد كل هذا الأخذ والرد لم يطرح بعد السؤال: هل الخلافة أصل من أصول الدين الإسلامي يجب أن يكفر تاركه؟ إنهم بإصرارهم على استدعاء الخلافة طوال الوقت، زرعوا في الوعي المسلم شيئاً لم يكن أصلاً من أصول الدين حتى تصور مسلمواليوم ذلك، بتسليم ناتج عن كثرة الترديد وليس ناتج البحث والفحص المنصف المحايد.
لوكانت الخلافة أصلاً من أصول الإسلام، أو كانت من الإسلام في شئ، لما تغاضى عن بيانها القرآن أو الرسول (ص) ، فرسول الله ما جاء إلا ليبين للناس ما هو الإسلام، ما هو منه، وما هو ليس منه، ولوكانت الدولة والحكومة وطريقة الحكم ضمن اهتمام القرآن، ما وقع خلاف المهاجرين والأنصار ثم خلاف المهاجرين الهاشميين وغيرهم من قريش، أقرأ معي رواية الدكتور حسين فوزي النجار في كتابه الإسلام والسياسة، ويحكي: “بدت لبعض الفرق الإسلامية أن الخلافة حق لآل البيت وحدهم لا تتخطاهم إلي غيرهم، وظهر هذا الإتجاه غداة وفاة النبي (ص)، فقيل أن علي ابن أبي طالب رأى هذا الأمر له دون غيره. ولما ذهب إليه عمرويطلب إليه وإلى بني هاشم أن يبايعوا أبا بكر كما بايع الناس، أبى وأبى من معه أن يجيبوا دعوة عمر، وقال علي: لا أبايعكم وأنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أو لى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليه بالقرابة من النبي (ص)، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أو لى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم؟ فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة. فإذا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أو لى برسول اله (ص) حياً وميتاً فانصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون ومن الثابت أن فرقاً إسلامية نشأت بعد ذلك وتشيعت لعلي وأن اختلفت على من يكون من عقبة أو لى بالإمامة بين المسلمين. أ. هـ”.
إن الخلافة وطريقة الحكم لوكانت أصلاً من أصول الدين لما وقع الخلاف بين الأنصار والمهاجرين، ثم بين قريش وبني هاشم، أنظر لعلي يقول: “ونحن أو لى برسول الله حياً وميتاً “، الحديث هنا عن ميراث للأسرة، فيكون علي أحق بهذا الإرث من أبي بكر بصفته ابن العم فهوالأقرب و بحسبانة ميراث قاطمة زوجتة وابنة صاحب التركة الوحيدة .
لوكانت الحكومة والدولة من الدين في شئ لكانت حقاً لكل مسلم لا ميراثاً لأبناء العمومة أو لقريش وغيرها، ولا يكون من حق أحد أن يستحوذها لنفسه وهي حق مشروع للأمة, إن كانت من الدين وهي ليست كذلك. لوكانت من الدين لبين القرآن شروطها وأحكامها وسلطاتها، فكتاب الله لم يترك صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالدين إلا بينها وفصلها تفصيلاً واضحاً غير ملتبس. ولأن الدولة والخلافة لم تكن من الدين ولا من شريعته بإعتبارهما شأن دنيا لا شأن دين وشأن سياسة لا شأن فقه، فقد قامت الصراعات الدموية عندما تم استخدام الدين انتهازياً في الصراع على الدنيا ورئاستها وهوما انتهى يصحابة النبي إلى الفتنة الكبرى، لكن معاوية بحنكته وضع حداً لهذا الاستخدام للدين في السياسة، وأقام حكماً ملكياً واضحاً وراثياً عندما طلب البيعة وله ولابنه يزيد دفعة واحدة، وفصل بين السياسة والدين بقيامه بأمر الحكم وتركه إمامة الصلاة لأهل الدين. وأسماها معاوية خلافة عندما أعلن شاعره للناس في مدينة النبي قائلاً: “الخلافة لهذا وأشار لمعاوية، فإن هلك فلهذا وأشار ليزيد، فمن أبى فلهذا وأشار إلى سيفه”.
تيمناً بالدين أسماها خلافة وشرعها له الفقهاء دون الارتكان إلى نص ديني واضح بهذا الشأن. وما حصوله على البيعة بهذا الشكل إلا استهانة بشأن الدين فهولم يكن بحاجة إليها، ولم يبايعه علي وأشياعه، ومع ذلك حاز البيعة بالسيف والغلبة ، فأين الدين هنا؟ أم أن كل هؤلاء الصحابة قد مرقوا من دينهم وكفروا ؟ لقد أقام معاوية الخلافة دون مباركة دينية ودون الإرتكان إلى نص ديني واضح في القرآن ولا في السنة. وأنشأ خلافة عجيبة الشأن هي ملكية وراثية واضحة تسميها كتبنا التراثية الملك العضود، ورغم ذلك فإن العابثين بديننا اليوم متدثرين بالإسلام، يسمونها خلافة بالفم المليان ويصورونها للعوام كأصل من أصول الدين ويبكون عليها بكاء ثراً يثير الشفقة والسخرية معا.
ومن جانب آخر فإن الإسلام ليس ضعيفاً كما يصورونه حتى نبحث له عن خليفة يحميه وشعب يدافع عنه، لأن أضعف الشعوب والذي يحتاج للحماية هي الشعوب الإسلامية، فهو كمن يوكل للجهلاء والمرضى والضعفاء حماية الإسلام دين رب العالمين وخير المرسلين. إننا أمة جاهلة عاجزة عن حماية نفسها، فكيف لها أن تحمي أشرف الأديان؟ والبادي في حركة الواقع أن رب الإسلام هو من يحمي إسلامه حتى تمكن من البقاء بل والتنامي حتى الآن، وهوفي وسط بحر متلاطم من التخلف والجهل والأساطير. بينما يريد المتأسلمون للمسلمين وإسلامهم حرباً عالمية ضد كل العالم لا تبقي ولا تذر من أجل إقامة الأمبراطورية الإسلامية مرة أخرى.
كل ما قلناه حتى الآن شأن، وإنكار نجاح الإخوان وفرقهم ودعوتهم لدولة خلافة إسلامية في بلاد المسلمين شأناً أخر، فوجود الجماعات الإسلامية ثابت في الشارع الإسلامي وموجود وهوالوحيد المتواجد، والغريب أن يكون ذلك بفضل ما تملكه الدولة وهوسلاح هائل وعظيم يتمثل في وزارتي التعليم والإعلام الموجه، حتى لم يعد معروضاً في سوق الفكرة على المواطن سوى الإسلام ، وهنا المصيبة الكارثية، التي قد تجعل أصحاب الإسلام السياسى يغامرون أحياناً فتبدوأنيابهم الكواسر، وهوالشأن الذي لا يصح التعامل معه بتهاون أو بخفة.
أقول لكم أين تكمن الكارثة، فما نراه في الشارع هو رأس جبل الثلج الطافى، أما الجبل فهوقناعة المسلمين أن إمبراطورية الخلافة وإن سقطت، فإن مقومات وجودها لم تسقط بل هي تنمووتترعرع.
الإخوان يطلبون دولة الخلافة، والدولة لها مكونات هي الأرض والمجتمع (الشعب) والجيش والحدود، ومعظم مكونات دولة الخلافة موجودة فعلاً على الأرض، الأرض موجودة هي هي لم تتغير فالجغرافيا لا تتغير، لها وزارة خارجية تحت التدريب فهناك أبوحمزة المصري وأبوقتادة وسفية لندن هاني السباعي سفراء لدولة الخلافة، ولها وزارة حرب في طور شديد التطور، وزارة تضم أسود الإسلام الذين هدموا أبراج نيويورك وأنهكوا أكبر جيش في العالم في العراق، ووزارة الإعلام لهم دون أن يجرؤ رمش على أن يطرف بشأن هذا الوجود الكثيف لدولة الخلافة الخفية في إعلام دولة مدنية. وشعبها ومجتمعها الآتى يتم سلخه كل يوم من جسد المجتمع المصري، في الكتاتيب والمساجد والجامعات ومن أمام التلفزيونات، وقد أثبتت وزارة دفاع الخلافة حضورها في بلادنا بأداء طلبة الأزهرلعرضهم العسكري الإرهابي الذي أرهب مصر جميعاً، كل ما تم سحبه من دولة الخلافة هو الاعتراف بها والحدود التي لواستعادتها فستصبح دولة قائمة، بل أن أيديولوجيا الخلافة ومنجزاتها قد عادت بقوة، وأهمها العبودية للخلافة التي أصبحت موجودة دون إعلان رسمي، فنحن لا نستطيع أن نتكلم أو نسلك كالإنسان الحرفي بلاد الغرب. وزير ثقافة مصر قال رأياً قى الحجاب فوقف ضده أعضاء مجتمع الخلافة القادم وقفة مضرية.
الكارثة ستحدث بناء على استشعارهم كل هذا بأيديهم فيغامروا كما غامروا في 11 سبتمبر 2001 ولكن المغامرة هذة المرة ستكون ببلادنا، بنا، لأننا نحلم بالمقلوب، نحن نحلم بالخلف لا بالأمام، وأحلامنا مستحيلة التحقيق، وكلنا نعرف ذلك، ومع ذلك ينخرط بعضنا في مجتمع الخلافة مع يقينه بالضعف والخوار والتخلف، وأنه لم يحقق أهدافه يوماً، والواقع والأحداث اليومية تنبئه بذلك في شكل لطمات فاضحة فادحة في حق كرامته.
النتيجة أن يشعر هؤلاء بالإحباط نتيجة العجز عن تحقيق الأمل فيذهبون يناهضون الدولة المعاصرة الغربية المتفوقة، بمجرد الحلم والوهم، فتسيل الدماء ونحقق نحن معظم الخسائر، بينما ناهضتها من قبل تجمعات عالمية مثل الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الشيوعية كلها، وكانت دولاً عظمى فانتهى أمرها مفككة كما قد حدث وتعلمون.
ببساطة هل لوكان نظام الخلافة موجوداً، وبالفرض أن مكانه قد أصبح السعودية بعد إزالة الملكية وآل سعود، هل تستطيع أن تستولى السعودية على الكويت لضمها للخلافة؟ فهل سيسمح عالم اليوم بذلك؟ إنه لم يسمح لحزب الله الذي هو (تقاوى خلافة). أو لو أعلن صدام حسين نفسه خليفة بعد ضم الكويت مباشرة، وهوما كان كفيلاً بمبايعته من كل الشعوب الإسلامية، ترى هل كان المجتمع العالمي سيسكت؟ أو هل ستسكت حكومات بقية الدول الإسلامية وترضى أن يضم صدام الكويت إلى خلافته؟ أو بفرض أن الأسرة السعودية أعلنت إنهاء الملكية وتعيين نفسها للخلافة، فهل ستكون قادرة على استعادة بلاد فارس إلى راية المصحف والسيفين؟
إن الحلم بالمستحيل هو هدف يتم تكريسه طوال الوقت لأنه الحلم المقموع القادر على الإحباط والإحساس بالمذلة والهوان، وهوالسبيل إلى تحول الشباب إلى الإرهاب كرد على واقع لا يوافق تطلعاتهم.
خلاصة موقف الإسلام الكلاسيكى الشرعى المعتمد عند كل فرقاء الفرق، من مفهوم الوطن والمواطنة، بقلم الإمام بن عثيمين فى تفسير رياض الصالحين:
“قال النبى: إن من فاتل بنية صادقة لإعلاء كلمة اللة وتثبيت راية الدين الإسلامى فهو فى سبيل اللة ولصاحبة الجنة . لذلك يكون القتال من أجل القومية العربية قتال جاهلى من قتل فية ليس شهيدا وفقد الدنيا وخسر الآخرة ـ كما أن القتال من أجل الوطن ليس فية فرق بين مؤمن وكافر لأن الكافر يقاتل بدورة من أجل وطنة، فالمسلم يقتل من أجل وطنة لأن وطنة مسلم ، أما مجرد الوطنية فإتها نية باطلة لاتفيد الإسلام شيئا ولافرق فى ذلك بين وطن المسلم مسقط رأسة والوطن البعيد عنة طالما أنi إسلامى”.
شفاف الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى