صفحات ثقافية

ما يزال سليم بركات خارج خارطة الادب العربي: أعماله الشعرية صدرت في بيروت

null


رائد وحش

أن تعلن جهة ما أنها أصدرت ـ أو ستصدر ـ عملاً لسليم بركات فذلك يكفي لنعود إلي أرق الانتظار المرّ. ثمة سرّ عصيّ علي التفسير في محبّة هذا الكردي يجعلنا نشعر أنّ أي شيء مما يكتب هو حاجة ماسّة لثقافتنا ولوجداننا، علي حدّ سواء، حتّي ليُخَيّل للواحد منّا أن كارثة ستحلّ علي حيات
ه فيما لو لم يسرع ويطالع الصّادر عنه بأية طريقة ممكنة، شراءً أو إعارةً أو حتي… سرقة، في الوقت الذي لا تتوقّف ماكينة الوراقة عن ضخّ أشعار وأشعار، لا نحسّ حيالها إلا بأنها فائضة عما نحتاج، ومع أن شعر سليمو(كما يسميه الأكراد) متاحٌ، وسبق أن قرأناه متفرقاً، وعلي مراحل، في مجموعات تصدر هنا وهناك، كما وقرأناه مجموعاً في أسفار: المجموعات الخمس و الديوان ، إلا أنّ صدور الأعمال الشعرية ـ التي تضم إحدي عشرة مجموعة، هي كل ما كتبه شعراً حتي الآن ـ يحظي بهالة سحرية تجعلها حدثاً ثقافياً يستحق الاحتفاء.

لا بدّ من الإشارة إلي أن سلسلة الأعمال الشعرية هذي ـ والتي تواصل إصدارها المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ـ تمثل تجربة هامة علي صعيد نشر الشعر، خصوصاً في ظلّ العسف الذي يعانيه، فهي تمكّن القارئ العربي من الإطلاع علي تجارب الشعراء المكرسين، وتشكيل تصوّر عن تجاربهم حتي لحظة معينة، وعن السلسلة صدرت أعمال نوري الجراح وأمجد ناصر وعباس بيضون….إلخ.

كتب محمود درويش كلمة علي الغلاف يقول فيها: منذ غزا سليم بركات المشهد الشعري العربي، في أوائل السبعينات، بشّرنا بشعر جديد مختلف. ولم يشبه أحداً، وسرعان ما صار هذا الفتي الكردي الخجول أباً شعرياً لأكثر من شاعر فتنتهم صوره الغريبة، ولغته الطّازجة، وإيقاعه الشلال . وإن كانت هذه الكلمات لا تتعدّي كونها تحيّة لصداقة مديدة، فهناك دراسة وافية كتبها الناقد الفذّ صبحي حديدي لتكون بمثابة مقدمة، وفيها يرصد التكوينات الأولي لصاحب طيش الياقوت ، وأهم علامات فضائه الشعري واللغوي، وتأثيره الكبير الذي أعطاه مكانة بارزة بين شعراء جيله، كما يقرأ تحولات نصه الداخلية، عبر سرد نصيّ مشوق، يعطيه حديدي لمسة أدبية لا تفارق نقوده بشكل عام، فهو الناقد الذي يخلص النقد من أعباء الرؤي الأكاديمية حين يجعلها، بمكر، مجرد خلفيات لتقديم نص نقدي أدبي الطابع، هدفه الإمتاع قبل الإفادة.

تأتي الأعمال الشعرية لتقدم خلاصة خمس وثلاثين سنة من علاقة مغايرة مع العربية، دبّر شؤونها شاعر خائف من امتحانها، حسب تعبيره في حوار قديم: جاهدت أن استخدمها في مغامرة الخائف من امتحان، بينما تعامل الكثيرون باطمئنان معها، وهي لغة لا تستسلم للمطمئنين .. (مجلة الحوادث 9/10/1987).

تجربة بدأت مغايرة للسائد كما في قصائده الأولي نقابة الأنساب ، مبعوث الفراشات ، قنصل الأطفال التي يراها حديدي كان الجديد واضحاً وطاغياً وآسراً، وكان صارخاً أيضاً: في هذه الفصحي الحارة النزقة المصفاة التي لا ترجّع أصداء البيان العربي التقليدي ولا المجاز البلاغي المعتاد، وفي البنية الإيقاعية المتسارعة وفق تخطيطات تفعيلية متقطعة ومتصلة في آن، وفي التصاعد الدامي لضمير المتكلم المفرد،الأشبه بـ أنا جمعية لا تكشف عن تعدديتها إلا في الخاتمة المفاجئة، وفي التقسيم البارع للسطور الشعرية، والتغييب الذكي للقافية، والهندسة السلسة للعلاقات بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية ص9. شعرية بركات حركة هدم مستمرة، تروم استبدال الواقع المستباح بالخيال الحرّ، لتستعيد الأشياء والعناصر ألقها المفقود، وليسترجع العالم ضميره، من خلال صنيع تراجيدي: وأهتف: علام هذا الشمال؟ علام هذا الرابض بين الزبيب والماعز، وحده المهرج بين الجهات؟ وما لها امتدادات الأرض المزدهية بالريش والبلد تتأهب لبقرات الموت وعجوله؟ ومالي ـ عبر السطح الفيروزي لمياه المستنقع، وعبر قرون الجواميس الرابضة بين المياه ـ إلا النصل القديم ذاته، عالياً، يتلألأ في انعكاسه المجد والموتي؟ يقيناً أنا مثقل بشؤون السهول، ولي خيلاء الظلام إذ أحتضن المجالس الحافلة بشعبٍ غامضٍ يتفتح بين الخرشوف وتلتقطه القري ص175.

يقف الشاعر سليم بركات شاهقاً، وطيّ ضميره عالم كرديّ لا يريد أن يكون مجرد أقلية، بل يتطاول بكل ما فيه من شبق الحياة، ليؤكد أنه عالم حي، وأقل تفصيل منه كينونة تستحق التحليق، علي عكس ما يريد وعينا العروبي، للأسف، هذا الذي لا يفعل، علي الغالب، شيئاً سوي أن يلغي، ويشطب، غير مبالٍ بكل ما فعله المشترك الإنساني، بين الشعبين في التاريخ.

يقف سليم بركات علي حافة اللغة العربية، وطي ثناياه عالم كردي مثقل بأعباء تاريخية، وأساطير وحكايات وأحلام، ومن ذلك المزيج يختلق لغته المركبة والثرية، كثير من تاريخ شعب ممزق الأوصال، وكثير من طفولة ملأي رعباً وعنفاً، وتجربة طويلة في المنافي، وثقافة تراثية عظمي، ومن هذا كله يكتب ما يبدو غريباً وغير مألوفٍ، منافٍ تلو مناف، تلك كانت حياته، منذ مأزقه الوجودي ككردي يكتب بالعربية، إلي رحلاته التي بدأت في بيروت ونيقوسيا، ولم تنته في استوكهولم. القصيدة منفي، والآخر منفي، والمكان منفي، ولا وطن، وكأن هوية الشاعر تكمن في هذا القلق في اللا إقامة واللا استقرار، لكنها بالمقابل تظهر في نصّه الشخصي الذي يشي بأنا شاسعة كالمكان الذي حمله في الجسد والذاكرة.

القراءة المتأنية، الهادئة، الشديدة التمعن في أبعاد النص، وخاصة علي ضوء كتابي سيرته هاته عالياً هات النفير علي آخره و الجندب الحديدي ، تجعل مما كان يبدو غرابة وتغريباً أمراً في غاية الحميمية والقرب. يقول سعدي يوسف: أي قراءة لشعر سليم بركات لها مستلزمات، كما أري، من أول هذه المستلزمات الإلمام بجانب من شخصية سليم، هو جانب الطفولة والفتوة المبكرة. آنذاك ستفتح مغاليق عدة، وتنكشف أسرار كانت تبدو مستغلقة، الكلمات والأعلام ستتجلي بسيطة، ذات معني مؤصل في الحياة والسيرة . ما يقوله سعدي هو عين الصواب، فقراءة بتلك المفاتيح تزيل الغبش وتجعل الشخصية الإبداعية في وضوح كامل وانكشاف تام. كما ان للانفتاح علي آثار بركات الأخري في الرواية والمقال تؤكد الحالة أكثر وأكثر، وربما ستكون أكثر صور رامبو الكردي ، كما يسميه حديدي في المقدمة، هي صورة الصياد الذي يدأب علي نصب فخاخه في البراري، وفي هذه الصورة ما يعبر بكثافة عن علاقة وطيدة مع الصيد، غير أن الطفل الذي كان هكذا في مكانه الأول، في الشمال السوري، مارس هذا الشغف جوانياً، وجال به الأمكنة، ومع تحول المصائر والمآلات، تحول إلي صياد من نوع آخر، في براري أخري، بفخاخٍ أخري، فلقد صار يصيد العالم علي شكل قصائد. وفي بروفيل آخر، ترسمه كتاباته، يظهر لنا سليمو بهيئة طباخ، فما الصيد، ما جدوي الفرائس إذ لم تكن لتؤول إلي قدور المطبخ؟ وتجنباً لشطط الخيال لنتذكر أن البازيار أعلن أنه لا يكتب إلا في المطبخ، وكذلك كان ألّف كتاباً في فن الطبخ أضاعه في مطار أحد المنافي حروب نقية. حمّص نقي. خبّازٌ لسانٌ يستنطق ملح الدباغين. حصرمٌ مستنطق. جيوش زيت معتصر من زيتون المنحدرات الشريدة ص578.

كرست هذه القصائد مفردات أساسية باتت بمثابة مفاتيح للتجربة، وغير ما ينتمي إلي النشأة العنيفة والنزق والقوة، وهي تندرج في إطار ما سبق. لكن اللافت هو حضور الطبيعة كتعبير عما هو فطري وبدائي وحرّ، والاهتمام البالغ بالحيوان باعتباره حقيقة الحرية التي لم تعرف تجسّداً آخر، فتقديم تعريفات بين مجموعة وأخري لـ الحمار، السلوقي، أبن آوي…. ، دون أية غايات ترميزية، والاكتفاء بإدارة حور شعري مفقود بين كائنات، حوار بأكثر من صوت، يكسر باللغة حاجز اللالغة، وإن كان هذا التقليد البركاتي يرتبط بتراث عريق، كتاب الحيوان للجاحظ، حياة الحيوان الكبري للدميري، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للمقريزي، فإنه لا يكفّ عن المراوغة. فهل الشاعر هنا يمارس الكتابة، أم أنه ينقذ من الضياع مخطوطات بعملية تحقيق شعرية؟ وفي المسعي ذاته، يحفل هذا المعجم الشعري بالنباتات: كرفس، طرخون، خس، فجل… ، وتعمل الاستعارة علي خلق معادلات حسية للمذاق والرائحة.

وقد جمعت في الأعمال الشعرية أجزاء الشاعر مغامرة لغوية غير مسبوقة، وللمغامرة وجوه شتي، أبرزها علاقته باللغة.

وربما يكون رأي الشاعر والناقد السوري عابد إسماعيل الأكثر دقة في تحديده إذا صح قول الناقد الأمريكي هارولد بلوم بأن في داخل كل مبدع سلفاً قوياً يتأثر به، عبر التكلم عليه، سعياً للانحراف عنه، وتجاوزه، وبالتالي الإتيان ببلاغة تضادية، تعيد النظر جذرياً بصورة السلف؛ فإن سليم بركات لن يرضي بأقل من اللغة العربية نداً له، معني ومبني يقيم صراعه الأوديبي معها، في سبيل ابتكار لغة داخل اللغة، تنحرف بزاوية حادة عن تاريخ بلاغتها، فيما تؤكد في كل جملة، جوهرها البلاغي . لكن دوام الحديث علي لغة سليم بركات بات يحمل نوعاً من الظلم، كما ويشكل انتقاصاً لقيمه الأخري، فهناك علاقة الإنسان بالكون، هذه العلاقة التي أهملها الأدب في ادعائه الانسحاب إلي ما هو داخلي، كأن الكون ليس فينا بذات القدر الذي نحن فيه، وهناك الطاقة التخيلية العظمي، والتراجيديا التي تجمع بين الذات والجماعة

السؤال الجدير بالطرح، بمناسبة الأعمال الشعرية هو: لماذا تجاهل النقد العربي هذه التجربة التي قاربت علي إتمام نصف قرن؟

لماذا أهملت هذه المادة الإبداعية وهي من الثراء بما يجعل الإقبال عليها مشروعاً بذاته؟

كاتب من الاردن

19/03/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى