صفحات مختارة

كسر العنف في مناطق “الخطر”

نعوم تشومسكي
كان استعداد باراك أوباما لفتح قنوات “حوار” مع الأعداء مسألة حاسمة خلال حملته الانتخابية، فهل سيلتزم بالعهد الذي قطعه؟
يشكل الحل الدبلوماسي البديل السليم الوحيد لحلقة العنف التي تمتد من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا، والتي تهدد بالتسلل إلى أقطار العالم كافة، وقد يكون من المجدي أيضاً أن تواجه إدارة أوباما والغرب بعض المسائل التي تحرك السياسة في الشرق الأوسط.
وبالنسبة للعراق، فقد عملت الحكومة العراقية على صياغة اتفاقية “وضع القوات”، التي قبلت بها واشنطن على مضض، والتي تهدف إلى وضع حد لوجود القوات الأميركية داخل العراق. وتشكل هذه الاتفاقية الخطوة الأخيرة في سلسلة من تحركات المقاومة غير المسلحة التي أرغمت واشنطن، شيئاً فشيئاً، على الموافقة على إجراء الانتخابات، وعززت استقلالية تلك الدولة المحتلة.
وأفاد ناطق باسم الحكومة العراقية أن “المبادرة التي بلورت بالاتفاقية تلتقي مع رؤية الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما”. صحيح أن هذا الأخير لم يعرب بوضوح عن “رؤيته” تلك، لكنها قد تلتقي بصورة أو بأخرى مع مطالب الحكومة العراقية. وفي هذه الحالة، يجدر تعديل الخطط الأميركية من أجل ضمان السيطرة على ثروات العراق النفطية الضخمة، إلى جانب إرساء الأسس اللازمة لتمكين واشنطن من إحكام قبضتها على أهم مكامن الطاقة في العالم.
إن احتمال نقل القوات من العراق إلى أفغانستان، أعاد إلى أذهان الجميع العبرة التي توصل إليها المحررون في “واشنطن بوست” عندما صرحوا: “في حين أن منع إعادة ظهور حركة “طالبان” الأفغانية يصب في مصلحة الولايات المتحدة، تفقد أهمية ذلك البلد الاستراتيجية من بريقها مقابل أهمية العراق، الذي يقع وسط منطقة الشرق الأوسط ويضم أكبر عدد من احتياطات النفط في العالم”. إنه لاعتراف مرحب به بواقع يستحيل تفاديه، إذ أن الحجج المتعلقة بتعزيز الأمن والديمقراطية ما عادت تستطيع إخفاء المصالح والنوايا الحقيقية.

كما أقدمت قيادة “الناتو” من جانبها على الاعتراف بحيوية شؤون الطاقة، ففي يونيو 2007، أعرب الأمين العام لحلف “الناتو” أمام أعضاء المنظمة في أحد لقاءاتها “أنه من واجب قوات حلف شمال الأطلسي حراسة الأنابيب التي تقوم بنقل النفط والغاز إلى الغرب”، وتأمين الحماية اللازمة، بصورة عامة، إلى الطرق البحرية التي تستخدمها ناقلات النفط وغيرها من “البنى التحتية الحيوية” الأخرى ذات الصلة بنظام الطاقة، وتشمل المهمة مبدئياً مشروع خط الأنابيب المشترك بين تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند، الذي تبلغ تكلفته 7.6 مليار دولار، والذي يفترض أن ينقل الغاز الطبيعي من تركمانستان إلى باكستان والهند، مروراً بإقليم قندهار الأفغاني، حيث تنتشر القوات الكندية. ويكمن الهدف من ذلك في “تعطيل خط الأنابيب المنافس الذي ينقل الغاز الإيراني إلى باكستان والهند” و”في التخفيف من واقع السيطرة الروسية على صادرات آسيا الوسطى في مجال مواد الطاقة”، وفقاً لما أفادت به صحيفة “جلوب آند ميل” التي تتخذ من تورنتو مقراً لها، كما سلطت الصحيفة الضوء على بعض من ملامح “اللعبة الكبرى” الجديدة، التي تذكرنا بالسباق البريطاني-الروسي التنافسي على الإمساك بزمام الأمور في وسط آسيا خلال القرن التاسع عشر. وبالنسبة لأفغانستان اعتمد أوباما سياسة بوش في شن هجوم على قادة “القاعدة” في البلدان التي لم تُقدم الولايات المتحدة حتى الساعة على اجتياحها. وبصورة أدق، لم ينتقد غارات طائرات “بريداتر” الأميركية من دون طيار التي أودت بحياة عدد لا يمكن التهاون به من المدنيين في باكستان. وفي الوقت الراهن، تعاني منطقة بيشاور القبلية الباكستانية، المجاورة لأفغانستان، من حرب صغيرة، لكنها ضروس. وقد وصفت محطة “بي. بي. سي” الدمار الشامل الذي يسود في المنطقة جراء حالة القتال الكثيف، بالقول “إن العديد في تلك المنطقة يعزون سبب انفجار الوضع إلى الاشتباه بإطلاق صاروخ أميركي على مدرسة إسلامية في نوفمبر 2006، ما أدى إلى سقوط 80 قتيلاً”.
وفي 3 نوفمبر الماضي، عقد الجنرال بترايوس، الذي عين حديثاً على رأس القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، لقاءه الأول مع الرئيس الباكستاني آصف زرداري، وقائد أركان الجيش أشفق كياني، وغيرهما من المسؤولين الباكستانيين، وتركز اهتمام الحاضرين الأول على “مواصلة هجمات الطائرات من دون طيار، ما يتسبب في خسائر فادحة من حيث حياة سكاننا الثمينة وممتلكاتنا، ويخلق المشاكل التي يصعب تفسيرها بالنسبة إلى حكومة منتخبة وفقاً لأصول الديمقراطية”، كما قال زرداري لبترايوس. فحكومته، على حد تعبيره، “تخضع لضغوط الشعب الذي يحثها على الرد بعنف أكبر” على تلك الهجمات. إذ أن هذه الأخيرة قد تؤدي إلى “ردة فعل عنيفة على الولايات المتحدة”، التي يكن لها الشعب الباكستاني في معظمه بغضاً واضحاً.
وأفاد بترايوس من جهته أنه أخذ علماً بالرسالة، وأنه “علينا أن نتفهم (رأي باكستان)” عندما يقع هذا البلد ضحية الهجمات -وهي ضرورة عملية بالطبع، سيما وأن أكثر من 80% من امدادات القوات الأميركية المنخرطة في صفوف حلف “الناتو” المشاركة في الحرب التي تشهدها الساحة الأفغانية، تمر عبر باكستان. وقد كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن كيفية “تفهم” وجهة النظر الباكستانية، إذ أفادت الصحيفة أن واشنطن وإسلام أباد توصلتا إلى “اتفاق ضمني في سبتمبر 2008 بخصوص سياسة الإخفاء التي تسمح لطائرات “بريداتر” من دون طيار بشن هجمات على الإرهابيين المستهدفين المشتبه بهم في باكستان، وفقاً لعدد من كبار المسؤولين في البلدين الذين لم يتم الكشف عن هويتهم. و”قد رفضت الحكومة الأميركية في هذه الصفقة الاعتراف علناً بالهجمات في حين استمرت الحكومة الباكستانية من جهتها في الاحتجاج بأعلى الصوت على الهجمات الحساسة من الناحية السياسية وقبل يوم واحد من صدور التقرير الذي تناول “الاتفاق الضمني”، أودى تفجير انتحاري وقع في المناطق القبلية بحياة 8 جنود باكستانيين -كرد انتقامي على هجوم إحدى طائرات “بريداتر” بلا طيار التي قتلت 20 شخصاً، بمن فيهم زعيمان من حركة “طالبان”. وقد دعا البرلمان المحلي إلى فتح قنوات حوار مع الحركة. وتشديداً منه على الحل المقترح، أفاد وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قرشي أن “مزيداً من الأشخاص يستدركون أن استخدام القوة وحدها يستحيل أن يؤدي إلى النتائج المرجوة”.
وبخصوص أفغانستان، كانت الرسالة الأولى التي وجهها الرئيس الأفغاني حامد كرزاي إلى الرئيس الأميركي المنتخب أوباما أشبه بتلك التي أعرب عنها القادة الباكستانيون إلى الجنرال بترايوس: “ضعوا حداً للغارات الجوية الأميركية”. التي تلحق الضرر بالضحايا المدنيين.
وحذرت القيادة البريطانية من أنه يستحيل حل النزاع الأفغاني بالسبل العسكرية، وأنه لا مفر من المفاوضات مع حركة “طالبان”، معرضة بذلك تحالفها مع واشنطن للخطر. ويملك بعض ناشطي السلام الأفغان تحفظات حول تلك المقاربة، مفضلين إيجاد حل للمشكلة الداخلية من دون أي تدخل خارجي. وقد تمت دعوة شبكة تضم أعداداً متزايدة من ناشطي السلام للمشاركة في المفاوضات وعملية المصالحة مع حركة “طالبان” في إطار “جيرغا السلام الوطني”، التي ترمز إلى تجمع كبير يتألف من شرائح المجتمع الأفغاني وبعود تأسيسه إلى مايو 2008.
وبالنسبة إلى الشق المتعلق بالشؤون الخارجية، يوصي “بارنت روبين” وأحمد رشيد بضرورة تغيير الاستراتيجية الأميركية المتبعة في المنطقة، واستبدال مسألة زيادة عدد الجنود وتعزيز الهجمات في باكستان بـ”مقايضة دبلوماسية كبرى ترسم ملامح التفاهم مع المتمردين بالتزامن مع مواجهة سلسلة واسعة من العداوات والمخاطر الإقليمية”، ويحذران من أن التركيز العسكري الحالي و”الإرهاب الملازم له”، قد يؤدي إلى تدهور الأمور في باكستان التي تملك أسلحة نووية، وهو ما قد يقترن بنتائج محبطة للغاية. كما ويحثان الإدارة الأميركية الجديدة على “وضع حد نهائي إلى ديناميات التدمير المتزايدة للعبة الكبرى في المنطقة” من خلال إجراء مفاوضات تعترف بمصالح الجهات المعنية ليس فقط داخل أفغانستان وباكستان وإيران، بل أيضاً داخل الهند والصين وروسيا، التي “لديها تحفظات حول وجود قاعدة الناتو داخل مناطق نفوذها”، وحول المخاطر الناتجة عن وجود قوات الولايات المتحدة وحلف “الناتو”، والمخاطر الناتجة عن تنظيمي “القاعدة” و”طالبان” على حد سواء. ويشيران في مقالاتهما، إلى أن الرئيس الأميركي الجديد، ينبغي أن يضع حداً لاندفاع واشنطن وحماسها على تحقيق “النصر” كحل لكل المشاكل التي تواجهها، وأن يحد أيضاً من رفض الولايات المتحدة إشراك منافسيها ومعارضيها في الجهود الدبلوماسية.
يمكن لإدارة أوباما في أقرب فرصة، أن تعمل على كسر حلقة العنف الحافلة بالمخاطر، التي تشهدها نقاط متعددة من منطقة الخطر.
نعوم تشومسكي
أستاذ اللغويات والفلسفة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا-كامبريدج
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز”
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى