صفحات العالم

صدمة اللامعقول بصفقة الستين مليار من المال العربي المهدور

مطاع صفدي
لا شك أنه ليس من مواطن عربي أو آخر، سمع بخبر الستين مليار دولار تدفعها دولة عربية ثمناً لصفقة سلاح أمريكية، إلا واعتراه على الأقل شعور الدهشة والعجب. فالسلطة السعودية لم تحسب حساباً لأي رد فعل إنساني وليس سياسي، لدى رأي عام في بلدها، أو في الوطن العربي الأكبر، أو في أي صقع من عالم اليوم الذي هو أشبه بقرية صغيرة. ذلك أن الصفقة هي حقاً صدمة للوعي، بدون أي جنسية أو تبعية معينة.
ما هي الثروة الهائلة التي تكتنزها هذه الدولة السعودية، حتى يمكنها أن تكرّم أمريكا بهذا المبلغ الفلكي، دون أن يؤثر هذا الكرم الاستثنائي في الميزانية العامة. هل هو المبلغ الفائض عن التخمة بألوف المليارات؟ أم أن المملكة مضطرة أن توفر هذا الرقم، أن تقتطعه من قوت شعبها اليومي، لتدفع عن ذاتها ذلك الخطر الأسطوري الذي سوف يداهمها دون أن يعرفه أحد حتى الآن، وإن كان هو (العدو) المخيف الأكبر الذي اسمه إيران، فقد بررت إدارة الرئيس أوباما الصفقة الفريدة في تاريخ الحروب، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل في عمق أعماق أسطورة الدم الإنساني المراق باسم رموز الغيب والأبدية، بررت الإدارة الأمريكية الصفقة بحجة عجيبة واحدة، هي أن هذه الأسلحة مبرمجة إلكترونياً بحيث لن تستعمل ضد إسرائيل. كأنما مسموح أو مطلوب من الدولة المشترية أن تستخدم هذه الأسلحة ضد من تشاء من الدول العربية أو الإسلامية، إن مارست إحداها تهديداً ما ضد المملكة..ما عدا إسرائيل، فهي المحظور والممنوع الأعظم!
لم يعد يفيد تكرار القول إن المال العربي ليس ملكاً لأهله، كما أن العرب لا يسيطرون على ثرواتهم النقدية والاستراتيجية. لكن صار لزاماً التمعن أكثر في هذه الخاصية البائسة المميزة الأولى، إن صح التعبير، لشخصية الإنحطاط العربي الرسمي المعاصر. فهناك، في واقع الأمر عربان، أحدهما عرب الحكام وطبقتهم، وعرب الملايين من البشر، فالأولون هم الحاكمون بأمرهم، والمالكون الفعليون، أو الإسميون لمقدرات شعوبهم، كما لثرواتهم الوطنية والقومية.
والآخرون ليسوا مجرد أرقام أو أشباح أو أنصاب، أو مجرد خُشُبٍ مسنّدة، بل هم بشر حقاً، ولكنهم نوع فريد من الكائنات الأُنسية، الذين هم في رأي سادتهم من السلاطين، وجودهُم أشبه بعدمه. فلا خوف على أي سلطان من أن يغدر به بعض عبيده يوماً ما، إذ أصبح هؤلاء العبيد، بعضهم من المحظوظين من المرتزقة الحائمين حول موائد اللئام، بل الكرام من سادة القصور.
لا يشعر هذا النوع الثاني من عرب الأرقام المليونية، أنهم مسؤولون عما يفعله أرباب النوع الأول باسمهم. لكن من حقهم أن يتساءلوا: هل هذه المنحة الملياردية الهائلة معطاة هكذا كضريبة أمان وحماية أم لسواد عيون أوباما؟ لأمريكا حامية إسرائيل السرمدية المنشغلة بإنجاز تهويد فلسطين، وإعداد الطرد المبرمج لآخر عربي منها. كأن هذه المنحة (العربية) تقدم العون والتأكيد لسياسة البيت الأبيض المزدوجة، في الدعوة إلى (الدولة الفلسطينية) الموهومة في الوقت عينه يُسمح لإسرائيل أن تسرق كلّ أرض، كل بيت ومزرعة من وطن هذه الدولة قبل أن ترى النور.
هل يمكن أن يقتنع أي مواطن عربي أن المنحة السعودية ليست مكافأة غير مشروطة مبذولة للرئيس الأسمر.. الذي يحب الإسلام! أما التبرير الآخر المعلن بصياغة شبه رسمية من قبل طرفي الصفقة معاً، أمريكا والسعودية، فإنه يحدد من هو العدو المخيف منذ الآن، بل يكاد يضرب موعداً محتوماً للحرب الكبرى القادمة معه. فالمسألة محسومة. أمست المملكة السعودية، بل معها جميع دول الخليج النفطوي ربما، مستنفرِِة، متأهبة للمنازلة الجدية، حتى من دون معرفة شعوب المنطقة بأن حكامها انقلبوا فجأة إلى قادة عسكريين لجبهات موشكة على الانفجار بين لحظة وأخرى. كأنما أصبح لزاماً على عرب الخليج أن يبادروا هم إلى محاربة إيران قبل إسرائيل أو بالنيابة عنها.
هنالك جاهزية مخططات ومعدات وأحداث وأهداف كلها في حدود افتراضية، لكنها تشكل ما يشبه واقعاً صورياً بديلاً، ومهيمناً بطريقة ما شفافة على الواقع الفعلي؛ ويكاد يتشابك مع راهنيته، فالغرب لا يمكنه أن ينظر إلى خارطة الشرق عامة، والأوسط منه بخاصة، إلا مصحوباً بخارطة ألغام من الحروب والفتن التي يمكنه أن يزرعها بين تضاريسه السياسية والاجتماعية، بين كياناته الدولاتية، وما بين مكونات مجتمعاته. وما يقلق الغرب مع أزمته الاقتصادية المستفحلة، هو حال الإنحسار المتسارع لهيبته من دوائر نفوذه التقليدي. فالآلة العسكرية الجبارة التي طالما أخضعت وأضافت أمم الشرق، فقدت أخيراً تفوقها عبر صراعها المستحيل ضد مقاومات الشعوب.
كما أن الإستثناء الغربي الشهير بامتلاك المعرفة الخلاقة والمصنع المنتج لأعلى التقنيات، أمسى مهنة عادية لأصغر دول الشرق الأقصى وليس لأكبرها فقط. أما الدهاء السياسي والدبلوماسي المعروف عن عباقرة المستعمرين الإنكليز، ومن ثمَّ لدى ورثتهم وتلامذتهم الأمريكيين فإن (مؤامراته) العتيقة، الشرق الأوسطية، كنموذج محدد، أمست تحبطُها عقول قيادية شابة، متوزّعة في كل جبهة مفتوحة أو مواربة، في هذه البقعة من العالم؛ كأن ما يجري فيها من منازلاتٍ أصبح يوحي بعناوين ملتبسة لصورة عالم عربي مختلف تماماً عما كان يعرفه الغرب عنه.
أخطر هذه المنازلات قد لا يظلّ عسكرياً حربياً بالضرورة، فالتحرر المالي مثلاً سيغدو واحداً من أهم هذه المنازلات غير المطروحة للتداول الفكري أو الإعلامي حتى اليوم. لكن حدثاً هائلاً من نوع صدمة الستين مليار الموهوبة لزعماء تجار الموت في واشنطن، قد يثير المكمونَ من انفعالات الناس التي لا تجد منطوقها الإعلامي المباشر بسهولة لدولة أو لحاكم، كأنه خبر يومي عادي. مع ذلك قد يشعر بعض الناس أن هذا المال ليس هو ملكية عامة، بل هي أعمّ من أية ملكية لدولة أو لحاكم. يقول لسان حال هذا البعض من الناس إنها هي من ملكية الأرض الطيبة التي اختزنت في باطنها أثمن ثروات المستقبل الحضاري للبشرية، كما ترعرع على سطحها تاريخ الأمة التي كانت خير أمة أُخرجت للناس وحملت على عاتقها أفضل رسالة لمدنية العدالة والحرية والمساواة لما كان يسمى بالعالم القديم الذي لا يزال يصارع بجدّته الأصيلة كلَّ عالم آخر جاء بعده.
القول إن الصفقة فريدة في التاريخ، حسبما وصفتها ألسنة الإعلام كلها غربية أمريكية وعربية، ليس قول الإعجاب بالصفقة عند جميع الناطقين به، بقدر ما هو قول العَجَبِ كذلك، طيَّ ألسنة الرأي العام الصامت أو المصمّت. فالفرادة التي تتحلى بها الصفقة، صادمة للحسّ العام، بحيث لا يجد لها تعريفاً يُشرعنها. كأنها فرادة الشذوذ والخروج عن المألوف سواء بالنسبة لهول الرقم الفلكي، أو بالنسبة لسهولة القرار الذي اختارها وأمر بها. على الأقل من حق هذا الرأي العام أن يتساءل، ألا يمكن لمن ينفق عشرات المليارات على شراء أسلحة ستتحول إلى خرْدة، وطائراتٍ مقاتلة متقدمة لن يمتطيها أحد يوماً ما، أن يوفر بعض هذا المال، كيما يستثمره في مشاريع حقيقية لصالح فقراء العرب والإسلام؟
هذا التساؤل وعشرات من أمثاله، صار لها تصنيفٌ فارغٌ رائج منذ القدم، منذ أن اشترى ملكوت النفط وحلفاؤه، ليس منابر الإعلام وشاشاته المعروفة فحسب، بل لَجَمَ وحطّم معظَم الأقلام الحرة، وعَقَلَ أكثر الألسنة البريئة شرقاً وغرباً معاً. فحين أذيع خبر الصفقة عالمياً، لم يتم التعليق عليه إلا لماماً، كأنه خبر يتعلق بشراء أحد قصور الشاطئ الازوردي في الجنوب الفرنسي. لم يستهول أحد المسؤولين العرب الرقم الفلكي، ولا المهمة الأدهى (الحرب) المكرس لها كل هذا المال المهدور. وحدها إسرائيل لا يكف قادتها عن التبشير بالحرب القادمة. وقد كان الهدف المصرّح عنه إسرائيلياً هو الخلاص من حزب الله اللبناني، فهو أوقع بجيشها بداية الهزيمة الوحيدة التي كان يخشاها بن غوريون معتبراً أن كل حرب تخوضها الدولة العبرية يجب أن تكلل بالنصر، وإلا فإن هزيمة واحدة في حرب خاسرة قد تفتح الطريق نحو نهايتها. على هذا لا يمكن لإسرائيل أن تنتظر نهايتها ما دامت تجرجر أذيال الهزيمة السابقة، دون أن تُتبعها بحرب انتقامية تتصورها كاسحةً ولكن ربما ستؤكد الهزيمةَ السابقة قدراً نهائياً لها.
لكن سرعان ما اتسع نطاق الهدف من الحرب القادمة، تحت وطأة التدخل الأمريكي المباشر، وفرص موجبات الإستراتيجية الأشمل المتعلقة بمختلف المتغيرات في شبكية التوازن ما بين قوى الشرق الأوسط العربي وجواره الإسلامي.
هذه المساحة المناطقية، الجيوسياسية/إقتصادية معاً، تكاد تحتل محوراً مركزياً من المصير الإمبراطوري الغربي الأمريكي. وأحدث ما تخشاه الإمبراطورية المتهالكة من تطورات هذه المنطقة، هو أن ثمّة حراكاً، اندفاعياً، يوصف بالمبادرة الذاتية التي أمست تتجاوز حدود المقاومات الشعبية التي أنجزت حتى الآن مداخل واقعية لانكسارات خصومها المحليين، ومن وراءهم، وأهمها ولا ريب الزعزعة المزدوجة في ثقة إسرائيل بذاتها، وفي ثقة أربابها الغربيين بدورها ومستقبلها. تقول إن إنجازات المقاومات الشعبية قد أثمرت دفعاً معنوياً كبيراً نحو ارتسام مخطط آخر فوقي لعلاقات دول المنطقة فيما بينها. فالمقاومة جهزت معسكراً لها مفتوح الأبواب أمام مختلف أنظمة الحكم القائمة، حتى تلك التي ناصبتها العداء المستحكم منذ نشأتها.
هذا المخطط الأفقي يستدعي أولاً رفع شبكية المحاور ما بين معظم الأنظمة الحاكمة. فإن دخول الحوار الإسلامي (تركيا وإيران) يذكر الجميع بضرورة التعالي ما فوق مستنقعات الغرب الآسنة المفتوحة، والموزعة بين الكيانات القطرية، وداخل البعض منها، والارتفاع إلى مستوى المكونات الأصيلة للحضارة العربية الإسلامية، إلى إعادة الامل في اجتماع الأمم الثلاث، العرب والعجم والترك، فيما لم يعد يفرقها ماضي الانحطاط السابق، بل فيما صار يوحّد بينها راهنياً، من مختلف قوى النهضة المتكاملة التي قلما اجتمعت لأمم أخرى معاصرة.
إن فجراً قريباً، يُعلن في ضوئه الصافي بيان عن إنشاء دولة اتحاد الجمهوريات العربية والإسلامية، سيكون فجراً ليوم يولد فيه الموعد الحق للسلام العالمي.
بانتظار هذا الفجر هل يكفّ بعض العرب عن هدر أموال العرب والإسلام، تحت طائلة الحروب الأهلية والإقليمية بين الأشقاء، وتوفير الجبهة الواحدة لأمم العرب والعجم والترك في المواجهة الأخيرة المشروعة مع العصر الإمبراطوري الغربي المتهالك، وإجباره على سحب آخر مستعمرة نسيها وراءه، من أقدس أراضي المعمورة كافة.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى