صفحات ثقافيةياسين الحاج صالح

انفصال عن الجدار، مقالة في الثقافة والثورة الثقافية

null
ياسين الحاج صالح
هل من منطق عام نستخلصه من تلخيص سريع للعناوين المهيمنة في التفكير العربي المعاصر خلال العقود الستة الماضية؟ هذا ما نعتقده: إنه منطق التوزيع. ونخمن بوجود اقتران بين التوزيعية وبين الاستبداد في السياسة والتشدد في الدين والازدواج في الأخلاقية والريعية في الاقتصاد والإيديولوجية في المعرفة والوكالة في الوجود. نرجح بالمقابل أن هيمنة مقاربة إنتاجية تتوافق مع انفتاح في الآفاق السياسية والروحية والأخلاقية والاقتصادية والوجودية والمعرفية. هذه مقالة في الثقافة، تحاول تبين معنى خبرتنا المعاصرة وتطمح إلى الانفلات من طابعها التكراري أو الدائري.
“الجيل الاشتراكي”
بعد استقلال الدول العربية الأكثر حداثة، انشغل جيل أول من مثقفيها ومتعلميها بمسألة توزيع الثروة. في مصر والعراق وسورية، كان عقدا الخمسينات والستينات عقدا “الاشتراكية”. وسارت على نهجها الجزائر و”اليمن الجنوبي” في وقت لاحق. وحملت التوجه ذاته منظمات قومية عربية وشيوعية في أكثر الدول العربية. كان تأميم ممتلكات “الإقطاع والبرجوازية” (حسب اللغة البعثية السورية) وضرب الأسس الاقتصادية لسيطرة طبقة الأعيان التقليدية من مقتضيات بناء الدولة الوطنية في البلدان المعنية. لقد كانت أكثرية ساحقة من سكان “الأمم” الحديثة هذه مهمشة ومفقرة ومنبوذة خارج الأمة، فما كان يمكن تكون دول حديثة فيها ولا صعود نخب منحدرة من الشرائح الأقل هامشية وفقرا من الأكثرية هذه دون تلك “الإجراءات الاشتراكية”. وستعني الاشتراكية هذه شيئان: استيلاء النخب الجديدة، “البرجوازية الصغيرة”، على السلطة العليا بالانقلاب العسكري (أو “الثورة”)؛ والاستحواذ على الثروة الوطنية أو تأمين نفاذ واسع إليها من قبل النخب نفسها والشرائح التي تمثلها. هذا شيء جديد وثوري فعلا في بلداننا التي كان استقر توافق الثروة والمكانة والنفوذ السياسي فيها طوال قرون دون تغيير. وسيتجسد برنامج توزيع الثروة أو “الاشتراكية العربية” في حركات سياسية مثل الناصرية و”البعث العربي الاشتراكي” وجبهة التحرير الجزائرية. ومن مفردات هذا البرنامج الإصلاح الزراعي وتوزيع مساحات من الأرض على فلاحين محرومين، و”تأميم” الشركات والمشاريع الصناعية والتجارية المملوكة لبرجوازيين محليين أو لجهات أجنبية، فضلا عن تأميم المصارف واحتكار التجارة الخارجية، فضلا كذلك عن احتكار الدولة للتعليم والإعلام.
ولقد فرضت إشكالية توزيع الثروة ذاتها حتى في البلدان العربية غير الاشتراكية، فقد كانت قضية التأميم قضية الساعة في الستينات والسنوات الأولى من السبعينات حتى في بلدان الخليج النفطية. هذا فضلا عن هيمنة محققة لتنويعات مخففة من الخطاب الاشتراكي في الثقافة العربية عامة، وبدرجة ما حتى في هذه البلدان الخليجية.
على أن تأميم الثروة الوطنية وضع في يد نخب السلطة الجديدة أداة هائلة وغير مقيدة للسيطرة السياسية والاجتماعية ولتوجيه الأذهان والمدارك. الأداة هذه هي التي ستستأثر باهتمام قطاعات نشطة من الجيل التالي.

“الجيل الديمقراطي”
في وقت من سبعينات القرن الماضي أخذ يبدو أن كسر احتكار الثروة واستحواذ قطاعات اجتماعية أوسع عليها قد استنفد أغرضه. على الفور تقريبا أخذت تبرز مكانه مسألة توزيع السلطة. كان هذا مضمون “الديمقراطية” التي طرحها مثقفون ومعارضون سياسيون من أصول يسارية في الغالب في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، وذلك بالتوازي مع انطواء صفحة “المسألة الاجتماعية” التقليدية في البلدان المعنية ومع بروز شريحة ضيقة المليونيريين الجدد من محاسيب النظم الحاكمة وأهل ثقتها، ومع تفاقم استبداد النخب الدولانية (ومع صعود الإسلاميين أيضا). “حلت الثروة محل الثورة” على ما قال محمد حسنين هيكل بعد تمام انفصاله عن سلطة نظام السادات، لكن “الثروة” لم تستغن عن السلطة الضخمة التي أنشأتها “الثورة”. وإذ فقدت الثروة أية سلطة مستقلة، فسيبدو لمثقفي الجيل الثاني متعذرا الاستمرار في برنامج البناء الوطني في بلداننا دون تحقيق اختراق على صعيد توزيع السلطة التي كان التمديد الإيديولوجي لأولوية شاغل توزيع الثروة قد خدم تركيزها في يد أطقم حكم شعبوية. مسألة اليوم هي كيفية الاستحواذ على السياسة أو “تأميم” السلطة، والخصم هو الاستبداد أو الدكتاتورية. ورغم أنه لم يتحقق اختراق حاسم على هذا الصعيد في أي من البلدان العربية إلا أن تقدمات شكلية ومحدودة في الغالب تحققت في أكثرها. وإن تكن قضية الديمقراطية متعثرة اليوم، بعد انصرام جيل كامل من تصدرها سجل اهتمامات النخب الثقافية والسياسية المستقلة، فإن الأيام الذهبية للسلطة المطلقة الشعبوية باتت من الماضي. ولقد تحققت هنا أيضا هيمنة ثقافية لا جدال فيها للخطاب الديمقراطي تتجاوز المثقفين والأحزاب المعارضة إلى وسائل الإعلام العربية العامة (صحف مهاجرة وفضائيات..). وأخذت النظم القائمة نفسها تتحدث عن ديمقراطيتها، أو تبرر القصور الديمقراطي فيها بالخصوصية الثقافية أو بالأخطار الخارجية أو بمستوى التنمية الاقتصادية المتحقق.
ولأن الجيل الاشتراكي كان في السلطة (مصر الناصرية، البعث السوري والعراقي..) وخارجها (التنظيمات الشيوعية..) فقد استفاد من وسائل الإعلام الحكومية، الخطب والبلاغات الصوتية في الإذاعة بخاصة، فضلا عن الصحف والمجلات التي لم ينفذ الشيوعيون إلى غيرها. بعد حين صار التلفزيون هو الجهاز الأمثل لسلطات استبدادية وأبوية. أما الديمقراطيون الذين لم يتجاوزوا يوما دوائر المعارضة فقد كانت النصوص المكتوبة، بيانات ومقالات وكتبا، هو وسيطهم المحدود الانتشار إلى الجمهور العام.
وبينما كان من المدركات الأساسية في سردية الجيل الاشتراكي “المناضل” أو “الثوري” كفاعل تاريخي واع، و”الثورة” كاسم لعملية التحول التاريخي المأمول، والطبقة العاملة وحلفاؤها، أو “الجماهير الشعبية الكادحة” كبطل إيجابي في العملية هذه، و”البرجوازية الصغيرة” المتذبذبة كبطل سلبي، وبالطبع “الرأسمالية” أو “الرأسمالية التابعة” كعدو، فإن عالم الدلالات الديمقراطي مكون من “المعارض” أو “الناشط”، وهو يعمل من أجل “التغيير الديمقراطي”، وهدفه التخلص من “الاستبداد” أو “الدكتاتورية”، ولمصلحة “الشعب” (الديمقراطية العربية مثل الاشتراكية العربية شعبوية إلى حد كبير). والقيمة التي ينحاز لها الجيل الاشتراكي هي “التقدم”، فيما ينحاز الجيل الديمقراطي إلى “الحرية”.

“الجيل العلماني”
على أن أيا من الجيلين السابقين لم يهتم بقضية توزيع المعنى، أعني الشراكة في المعاني العامة الشرعية أو الاستحواذ الأوسع اجتماعيا على المعاني التي تعرف الحق والشرعية والحقيقة والأمة. لكن يبدو لنا أن قضية توزيع المعاني أخذت تشغل منذ الآن، وستشغل أكثر في السنوات القادمة، موقع الصدارة في انشغال النخب المثقفة الطليعية في البلدان العربية. والخصم النوعي لمبدأ توزيع المعنى هو “السلطة الدينية” التي تجعل من نفسها مقر السيادة الفكرية والروحية، ومصدر شرعية الأفكار الأخرى القادر على التكفير والحرمان من الشرعية. كما يبدو الاهتمام الناهض بقضية المعنى منتظما تلقائيا وفق مقاربة توزيعية، تعنى بتوزيع السلطة الرمزية بين الحداثة والدين. وفي هذا الشأن لا تختلف العلمانية المعنية بتوزيع كل من المعاني الدينية و”الشريعة” والمعاني الحداثية و”القوانين الوضعية” على المجالين الخاص العام على التتابع، عن الديمقراطية التي انشغلت بتوزيع السلطة، ولا عن الاشتراكية التي اهتمت بتوزيع الثورة.
ويستفيد الداعية العلماني من وسيط إعلامي جديد نسبيا هو شبكة الانترنت، إلا أن استفادته كتابية أساسا، يشغل الصوت والصورة موقعا ثانويا فيها (هذا وضع محدد ثقافيا على الأرجح، فالثقافة العربية ثقافة كلمة لا تزال). والعدو هنا هو “الأصولية”، والقيمة هي الحداثة.
وتسجل قضية توزيع المعنى حضورا متصاعدا، بينما لم يتحقق كما قلنا تقدم حاسم في مسألة توزيع السلطة، وبينما تعود الثروة إلى التركز في أيدي شرائح من “برجوازيين جدد” منحدرين من النخب الشعبوية. أي أن الجيل الثالث لمرحلة ما بعد الاستقلال العربية يجد نفسه أمام ثلاثة أجيال متراكبة من المشكلات: احتكار المعاني الشرعية من قبل الإسلاميين، واحتكار السلطة من قبل أطقم الحكم وريثة الشعبوية، واحتكار الثروة من قبل “البرجوازية الجديدة” التي تكونت من زبائن النظم الشعبوية وأهل ثقتها وجيل أبناء مؤسسيها.

من التوزيع إلى الإنتاج
ونقطع بأن لا يتحقق لهذا الجيل الثالث أكثر مما تحقق لسابقيه إن لم يجر الانتقال من مشكلات التوزيع إلى مشكلات الإنتاج: إنتاج الثروة والسلطة والمعنى. لقد أخفقت الاشتراكيات العربية لأنها انشغلت بتوزيع ثروة قديمة متراكمة أكثر مما بإنتاج ثروة جديدة. ولعل هذا ما ساقها إلى الاعتماد على الريع الاستخراجي (العراق، الجزائر، ليبيا)، أو البحث عن ريع سياسي: مصر (مساعدات خليجية ثم أميركية) وسورية (خليجية وسوفييتية، واستغلال لبنان). وإذ بقي الفائض الوطني محدودا جدا بينما يتزايد السكان بسرعة، فقد ارتفعت قيمة السلطة كثيرا لأن من يحوزها يحوز الموقع الأفضل للتحكم بالموارد الوطنية وتحديد دائرة المستفيدين منها من الأعوان وأهل الثقة والمحاسيب. هذا يفسر مبادرة النظم المعنية إلى سحق المعارضات السياسية وتعذر تحقيق اختراق ديمقراطي. فالسلطة ليست مجرد سلطة أو تفويض سياسي هنا، إنها أيضا مفتاح الثروة والنفوذ والهيبة. لكن هذا الشرط يسهم أيضا في تفسير صعود الإسلامية، إن كحركات أو تنظيمات أو كتدين اجتماعي متوسع. ففشل النخب الشعبوية في عملية البناء الوطني وعودة الفقر إلى التنامي وتدهور مستوى الخدمات الحكومية الأساسية، التعليم والصحة والسكن، خلق بيئة ملائمة لتنشيط الغريزة الاحتجاجية الإسلامية، الحية دوما. ثمة أمة متخيلة هنا، إسلامية، تطمع أن تحل محل أمم يتعثر بناؤها فلا تكاد تتماسك. وثمة نخب مهمشة بسبب انغلاق النظم السياسية تجد في الدين منصة للوثوب على السلطة العامة أو المنافسة عليها. ونضيف أن صعود الإسلامية الاجتماعية يتمفصل اليوم أيضا مع طلب “البرجوازية الجديدة” على “سلع روحية” تضمن راحة بالها وتخفف من وطأة شعور بالذنب يقترن عادة بالثروات الواسعة.
هذا فضلا عن أن الحكومات ذاتها، وقد تطورت لها خصائص “سلطانية جديدة” (حكم وراثي، مركز سلطة متعال، تنظيم مللي للمجتمع، علاقات زبونية ومحاسيبية، هاجس الفتنة الدائم..)، أخذت “تتمشيخ” (عزيز العظمة) وتنافس التيار الإسلامي الصاعد اجتماعيا وثقافيا على الإسلام، وإن لم تكف عن محاربته سياسيا. أي أنها تقبلت نوعا من تقسيم عمل مع الإسلاميين: لها السلطة العليا، وله المعنى المؤسس للشرعية؛ وكلا هذين باب للنفوذ والثروة والمكانة والهيبة. وعلى هذا النحو تكونت شرعيتان وسيادتان في مجتمعاتنا: سيادة سياسية تحتكر العنف، وسيادة معنوية إسلامية. تتمتع الأولى بالسلطة وبشرعية أمر واقع، والثانية بشرعية الشرعيات: تعريف الأمة والشرعية ذاتها. وهما تتنازعان العمومية أو الولاية العامة، السمة السيادية الثانية إضافة إلى احتكار العنف. فالإسلاميون يعرفون الأمة بأنها مسلمة، مسقطين من حسابهم الأقباط في مصر، والمسيحيين والعلويين والدروز والاسماعيليين والشيعة في سورية..، فضلا عن غير المؤمنين، أو باذلين لهم “تسامحا” مشروطا بقبولهم سيادة إسلامية (سنية) غير منازعة؛ بينما تزعم الدول لنفسها وكالة عامة عن أمة متعددة الأديان والمذاهب، لكنها تنكر على سكانها المساواة الحقوقية والسياسية التي تعرِّفهم كمواطنين. وقد يمكن النظر إلى التخوين والتكفير الشائعين في بلداننا كسلاحين لحماية احتكاري السلطة والمعنى.

إنتاج السلطة
وقد يكون في أصل توزيع السلطات الدينية والسياسية على هذا النحو ضعف إنتاج السلطة في البلدان العربية.
في كل مكان، تنتج السلطة على حساب الحرية البشرية الطبيعية أو الخام. لكن مشكلة نمط إنتاج السلطة في العالم العربي هي ضعف قدرته على إنتاج حرية مصنعة، فلا يستطيع أن يجرد الأفراد والجماعات (عشائر، طوائف..) إلا من قليل من حريتهم الطبيعية، ولا يعود عليهم إلا بقليل من الحرية الصنعية أو المتمدنة، أي الانضباط الذاتي. تجدنا “رعايا”، نتمتع بحريات خام لا يحوز ما يدانيها الغربيون (ننشر فضلاتنا في كل مكان، لا نلتزم بقوانين السير، نرشو ونرتشي ونغش، نخاف السلطات ولا نحترمها، ..)، لكن حرياتنا المتمدنة لا تداني ما يتمتعون هم به. ولا يكاد “الاستبداد” عندنا يكون شيئا مختلفا عن قوة برانية خام هي ذاتها، يحوزها أناس خام هم ذاتهم (عنيفون، جشعون، شخصيون جدا، يتصرفون هم أنفسهم بدلالة أصولهم وفصولهم، لا يسوسون أنفسهم، غير منضبطين،..). إن الاستبداد السلطاني الجديد والوضع الرعوي الخام للأفراد والجماعات وجهان لا ينفصلان لنمط الإنتاج السياسي العربي. كيف نفهم هذا الشرط الذي لا يمكن أن يعود إلى فساد الحكام وأنانيتهم وحدها؟ هل له محددات ثقافية وتاريخية ودينية؟ أم بالأحرى محدداته اقتصادية واجتماعية وجيوسياسية؟ هذا سؤال أساسي يتعين أن يهتم به “علم السياسة” كما سنقول بعد قليل.
من جانب آخر، تشكو معظم الدول العربية من أزمة هيمنة، أي مشروع ثقافي سياسي جديد، صانع لإجماع واسع فيها. فمن شأن الهيمنة أن تقتصد في العنف من جهة؛ وأن تؤسس لشرعية جديدة، فتغني، من جهة ثانية، عن شرعية متعالية وغير سياسية، مستمدة من الدين أو الثقافة الموروثة. والأهم أن الهيمنة قد تتيح تكون أكثرية جديدة تشكل أساسا لانضباط جديد ومواطنة جديدة. إنتاج السلطة بكميات أكبر وبنوعية أفضل يقتضي في مجتمعاتنا اليوم تكون هيمنة بانية لسلطة جديدة. وإنما بسبب تدني إنتاج السلطة ونوعيتها تعتمد نظم الحكم إلى حد كبير على العنف وتنتحل شرعية تتصل بالهوية والخصوصية. لكن هذا لا يحل أزمة الهيمنة، وتاليا أزمة السلطة. فتبقى هذه مؤسسة على العنف. وتبقى مفتقرة إلى بعد فكري ذاتي. ويبقى الإجماع المؤسس للأمة مفقودا. فهل يمكن أن تنشا هيمنة جديدة دون ثقافة جديدة؟ أي دون ثورة ثقافية؟
هذا أيضا ما يتعين أن ينشغل به علم السياسة عندنا. فقد نلاحظ أن الجيل الديمقراطي الذي انشغل بنقد الاستبداد لم يتجاوز أفق توزيع السلطة ولم ينتج تأليفا أساسيا في علم السياسة. هذا ببساطة لأن علم السياسة مبحث وصفي وتحليلي ينشغل بدراسة نظام السلطة السياسية والاجتماعي القائم في تكونه التاريخي وأسسه الاجتماعية، ويبحث في نمط إنتاج السلطة..، وليس مبحثا معياريا يستفرغ جهده في رفض نظام السلطة القائم وتزكية صيغة جديدة لتوزيعها العادل، على نحو ما نميل عموما إلى تصوره. وتندرج في مبحث علم السياسة هذا قضايا بناء الأمة ومشكلات الطائفية والاندماج الوطني والجيش والقمع ووضع الدين وأجهزته والشرعية والشروط الجيوسياسية والهيمنة والعنف والثقافة والسلطانية والرعوية الجديدتين…، ما لا يبدو أنه يجتذب عموم الناشطين الديمقراطيين العرب ممن يكتفون بالتحريض ضد الاستبداد والتبشير بالديمقراطية، وممن يحملون تصورا طوباويا عن السياسة كحوار عقلاني يعتمد الإقناع والمنطق البرهاني الموضوعي. إن من شأن ازدهار مباحث علم السياسة أن يكون برهانا على أهلية الحرية في مجتمعاتنا وثقافتنا أكثر بكثير من هجاء الاستبداد والدعوة إلى الحرية التي تعرّف الجيل الديمقراطي.

إنتاج الثروة
بالمثل، كان إسهام الاشتراكيين في مجال علم الاقتصاد ضئيلا لأنهم انشغلوا بدورهم بتوزيع الثورة لا بإنتاجها، وبهجاء الرأسمالية على تعلم شيء مفيد عن الإنتاج الرأسمالي. هذا رغم أن مرجعية أكثرهم، الماركسية، كانت تتكلم كثيرا على الإنتاج وأنماط الإنتاج. إلا أنهم استغنوا باستهلاك المرجعية تلك وتعريف أنفسهم بها عن تطويرها و”إعادة إنتاجها”.
ولعله يتصل بذلك أن الطبيعة كفكرة وكمحيط حيوي نعيش فيه غائبة عن تفكيرنا ونشاطنا العام. وقد لا تكون هناك ثقافة معاصرة أشد انفصالا عن الطبيعة من ثقافتنا المعاصرة (والقديمة؟). تتحالف هنا بدواتنا “الأصيلة” مع بدائيتنا المعاصرة لإبقاء الطبيعة خارج أفق تفكيرنا واهتمامنا العام، أي خارج الثقافة. ورغم تدني مستوى إنتاج الثروة و”السيطرة على الطبيعة” عندنا إلا أننا نعاني من مشكلات بيئية تفوق ما تعرفه مجتمعات لطالما تميزت بنزوعها إلى السيطرة، على الطبيعة كما على غيرها. إننا نستهلك الطبيعة ولا نستثمر فيها. وإن التصحر والتلوث والضجيج، والتعامل مع المحيط بعدوانية، واعتبار كل ما هو خارج بيوتنا الخاصة حاوية قمامة عامة مباحة هي سمات أصيلة لحياتنا اليومية وثقافتنا القومية.
وبالقدر نفسه يغيب عن إدراكنا مفهوم العمل كفعل إنتاجي يحول الطبيعة والعاملين أنفسهم، ولم نطور ثقافة عمل حديثة تسجل فارقا مهما عن الموروث الذي يميل إلى التقليل من شأن العمل اليدوي لحساب قيم “العلم” (الديني) أو التملك أو السلطة. والعلاقة بين المعروض السلعي الذي نستهلكه وبين الطبيعة كأصل له والفاعلية الإنتاجية كوسيط تبدو بدورها غائبة عن ثقافتنا وإدراكنا العام.

إنتاج المعنى
ومثل ذلك ينطبق على إنتاج المعاني أيضا. فقد تكون ثقافتنا من الأكثر تجريدا في العالم والأقل حفولا بالمحسوس والخبرة الحية والتجربة المعاشة، ومن الأشد انجذابا إلى ماضيها والأدنى استقلالا عن “تراثها”. وهي لم تعرف بعد أساسا للحقيقة غير الوحي. أي أساس للحقيقة غير هذا؟ هذا ما يفترض أن يهتم به “علم إنتاج المعنى”، أي “الفلسفة”. ونجزم من جهتنا أن سيادة التقريرات التعسفية في تفكيرنا وكتابتنا مردها ضعف انشغالنا بمسألة أساس الحقيقة. ولعلنا نعيش في عالم غير حقيقي، حياة بالوكالة، لأنه منذ انقطع الوحي لم ننشغل بمسألة أساس صحة كلامنا، مع ما هو معلوم من أننا نقول أشياء كثيرة، إلى حد أن قائلا منا رأى أننا “ظاهرة صوتية”. وسيرة البحث عن أساس جديد للحقيقة اسمها الفلسفة، وهي ما تضمن للغربيين كلاما جيدا قويا (ووجودا أصيلا).
دون وحي ودون فلسفة يستسلم منطقنا للتعسف، وهذا لا يفترق عن توأمه، الاستبداد في السياسة. فإن صح ذلك كأن أول إصلاح سياستنا إصلاح منطقنا.
ونفترض أن ما يمكن أن يؤسس لتوزيع جديد للمعنى في مجتمعاتنا هو تكون حقل معان جديد، مختلف عن المعاني الدينية، ننتجه نحن. والقول إن “الحداثة” هي حقل المعاني الجديد لا يفيد شيئا. لماذا؟ لأن الحداثة توجد لدينا الآن في شكل موضوعي وغير سيادي. في شكل “اندراج” مادي لمجتمعاتنا في دينامياتها وتنظيماتها الكونية، لا في شكل وعي وذاتية. ويسود لدينا افتراض غير مبرهن بأن مشاركتنا في الحداثة أمر بديهي لا إشكال فيه. هذا غير صحيح في رأينا. إن امتلاك الحداثة مرغوب وممكن وواجب في آن معا. ولكن حداثة سيدة، نظاما مستقلا لإنتاج المعنى، لا تتكون دون الصراع مع الدين ومنازعته سلطانه وسيادته (سأخصص تناولا مستقلا لقضية المشاركة في الحداثة والصراع مع الدين).
إن “استشكال” الحداثة، على ما يقول مثقفون مغاربة، أي جعلها شأنا إشكاليا، هو ما يمكن أن يكون مدخلا إلى تفكير نقدي نافذ، تفلسف، في شأن الحداثة والدين والعلمانية، يقمعه الآن اعتبار ثلاثتها حلولا ناجزة. والفلسفة، مرة أخرى، هي “العلم” الذي يمكن أن يكون وعيا ذاتيا لعملية إنتاج نظام معنى جديد. وهي أيضا سجل الصراع مع النظام الديني للمعنى والاستقلال عنه. وعبر هذا الصراع الفكري والروحي والأخلاقي والسياسي الذي نتصوره مديدا (القرن الحادي والعشرين!) قد تتكون هيمنة جديدة وشرعية جديدة، غير دينية.
وخلافا لتصور شائع، ليست العلمانية هي التي تمكننا من تجاوز الانقسام الديني للمجتمع والتطييف المحتمل للسياسة والسلطة، بل بالأحرى نقلة ثقافية كبرى، ثورة ثقافية، تتجاوز العالم الديني ككل وانقساماته وتصورات الهوية المبنية عليه. فمن غير المحتمل أن يتحقق تخفيض في مرتبة الهويات الدينية وإزاحتها إلى مجال الخاص دون تكون ثقافة جديدة، حية وعامة. أي أيضا هيمنة جديدة هذا ربما يمر بالصراع مع الدين، أو مع الإسلام تحديدا، لكونه الدين المهمين والأكثر تحديدا لهوية معتنقيه، وربما الأكثر احتياجا هو ذاته إلى الانفصال عن تاريخه وفتح صفحة تاريخية جديدة. العلمانية نتاج مرجح لهذه العملية، وليست شرطها ولا بديلا عنها.

نحو “حضارة” إنتاج
نخلص إلى أنه ثمة قصور من بنية واحدة لكل من اشتراكيتنا وديمقراطيتنا وعلمانيتنا المعاصرة: لزومها مقاربة توزيعية وعدم تخطيها إلى مجال الإنتاج. ومن جهة أخرى يبدو أن لعلاقتنا العدوانية والاستهلاكية بالطبيعة، وللاستبداد كعلاقة لسلطات مطلقة برعايا، وللتعسف كعلاقة لتفكيرنا بخبرتنا الحية، لها البنية ذاتها أيضا. وكما لا “تمثل” سلطاتنا مواطنيها، لا “تمثل” مفاهيمنا خبراتنا الحية، ولا “تمثل” سلعنا عملنا وفعلنا في محيط حي نعيش فيه.
والتحول نحو حضارة إنتاج هو عنوان التحول الفكري والسيكولوجي الذي لا مناص من ملاقاته خلال العقود القادمة. أما معيار نجاحنا فربما يكون مساهماتنا في علوم الاقتصاد (إنتاج الثروة) والسياسة (إنتاج السلطة) والفلسفة (إنتاج المعنى). ونجازف بالقول إن هذا يقتضي أن نظهر “احتراما” أكبر، لا أقل، لنظم الثروة والسلطة والمعنى القائمة. لقد أخفق الاشتراكيون لأنهم أحلوا رفض “الرأسمالية” والعداء لـ”البرجوازية” محل الاعتراف بهما ومعرفتهما وتقديرهما والتعلم منهما. وأخفق الديمقراطيون لأنهم استغنوا بهجاء الاستبداد ورفض الدكتاتوريات واحتقارها عن فهمها وإدراك أسس سلطانها وشروط استمرارها. ومثلهما لا يحقق التفكير العلماني تقدما لأنه هو الآخر مستسلم لنزعة نضالية، يفضل إدانة دكتاتورية المعنى الإسلامية على التعرف إلى أسرار قوتها ومنابع سلطانها الخارق. إن التحرر من النضالية في جميع الحالات، و”استشكال” كل من الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية، هو ما من شأنه أن يؤسس لعلوم جديدة ولسيادة جديدة، أي لأساسي الموضوعية والذاتية. ونفترض أن الأساسين متلازمان، وأن تحولات السيادة والعلم تقترن بثورة ثقافية، لا شيء يمكن أن يغنينا عنها.

ثورة ثقافية؟
على أن التحول نحو مقاربات إنتاجية لا يحل قضايا المساواة الاجتماعية، والمساواة الحقوقية (أمام القوانين) والسياسية (وراء القوانين، أي في صنعها؛ والتمييز هذا بين معنيي المساواة الحقوقية والسياسية لميشيل فوكو)، والمساواة السيادية، إن صح التعبير، التي نعرفها بأنها المساواة في صنع السلطة أو في الحرية، أي الشرعية المتساوية لتيارات ثقافية واجتماعية وسياسية مختلفة، استنادا إلى ما تصنع من معان وصور للحياة لا إلى انضباطها بمبدأ أو معنى خارج عنها، الأمر الذي لا يمكن أن يتأسس على أرضية دينية.
إلا أن من شأن التحول نحو مقاربة إنتاجية أن تعدل تصورنا لكل من المسألة الاجتماعية والسياسية والثقافية. إذ يكف الانشغال بالمسألة الاجتماعية أن يتجه نحو توزيع عادل لثروات متاحة، تشرف عليه جهات تضع نفسها خارج وفوق نظام إنتاج الثروة، ليغدو تمكينا للفئات الاجتماعية الأضعف من تنظيم قواها وفرض موازين قوى مؤاتية من أجل نصيب أوسع لها في الثروة الوطنية المتنامية. وهو ما يتحتم أن يصطدم بحدود نظام السلطة القائم، الأمر الذي يقتضي تشكل النظام هذه بصورة تتيح لمزيد من القوى الاجتماعية المنظمة أن تستحوذ على السياسة وتتدخل في المجال العام، أي تتمتع بمساواة حقوقية وسياسية، وهذا بدوره سيصطدم بحدود نظام إنتاج المعنى القائم، أي احتكار الدين للمعاني والقواعد الشرعية أو ضعف نظام إنتاج المعاني غير الديني، الأمر الذي يقتضي كسب معركة إنتاج المعاني المستقلة، العامة والعقلانية والسيدة، المعركة الثقافية أو معركة السيادة. وهنا لا نستطيع الاستناد إلى أي شيء. نخوض معركة الاستقلال الفكري والروحي والمعنوي الحقيقية وظهورنا إلى الجدار. إنها معركة عضال وجذرية في آن معا. تعذر الفوز بها الآن لا يلغيها، بل يرتب ضرورة الفوز فيها في وقت لاحق. ذلك أن البديل الوحيد عن الفوز هو تحجر مجتمعاتنا ودولنا، أو بقائنا قيد وجود بالوكالة، متخلع الأركان، هامشي ومسكين، كحالنا اليوم. فليس وعينا وحده معدوم الأصالة اليوم، بل وجودنا هو غير الأصيل، أو غير السيد. وهو لذلك قابل للحذف أو التقليص دون أن يخسر العالم شيئا مهماً.
تحقيق اختراق فكري ووجودي أمر ملح للانفصال عن الجدار الذي ارتطمنا به ومسخنا إليه. جدار الوكالة في المعرفة وفي الوجود، الإيديولوجية و”الأصالة” (حين تعني هذه العودة إلى ما يفترض أنه “الأصل” بدل ابتكار الأصول وخلق الحياة).
لا انفصال عن الجدار بحصر خياراتنا على مستوى الثروة بين الاشتراكية والرأسمالية. ما قد يمثل اختراقا وانفصالا هو، نكرر، علم الاقتصاد، أي التساؤل عن كيفية إنتاج الثروة وعن الطبيعة والعمل والعلم والتكنولوجية والذكاء الصانع.. وما قد يكون يشق طريقا مفتوحا هو علم السياسة، أي إنتاج السلطة والانضباط والحكم والشرعية والهيمنة والتنظيم، وليس الانحصار بين الديمقراطية واستبداد ربما يسند ذاته إلى الوطنية أو القومية..؛ وما قد يكون اختراقا محررا هو الفلسفة كصنع للمفاهيم حسب جيل دولوز، وانشغال بالمشكلات والمسائل، بدل التوقف عند واحد من “حلين” جاهزين: الإسلامية أم العلمانية؟
نقد الإيديولوجية والوكالة والاشتغال الصبور عليهما هو ما قد يؤسس للعلم والسيادة. أي للحرية. ولـ”علم الحرية” أو “العلم الحر”، أي الفلسفة.
يتعلق الأمر بثورة ثقافية، مؤسسة لهيمنة جديدة، ومحولة لعلاقتنا بالطبيعة، إن كبيئة أو كحرية خام أو كمعطى حسي.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى