صفحات ثقافية

الروايــة الفرنســية فــي خطــر

null
اسكندر حبش
2000 ـ 2010. بسرعة، مرّت هذه العشرية الأولى من القرن الجديد، التي حملت معها الكثير من التغيّرات والتحولات في المفاهيم التي أُضيفت، على العشرية الأخيرة من القرن الماضي. فإذا كانت تسعينيات القرن العشرين امتازت بفكرة واسعة، كبيرة، تتمثل في سقوط جدار برلين وما نتج عنه من انهيار للمعسكر الاشتراكي، وما نتج عن هذا الناتج أيضا في جميع المجالات، وبخاصة على المستوى الثقافي، حاولت السنوات الأولى من العقد الجديد أن تستكمل «بناء» ما أنتجه هذا التحول والتغيير، من دون التسمرّ في «أوحاله»، أقصد أنها حاولت أيضا أن تذهب إلى مرحلة أبعد منها، عبر إنتاجها لخطابها الخاص.
قد يُطلق البعض على هذه العملية، خطاب ما بعد سقوط الأنظمة الشمولية، وقد يقول البعض الآخر، إنه خطاب ما بعد الحداثة، وقد يجد ثالث تسمية ما بعد المرحلة التفكيكية، بينما رابع سيجد بالتأكيد توصيفا آخر… لكن مهما تعددت التسميات، لا بدّ أن نعترف أن العالم تغيّر كثيرا، وتبدلت مفاهيمه بشكل جذري، كما أنه لم يعد يشبه تلك المرحلة التي كنّا فيها في مقتبل العمر، حيث رأينا الأمور بطريقة أخرى، وحيث فكرنا بكل ما مرّ بنا بطريقة مخالفة إلى أقصى درجات الاختلاف.
من هنا، لا بدّ لنا أن نعترف، بهذه الشرخ الذي يحصل اليوم، بين تصارع المفاهيم (وهذه هي حالة الحركة الإنسانية وشرطها منذ الأزل)، أو لنقل بين تصارع الأجيال، تلك العبارة التي كانت سائدة، في ذلك الزمن الذي يبدو اليوم وكأنه زمن «بعيد»، على الرغم من أن السنوات القليلة، ليست بهذا الفارق التاريخي الشاسع، على الأقل رقميا، لكنها فعلا مرحلة كبيرة ومغايرة من حيث إنتاجها لمفاهيم جديدة، تقطع مع سياقات الماضي بجذرية كبيرة، لذلك تبدو أنها تحولات قاسية لمن لا يزال واقفا عند تخوم سياقاته التي تأسس عليها.
لا أريد بالطبع أن أقول إنها مفاهيم خاطئة، إذ لكلّ واحد الحق، في خياراته التي يلتقطها من بين هذه الخيارات الواسعة، المتعددة الاتجاهات، التي تقدمها إلينا الحياة المعاصرة. من هنا، ليست غايتي، في هذه العجالة، تحديد سمات هذا الاختلاف، بل هي محاولة ما، لقراءة بعض الظواهر الصغيرة، التي وفرتها لي متابعاتي، للثقافة الفرنسية تحديدا، التي غالبا ما نطرح عليها اليوم سؤالا كبيرا: ماذا تقدم هذه الثقافة مع بداية هذا القرن؟ لأننا نميل غالبا إلى اعتبار أن ثمة تراجعا في هذه الثقافة، بحيث أنها لم تعد تنتج «تلك الكمية» من الأفكار والأحداث وما شابه، مثلما عودتنا في العقود السابقة. لكن هل هذا صحيح؟
لا بدّ أن نعترف، بداية، أنه من الصعب تحديد كنه هذا الاختلاف، وبخاصة حين لا يكون المرء واقفا في قلب الحدث، في قلب هذا المجتمع الذي ينتج هذا الحدث. من هنا، ترتكز هذه الأسطر، على متابعة «قرائية»، بالدرجة الأولى: قراءة كتب ومجلات، تأتي إلينا من بعيد، لتشكل مرجعيتنا الوحيدة، في أيّ فكرة نطرحها على هذه الأحداث. بهذا المعنى ألتقط الظاهرة الأولى: «هل الأدب الفرنسي في خطر؟».
لا بد أنكم لاحظتم، في هذا السؤال، استعادتي لعنوان كتاب تودوروف «الأدب في خطر» الذي أسال الكثير من النقاشات في عام 2007، حين صدوره، إذ وجه عبره «ضربة شديدة»، و«سؤالا موجعا»، إلى ما ينتج اليوم في مجال الرواية الفرنسية المعاصرة، على الرغم من الكمية الهائلة للروايات الفرنسية التي تصدر كلّ عام، إذ وفق المراجع الفرنسية، هناك أكثر من 600 رواية فرنسية تصدر في العام الواحد، بالإضافة إلى سيل الروايات المترجمة إلى هذه اللغة.
يجد تودوروف أن هناك ثلاثة أمراض تعاني منها الرواية (والأدب) الفرنسية المعاصرة: «النيهيلية» (العدمية) و«الشكلانية» و«الأنانية»، وهذه الكلمة الأخيرة يستعيرها بمعناها الفلسفي، أيّ أن المقصود بها، اعتبار الكاتب لنفسه أنه شخص وحيد في العالم. من هنا يعيد الباحث، في كتابه هذا، أسباب هذا الاتجاه إلى التيارات الرومنسية والطبيعية وحداثة الطليعيين. والنتيجة، من ذلك كله، أننا نجد أنفسنا أمام أدب ـ وفيما هو يحتفل بنفسه على أنه شكل صاف مكتف بمعناه الخاص ـ لم يعد يلعب دوره «الكلاسيكي» الذي كان متمثلا في توصيف العالم وتأويله. إذ أنه أدب لم يعد يخبرنا أي شيء حول «الشرط الإنساني»، كما أنه لم يعد يساعدنا على العيش.
وعلى الرغم من أن تودوروف، في كتابه هذا، لا يخص الرواية المعاصرة إلا ببضعة أسطر ـ نجده أنه يتحدث عن نفسه أيضا ـ إذ حين يقول أن هذه «الأنانية» التي تعرفها الرواية المعاصرة، ليست في النتيجة سوى ما اصطلح على تسميته بـ «التخييل الذاتي» في الرواية الفرنسية المعاصرة. (وأستعمل هنا تعبير «التخييل الذاتي» وفق المعنى الذي اقترحه سيرج دوبروفسكي العام 1977 لوصف روايته «ابن»، إذ حدّد ذلك بالقول إن التخييل الذاتي هو «نوع أدبي يتحدد بميثاق مضاد، أو متناقض جامعا بين نوعين سرديين متقابلين، أي أنه سرد يتأسس ـ كما وفق السيرة الذاتية ـ على مبدأ الهويات الثلاث (الكاتب هو نفسه الراوي والشخصية الرئيسية) الذي يستند، في هذه الأثناء، إلى المتخيّل في كيفيته السردية كما في تعليله التناصي). معللا ذلك كله، بمقارنته ما بين «ستاندال» و«فلوبير»، إذ اتهم هذا الأخير بأنه ضحّى بمتعة أن يروي على مذبح الأسلوب.
ثمة جزء من الصواب في «اتهام» تودوروف، إذ كيف يمكنك فعلا أن تقرأ العديد من الكتاب الذين ينتمون اليوم إلى هذا التيّار، إذ لا يقدمون شيئا جديدا بالمعنى الفعلي للكلمة، لكن أيضا علينا أن نميز أن هذا التيار يضم العديد من الكتاب الحقيقيين، لعل أبرزهم بيير ميشون وجان رولان (وغيرهما) إذ ينطلقان من هذا المفهوم، ليفردا مساحة أخرى، ابعد من هذه الحدود الضيقة. من هنا تبدو طروحات تودوروف أنها طروحات قابلة للنقاش، فيما لو قصرناها على ذلك، إذ من الصعب وضع الرواية الفرنسية المعاصرة بأسرها وفق هذه الخانة الواحدة، إذ أنها رواية واسعة، معقدة ومتشعبة، ولعلّ ما قدمه فيليب كلوديل، على سبيل المثال لا الحصر، بدءا من روايته «الأرواح الرمادية»، خير دليل على أن الرواية الفرنسية الراهنة لم تسقط كليّا في هذه اللعبة الروائية، حيث يفرد مساحة واسعة لقراءة «الشرط الإنساني» وفق ما يقتضيه بحث تودوروف، الذي صدر ـ وعلينا أن لا ننسى ذلك ـ في العام 2007، أي في العام الذي صدرت فيه رواية جوناثان ليتل «العطوفات». وربما كان في صدورها ونيلها غونكور، ما يدعم فكرة تودوروف.
لعلّ اسم جوناثان ليتل، يقودنا إلى الفكرة الثانية التي أنوي الحديث عنها، وهي حضور الكتّاب، الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، والذين يكتبون باللغة الفرنسية. لا أريد هنا أن أستعيد تعبير «كتاب فرنكوفونيين» لأنه يحيلنا بدوره إلى مفاهيم قديمة، تخلّى عنه أبطاله أنفسهم.
مساحو المدن
ففي العام 2007 أيضا، صدر بيان «الـ44» الذي نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية والذي حمل عنوان «من أجل أدب ـ عالم بالفرنسية». تعبير «أدب ـ العالم»، وهو تعبير مقصود به، عدم السقوط في مفهوم الفرنكوفونية الضيقة (بالأحرى ينعى موقعو البيان الفرنكوفونية، ليعلنوا موتها)، للانطلاق نحو أفق أرحب، وبعيدا عن هذا «المفهوم» السياسي، الذي لا بدّ أن يحيلنا إليه المفهوم الفرنكوفوني الصرف، من حيث هو «لغة» فقط، أو مثلما يحاول البعض أن يتظاهر من خلاله بكونه أشبه «بكينونة أنتروبولوجية». طالب الموقعون بأدب غنيّ عبر جميع الآداب التي تكتب بالفرنسية لتتحرك عبر «الرغبة في تذوق غبار الطرقات ورعشة المكان الآخر، ولتلتقي بنظرة المجهولين». وغمز البيان أيضا من قناة «المفكرين ـ المعلمين» المسيطرين على الأدب والنشر الذين اعتبروهم «مخترعي أدب لا هدف آخر له إلا نفسه» إذ هو أدب «ينظر إلى نفسه حين ينكتب». بمعنى آخر كان المقصود من هذا البيان «ورثة الرواية الجديدة والبنيوية والتفكيكية الذين تاهوا اليوم في الشكلانية والتخييل الذاتي.
بيان إن دل على شيء، فهو يدل إلى هذه النظرة التي تجمع الموقعين مع ما جاء في كتاب تودوروف من أن الأدب في خطر. إذ أن الرواية، ليست هي الرواية «الباريسية» مثلما يحاول ناشرو باريس فرضها على الذوق العام، أي على القارئ بالدرجة الأولى. وهذا ما يبدو واضحا في عمليات الجوائز الأدبية التي تحاول أن تخرج من هذا المفهوم لتذهب إلى أبعد قليلا. فنحن لو نظرنا إلى غالبية الجوائز الأدبية الروائية الفرنسية التي منحت في السنوات الأخيرة لوجدنا أنها منحت للعديد من الكتاب الذين اختاروا الفرنسية وسيلة تعبير. بالتأكيد لا تصنع الجائزة أي كاتب في العالم، لكننا لا ننكر أنها تصنع له حضورا ما. بهذا المعنى، لم تعد هذه الرواية، رواية فرنسية صافية، على الرغم من لغتها، إذ دخلت عليها العديد من العوامل الأخرى.
أمام ذلك، لا بدّ أن يقودنا هذا، إلى العودة إلى طرح تودوروف، هل حين يتحدث عن الرواية الفرنسية، يلتفت إلى هذه «الفئة» من الكتابة، إذا جاز التعبير؟ بالتأكيد، لأنه لا يفضل ذلك الجانب الآخر، إذ يحاول أن يجد مشارب ومسارب أخرى للكتابة.
لا بدّ أن يقودنا هذان الحدثان، اللذان جاءا في وقت واحد، إلى التساؤل حول الأدب الفرنسي المعاصر حقا، والرواية منه بخاصة. إذ ثمة قلق، يتبدى أمامنا، مما يقال ويناقش. فالخطر الذي تحدث عنه الجميع، يبدو ـ بمعنى من المعاني ـ عائد إلى النظرية الأكاديمية الفلسفية التي احتلت كل شيء، لتصبح الكتابة الروائية معها، عملا على النظرية الفلسفية، لا العكس مما يقتضي الأمر عادة. فالرواية أرحب من ذلك، ولا ننسى أن موقعي بيان الـ44 هم ممن يسمون في فرنسا «الكتاب ـ الرحالة» (أو «الكتّاب المسافرون»، أو بتعبير آخر «مساحو المدن»، فالبيان صدر خلا مهرجان «Etonnants voyageurs » الذي يشرف عليه ميشال لوبريس في مدينة «سان مالو» والذي كان من أول من طرح مفهوم أدب العالم، بعيدا عن الفرنكوفونية الضيقة) أيّ أنهم الكتّاب الذين أفردوا حضورا واسعا للمكان في أعمالهم.
الرسائل المتبادلة
بهذا المعنى يلتقي هؤلاء مع فكرة الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في كتابه «جغرافية الرواية» (منشورات «فوليو») الذي كان صدر في نهاية تسعينيات القرن الماضي حيث رأى فيه أن الرواية «متخيّل العالم»، والمتخيل «تحويل التجربة إلى معرفة». من هنا تكمن جغرافيا الرواية في أرض متحركة باستمرار، تتوسع عند كلّ اكتشاف، لأنها «لا تُظهر العالم أو تبرهنه بل تضيف عليه شيئا ما». فمغامرة الكاتب «تقع في قول ما يجهله».
كتاب فوينتس بدوره يطرح تساؤلا: لماذا يشعر بعض الكتّاب، وهم من كبار الروائيين في عصرنا، في لحظة ما، أنهم بحاجة، لأن «يبتعدوا» قليلا عن عملهم الإبداعي، ليخصصوا وقتا لكتابة النقد الأدبي؟ هل هي سمة العصر التي تدفع الروائي للحديث عن روايته؟ هل أصبحت الرواية تتطلب التزاما «نضاليا» للدفاع عنها، أي بمعنى آخر، هل شعروا بقصور النقد الموجود فاختاروا أن يدلوا بدلوهم؟ أيشعر الروائيون، اليوم، انه من المهم تكذيب تلك المقولة والنغمة التي تلف العالم حول موت الرواية؟
«بدورها، تبدو هذه الأسئلة بحاجة إلى تأمل نقدي آخر. لكن في أي حال، يبدو الروائيون كما لو أنهم يحسون بضرورة تبيان (والأدلة بين أيديهم) أن الحقبة الحالية، «لا تشعر بأي حسد تجاه الروائيين السابقين»، أي لا تزال هنا، نقية وتبدع. فلو انطلقنا من وجهة النظر هذه، لبدا كتاب فوينتس قمة في هذا الدفاع والبرهان عن الرواية الحديثة. إذ أن «جغرافيا الرواية» كتاب تأملات مكثفة، نافذة، حول المادة ذاتها للفن الروائي اليوم.
فعالمنا، كما يقول الروائي، خاضع لحركة مزدوجة، من جهة هناك «انفجار المعلومات» وفي أخرى «انبجاس المعنى». أي انه، لم يكن هناك يوما، هذا القدر من «الرسائل» المتبادلة، لم يبد الكون يوما صعبا على فك رموزه، مثلما يحدث الآن. من هنا أن إحدى أهم سمات الرواية لا تكمن فقط في أن مهمتها الأساسية، إيصالنا إلى منفذ، «إلى ما لا يمكن قوله بشكل مختلف» بل لأنها الوحيدة، التي تستطيع الاستفادة من الحقيقة المتعددة، المبهمة، الإشكالية، والتي لا تظهر أي أفكار أحادية الأبعاد ولا أي من الأرثوذكسيات الجامدة. بمعنى آخر، نطرح مع فوينتس، ماذا نريد من الرواية؟ ربما كان علينا مواجهة «كل الفروع الثنائية غير النافعة» أي «تلك الحواجز الدوغمائية» المتمثلة في الواقعية ضد المتخيل والقومية ضد الكوسموبوليتية والالتزام ضد الشكلية.
الرواية الكبيرة
كل معنى الفن الروائي، منذ رابليه وثربانتس وحتى أيامنا هذه، يعود إلى قدرتنا على اجتياز هذا التناوب. فان كانت الرواية تصوب نظرتها إلى الواقع، يجب عليها، عندها، أن لا تشعر بالسرور في استدعاء «ما سبق أن عرفناه» بل أن تحاول استكشاف «غير المرئي، الذي لم يُقل بعد، المنسي»، وبإمكانها في ذلك أن تعتمد على المتخيل والحلم.
الرواية الكبيرة، هي تلك الرواية التي لا تنغلق أبدا داخل حدود مسقط رأسها. فحين نتحدث عن ماركيز أو كونديرا، فنحن لا نتحدث عن جنسيتهما بل عن «خيالهما» الذي يثير العديد من النغمات عند القارئ. أي أنهما يأخذان القارئ في رحلة جديدة. هنا يكمن سؤال الأدب برمته، فهو حين ينتقل بنا، يكون عندها قد انتقل من «الجيو ـ سياسة» إلى «الجيو ـ أدب». وهذا الأخير هو من يفتح المناطق المحررة المتعذر تخفيضها عندها. من هنا وجوابا على سؤال ما هي الرواية؟ لا بد أن نجد «أنها الجغرافيا بامتياز».
ربما هذا ما تتناساه غالبية الروايات الفرنسية اليوم، إذ تحاول أن تكتب جغرافيتها الخاصة، المتعلقة بحياة الكاتب الضيقة، لهذا جاء كتاب تودوروف كصوت محرك لعدم سقوطها في الآسر، ولكي لا تتوقف عند الجماد الذي كبلها في هذا العقد الأول من الألفية الجديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى