قضية فلسطين

صنــع الذاكــرة

نهاد سيريس
ما أكثر الحروب التي وجدنا أنفسنا في سعارها، ولكن هذه الحرب التي يشنها الإسرائيليون على غزة تختلف عن سابقاتها بالنسبة لي على الأقل. فهنا لا توجد ذاكرة غير ذاكرة الوقائع الحربية، ولا يوميات غير يوميات الحرب. التلفزيون هو شغلي الشاغل والتنقل بين المحطات لالتقط آخر بث مباشر، أو صورة هو الذي يتحكم بيدي الحاملة للريموت.
لم أعد أتوقف عند التحليلات التي يقدمها ممتهنو السياسة وليس المحللون العسكريون. لا أعتقد أنني مررت سابقاً في مثل هذه الحالة. في السابق كنت أستمع طويلاً إلى المحللين، حتى أنني أستمع إلى البرنامج نفسه حين يعيدونه في آخر الليل. ولكن اليوم يختلف، وهذه الحرب تختلف، صرت أهرب من المحللين إلى المصورين. المحلل السياسي والعسكري أو الصحفي (المتفذلك) يساعدك على فهم ما يجري، أما اليوم فلا داعي إلى ذلك، فكل شيء مفهوم والمهمة واضحة، والآلة الهائلة جاهزة، وهي تعمل أربعاً وعشرين ساعة. عليك وأنت جالس أمام التلفزيون أن تصنع ذاكرتك ذات البعد الواحد، والتي لا ينافسها أي شيء آخر. لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولا ضرورة للتحليل، وتتحول كلمة (ربما) إلى عبث. التحليل يحتاج إلى ذكاء من نوع خاص، ولكن لم يعد له ضرورة، لأن الأمر واضح، بينما يتحول الذكاء المطلوب من المحلل والمتوقع والصحفي (المتفذلك) إلى الآلة العسكرية المدمرة، ينتج عنه دمار (ذكي) في مقابل عمل عسكري لا ذكي بل قل غبيّاً.
ثلاثة عشر يوماً من الاستسلام أمام التلفزيون تترسخ خلالها في الذهن وقائع الحرب بمفاصل تدفعني إلى الغضب والقهر والسوداوية. وبعيداً عن مخرجي التلفزيون الذين استأثروا بالفذلكة تنحفر في الذاكرة صورة قاسية لطفل يحملونه إلى الإسعاف وهو مقطّع القدمين، صور أخرى لأطفال مدفونين في أنقاض منازلهم، أشرطة القصف المريع في ظلام الليل، صورة المراسل الحربي لقناة العربية في غزة بهدوئه الاستفزازي، المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية الذي يدعوك للغثيان، ثم تلك الليلة التي سهرت فيها حتى الصباح لأتابع مجريات اجتماع مجلس الأمن، فبينما يستعجله كل البشر، بمن فيهم محمود عباس، لإيقاف النار، يقرر كل مندوبي دول العالم التحدث بهــدوء وباتــزان السياسيين السخيف ليشــكروا العــرب على حضورهم.
لقد تم صــنع الذاكــرة بكل الألم الذي تحمله، ويتم في الوقت نفسه تحــويل غزة إلى ذاكرة. لا أريد لأي محلل أو استراتيــجي أن يشرح لي ما يجري، فالحــكاية واضحــة؛ كل كلام عن لماذا، ومن المسـؤول، وإلى متـى، وإلى أين، يصبح ثرثرة.
(كاتب سوري)
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى