صفحات الحوار

عناية جابر: أنا من جيلٍ غادر الخطابة والمنابر

null
بيروت – حسين بن حمزة: تعقد عناية جابر علاقة سرية وحميمية مع الكلمات. علاقة محكومة بالرهافة والهشاشة والصمت والكتمان. لا توجد ضوضاء في قصيدة هذه الشاعرة اللبنانية التي يمكن وضع تجربتها على حدة داخل المشهد الشعري اللبناني في العقدين الأخيرين. إنها مرئية داخل المشهد العام، ولكنها تفرض على القارئ عذوبة شخصية من نوع مختلف. ليس في الأمر مبالغة إن قلنا إن شعر عناية جابر هو واحد من أفضل نماذج الشعر المكتوب في الفترة نفسها، فضلاً عن أن شعرها يغادر الهوية الأنثوية المائعة لكتابة المرأة عموماً، ويلتحق بالشعر باعتباره تجربة حياتية ومعجمية ليس لها هوية معطاة سلفاً.
نشرت عناية جابر سبع مجموعات شعرية حتى الآن، كان آخرها “جميع أسبابنا”.
بمناسبة صدور مختارات من شعرها في القاهرة بعنوان “لا أخوات لي”. التقت “الرأي” بصاحبة “مزاج خاسر”، وكان هذا الحوار:
* لنبدأ بسؤال عن جدوى الشعر، ولماذا الشعر تحديداً وليس وسيلة تعبير أو جنساً أدبياً آخر؟
– هذا إذا اتفقنا أنا وأنت على أنه شعر. الحقيقة تسمية “شعر” غدت ضبابية بعض الشيئ. كما أن مسألة تعريف أي شيئ بات أمراً عسيراً ومحفوفاً بالتهور والمجازفات. ما أكتبه لا أعرف تصنيفه حتى اللحظة. حتى آراء النقاد لم تُفدني بتصور واضح عن الشعر بشكل عام ولا عن قصيدة النثر. لم يكن الاختيار، أو الارتماء في أحضان الشعر، إذا شئت، خياراً متعمداً، بل هو ذلك الخلل فيك الذي يجذبك إلى هذه الطريقة في الكتابة والتعبير أكثر من أي تعبير آخر. كوني كائناً قليل الأصحاب، لا أجد متسعاً للكلام مع الآخر، أو لا أجد الآخر أحياناً. لذلك تأتي هذه المدوَّنات التي نكتبها، وسمِّها ما شئت، كحوارٍ أول وأخير مع النفس. تسمية ما أكتبه لا تعنيني بالمرة.
* إذا كان هذا صحيحاً، فلماذا هذا السعي من قبل الشعراء إلى ارتياد مناطق جديدة وغير مأهولة من الكتابة الشعرية، ولماذا هذا السعي إلى تحسين النبرة الشخصية وتوسيع المعجم الشعري؟ ولماذا السعي وراء القارئ؟
– أنا تكلمت بالمفهوم الشكلي للشعر الآن، والذي أؤكد أني لا أزال على ضبابية بشأن توصيفاته. أما ما يعتمل في داخلي فأنا أعرفه جيداً، مع أني لا أحتاج إلى تسمية بسبب كثرة التسميات التي تستفزني أحياناً. الموضوع عندي جاهز وواضح، ويهمني أكثر من أي شيئ آخر في العالم. لذلك، أجتهد وأسعى إلى إصغاء الآخر، والعمل على “قصيدتي”، إذا شئت، لأقول بأنني الأجمل والأكثر شعرية، والأكثر شغفاً يمتن الكتابة وليس بتسمياتها وأوصافها. ما نكتبه أو ما أكتبه أنا، هو الوسيلة إلى الآخر، إغواؤه.. مصادقته.. التحاور معه. كل هذا الاحتياج، أسخِّر له لغة مجتهدة لكي تكون النداءات بالغة الرهافة ومجدية في آن واحد. أريد أن أجد مصغياً جيداً وقارئاً جيداً.. وصديقاً جيداً في النهاية.
* إذا كان الآخر هو أحد أسباب الكتابة، فكيف تتحقق فكرة الكتابة والقراءة؟
– إذا كان للكتابة أسباب، فالشاعر هو السبب الأول والأخير. أنا بتعدديتي ومزاجي الليلي ومزاجي النهاري وبرغباتي واستيهاماتي.. وبالآخر المفترض أحياناً والحقيقي أحياناً. كل هذه الأمور مجتمعة، إلى أمور أخرى غير متوقعة أحياناً، وأحياناً محض تجريبية لغوية، هي التي تستدعي الكتابة. إذا كان الشتاء هو الآخر، فثمة قصائد فيها هذا الاخر. وإذا كان الرجل، فثمة أيضاً شغف إلى رجل محدد استدعى دواوين كاملة. لكن الأغرب والأجمل هو جلوسي أمام الورقة من دون أي فكرة مسبقة سوى محاولة الذات والتجريب في اللغة واستدعاء أشخاص غير موجودين أصلاً. العملية بحدّ ذاتها تشبه ساحراً اعتاد ألاعيب معينة، وغدا ماكراً في إثارة إعجاب المشاهدين من لا شيئ تقريباً، ومن عدة حِيَل سحرية يُفترض أنه بات يتقنها عن ظهر قلب. أنا في أقصى لحظات حزني أتعصَّب لكتابة قصيدة مرحة، فقط لأكتشف مهاراتي.. والعكس صحيح أيضاً. لعل موضوع الكتابة ليس هو الآخر وليس الذات أيضاً. إنه هذا الإغواء المخيف الذي لا أعرف له اسماً.
* تتضمن إجابتك عدداً من الصفات التي تصنع كتاباتك وتصاحبها دوماً. وهي صفات تجعل قصيدتك خافتة ومكتومة وبلا ضوضاء. هل الشعر هو ضد الصوت العالي، وضد الدراما المفرطة.. كأنك تتجنبين كل هذا؟.
– أنا بطبعي غير ميَّالة إلى الاستعراض. الخفوت الذي ذكرته في النبرة والعبارة قد يكون منتهى الصراخ. القصيدة الحديثة، إذا جاز التعبير، تتجه إلى قول الإشياء كما تحدث في الواقع سواء كان ذلك الحدث خافتاً أو عالي النبرة، لكن الشعر يشبه صاحبه في النهاية. مع ذلك هذا ليس تعريفاً للشعر، هناك طريقة في الحياة والعيش قبل أن تكون وجهة نظر في الكتابة والشعر. نحن من جيل غادر الخطابة والنبرات العالية الصالحة للمنابر. الحياة نفسها اختلفت الآن، وتحتاج إلى كائن مفرد، وإلى مصادقة معجم صغير وكلمات خفيضة. حتى حين أريد قصيدة نزقة وعنيفة، فإن ذلك يحدث بطريقة محددة. أنا أُفاجئ أحياناً بكميات العنف في قصائد كتبتها. ولكن حتى هنا للصراخ الشعري معنى خاص عندي، وللنزق معناه الذي يصب في مصلحة أو لا مصلحة المادة التي أكتبها.
* صدر لك أخيراً في سلسلة “آفاق” القاهرية مختارات شعرية من مجمل دواوينك السبعة، وحملت عنوان “لا أخوات لي”. كيف تنظرين إلى هذه التجربة، وما هو الاحساس الذي تعطيه أعمال كتبت في أزمنة متفرقة ولكنها موجودة في كتاب واحد؟ هل ينتبه الشاعر إلى تطور نبرته وانتقالاته الأسلوبية كما يُقال؟.
– حين اقترح علي الروائي ابراهيم أصلان إصدار مختارات لي في سلسلة “آفاق”، أربكتني الفكرة. لكن تمهلي وتفكيري بالأمر من زاوية شخصية جعلني أعتبرها فرصة، لي وللقارئ، لجمع قصائد متباعدة في كتاب واحد. أنا بطبعي كائن لا يحتفظ بكتبه، ولستُ مبرمجة على الانتباه في أيِّها كنت أكثر شاعرية . إصدار مختارات هو كمن يأتي بشخص يرتب لك كتبك، ويحمل عنك همّ تصنيفها وجمعها في مكان واحد. من هذا الباب، أغوتني الفكرة. أما مجموعاتي السبع التي كنت قد أصدرتها، فليست مهمتي هنا أن أقرأ التطور والانتقالات التي حدثت. بالنسبة لي، ما زلت أحب قصائد ديواني الأول مثلما أحب قصائد ديواني الأخير. واستطيع أن أرى، بنزاهة، عثراتٍ في كتابي الأول وفي كتابي الأخير. أعتقد أني أصبحت أكثر جسارة على تعمُّد كتابة قصيدة، وأجد أن مفرداتي جاهزة، وقادرة على تلبيتي حالما أحتاجها. هذا لا يعني أن الكتابة هي مجرد استدعاء للمفردات. في أحيان كثيرة، أكون عاجزة تماماً عن الإتيان بجملة أو حتى بكلمة واحدة.
* هل تؤمنين فعلاً بقدرة الشاعرعلى عيش حياة شعرية تجعل تلبية الكلمات والصور سريعة ومواتية؟
– أنا كائن جاهز للكتابة. قراءاتي تساعدني في ذلك. القراءة هي جزء أساسي من حياتي. كما أنني على الصعيد الشخصي، كائن متلصص ولطيف. ومن شدة جبني، انضويت في مسيرة تكاد تكون ثابتة. كأن يكون الفجر هو الوقت الأمثل لاستقبال الحياة. أغلب انهماكاتي اليومية أفعلها وحدي، فأجد أني أكثر جاهزية للإصغاء إلى الحياة. الوحدة تجعلك تحصل على كل لحظات الحياة المفضّلة لديك من دون إزعاج.
* لماذا لا يجد القارئ في شعرك لغة منتصرة وظافرة. ولا ادعاءات انثوية استعراضية؟
– لغتي هي انتصار للشعر ذاته. أما انتصاراتي” الحياتية فأفعلها في مكان آخر. بالكتابة، ننتصر للشعر.. وكذلك بالقراءة والجديّة وأخذ المشروع على محمل الاخلاص. بالنسبة إلى الجزء الثاني من سؤالك، أعتقد أن من يستخدم كليشيهات معينة للإعلان عن الذات والقصيدة، هو تعبير عن إفلاس وضحالة… ووقاحة أحياناً.
* ماذا عن النقد الذي كتب عن تجربتك؟ أنت أيضاً ناقدة بطريقة ما من خلال مراجعاتك المنشورة في جريدة “السفير”؟
– لم يظلمني النقد. بالمقابل أشعر أني أعطيت مادة للنقد. النقد يحتاج إلى مادة حقيقية ليخوض فيها. من تجربتي في الكتابة عن الآخرين أستطيع القول بأن الناقد هو الذي يقع عليه الظلم في كثير من الأحيان، خصوصاً حين يكون أمام مادة لا يوجد فيها ما يستدعي الدراسة ويحمّس على المتابعة. في ظل استسهال الكتابة والنشر، هناك إصدارات كثيرة لا تحتوي عبى شعر حقيقي. من جهة أخرى، أميل إلى أن يكون ناقد الشعر شاعراً، وإلا لن يكون دقيقاً في تصويب عثرات الشعر. من قراءاتي للنقد الذي يكتب اليوم، صرت مؤمنة بعدم وجود شيئ بمفرده. هناك علاقة تجمع النقد بالشعر بالموسيقى بالغناء بالتشكيل بالمسرح.. على الناقد مهمة مؤلمة جداً تتعلق بقدرته على الاصغاء لكل هذا الجمال دفعة واحدة.
* أخيراً… من هم أقرانك في الكتابة؟
– أقراني هم في الأغلب كتَّاب روايات.. يابانيون وأميركيون وفرنسيون وألمان… الرواية تسمح لي بإنجاز كتابة تخصني. بينما إذا أحببت شعراً لأحد ما، فعليّ أن أُحجم عنه وأتحاشى الاستفادة منه لأنه مكتمل بنفسه. الرواية عالم مجاني ومفتوح. طبعاً أن لا أقرأ بهذا الهدف، ولكنه يظل يتراءى لك حتى وأنت غارق في لذة القراءة فحسب. بالمقابل، الأقران من الشعراء هم دعم ومواساة لشخصك وعبارتك الشعرية. شعراء مثل بسام حجار وأنطوان أبو زيد وشارل شهوان وغسان زقطان وأمجد ناصر وبول شاوول وعباس بيضون ووديع سعادة وأنسي الحاج وسركون بولص الذي كنت معجبة بشعره وبطريقة عيشه الشعرية. شعراء كهؤلاء في إمكانهم أن يستنهضوا أفضل ما فيك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى