ما يحدث في لبنان

ريح الشمال وانهيار الدولة

سليمان تقي الدين
يبدأ تفكك الدولة من أطرافها. هذا في الدول المركزية القوية. عندنا كانت علاقة الدولة بالأطراف منذ نشأتها ضعيفة بل واهية جداً. شبح الدولة في المناطق انحسر منذ بدء الحرب الأهلية وملأت هذا الفراغ قوى محلية أهلية طائفية. بلغ الأمن بالتراضي أطرافاً من جبل لبنان ثم من ضواحي بيروت ثم داخل بعض أحياء العاصمة. نحن مجتمع تعددي قوي تديره دولة ضعيفة هشة وفاشلة. هي ليست قادرة على إمساك البلاد بقبضة أمنية قوية ولا هي قادرة على إدماج السكان في مشروعها عن طريق المصالح أو عن طريق الربط الذي تؤديه دولة القانون. أمن الجنوب في عهدة أهله وأمن البقاع ومصالح سكانه بغير ضوابط للمعابر والحدود.
أما الشمال فما زالت وجهته الداخل السوري، ويكاد ارتباطه الوحيد بالمركز اللبناني ينحصر من خلال آلاف الجنود الذين يجيئون من أكثر البيئات فقراً. في البقاع والشمال هناك رافعة اقتصادية وحيدة هي التهريب للسلع التي يستهلكها الفقراء والسلع العالمية من الممنوعات.
إذا تقاطع ضعف الدولة أو عدم حضورها الفعّال مع صعود عصبيات طائفية ومذهبية وما يعنيه ذلك من شعور بالهوية المستقلة، أو الانعزالية، دخلنا في مشاريع انفصالية تصادمية مع باقي مكونات البلاد. لا نبالغ إذا قلنا إن التظاهرات التي نشهدها في شمال لبنان الآن هي نموذج على هذا الصعيد. صحيح أن البيئة »السلفية« لا تختصر المزاج العام في الشارع »السني« لكن الشارع ينقاد عادة للقوى المنظمة ويتفاعل إيجاباً مع طروحات تتقاطع مع بعض همومه ومطالبه من غير أن تتطابق بالضرورة معها.
نحن أمام مناخ انفصالي شمالي بدا واضحاً من خلال »قمع« حركة التواصل التي حاولت القيام بها بعض »الجماعات السلفية« مع »حزب الله«. لم تكن »وثيقة التفاهم« إلا مجرد واسطة حوار تستبعد لغة التكفير والعنف وتسعى إلى الاحتفاظ »بشعرة معاوية«. لم تطوِ صفحات الاختلاف الفقهي المتراكم تاريخياً ولم تتصدَّ للمشكلات السياسية الراهنة وما تحتويه من مضامين صراعية على السلطة. لكن كما بات واضحاً الآن فإن هناك قوى تدير الحياة السياسية في الوسط »السني« في الداخل وفي الخارج تريد استخدام مناخ التطرف والتشدد الديني للهيمنة على منطقة بعينها وعزلها عن محيطها، ولجعلها قاعدة للتأثير أبعد من لبنان وفي محيطه. يدفع الشماليون الآن ثمن هذه السياسة فيما الدولة مستقيلة من أكثر المهمات بدائية: الأمن والقضاء، والخدمات الأولية.
إذا استحال الآن الحوار بين الإسلام الحركي بمذهبيه السني والشيعي، فإن منطق الإلغاء والإقصاء والعداء سيعم في المدى اللبناني الأوسع وسيجرف معه شرائح وفئات من خارج هذه المذاهب كما من داخلها. سوف نبحث قريباً عن صيغة للتعايش مع دعاة التكفير الديني وكذلك دعاة العزل السياسي وبين المحيط الإنساني الذي تعمل فيه الجماعات السلفية والتيارات السياسية. لم يعد من معنى لحوار وطني أصلاً حول مسائل سياسية إذا كنا في مجتمع يتصاعد فيه الفرز بين المدعوين لدخول الجنة والمدعوين لدخول النار ونتدافع لتسريع ذلك بالسياسات الخرقاء التي تتولاها الحكومة المركزية نفسها لأنها مصرّة على إبقاء الصراع السياسي في إطاره الطائفي والمذهبي.
إذا أراد البعض في لبنان أن يحقق توازن الرعب المذهبي بين العصبيات وبين العنف فقد تحقق ذلك، لكن هذا هو الطريق الأقصر لانهيار الدولة وليس لقيامتها.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى