صفحات الشعر

الشاعرة اليابانية تادا تشيماكو تحوز على أفضل الترجمات: بعد أن أضحك.. تضحك المرآة قليلاً

null
ترجمة وإعداد فوزي محيدلي
تعتبر تادا تشيماكو الراحلة من سنوات قليلة واحدة من أهم الشعراء الحديثين، نساء ورجالاً، في اليابان. يزخر شعرها بثروة من الصور المدهشة المقطوفة من الميثولوجيا والفكر الياباني القديم. وهي توصف بأنها شاعرة العقل وسعة الإطلاع، كما الحسية والعاطفة اللتين تكتشفان عن جانب غير تقليدي للثقافة اليابانية المعاصرة.
يتحدث الشاعر والناقد الياباني ماكوتو بإعجاب عن ميزة العقل المحرك في شعر تادا تشيماكو. ولا بد من الإشاة الى أنه كان هناك اعتقاد قوي دعمته الرومانطيقية الغربية يقول أن أفضل الشعر ينبع من أعماق الإنسان من دون ألم التردد المفروض من قبل العقل. تادا تشيماكو استثناء لهذا الاعتقاد. نحن هنا أمام صوت مميز وعميق ينبض بالمعضلة الإنسانية وبقوة مصدرها: العقل.
قطعت تشيماكو مع التقليد الحديث الذي يوجب أن يكون شعر النساء متميزاً بالصراحة، الإخلاص ووضوح النيّة، بمعنى ألا تكون العاطفة مقيّدة بالعقل. لم تنف تشيماكو عن نفسها صفة “شاعرة العقل” وهي شرحت في مقالة لها بعنوان “مرآة فيلا سكويز” أنها تحاول الجمع بين الفكر والشعور العاطفي لخلق لذة سامية. تقول تشيماكو في المقالة: “كل عناصر الشعر تعمل سوية، كل كلمة تتميز بقيمة أشبه بالرقمية تنتقل أو تنحرف مع تغيرات تراكيب الكلام. وحتى في قصيدة قصيرة يفترض بالقارئ استعمال عقله ليسجل الإمكانات المتوفرة لتعقيداتها اللامتناهية. كيف يمكن لكتابة معقدة كهذه أن تخلق متعة؟ واقعاً، إن الصور والمواقف والتراكيب الخاصة بالقصيدة تُرضي ليس فقط العواطف والحواس، بل أيضاً تقاطعات الفكر الحساسة أو الدقيقة. يمكن للمتعة المتأتية من ذلك بلوغ الهناء الخالص الذي يعتبر من أسمى التجارب السامية للكائن البشري”.
كتبت تشيماكو مختلف أنواع الشعر أسلوباً وتركيباً. فهي استخدمت الشعر الحرّ غير التقليدي (“ألعاب نارية”، حلبة المصارع” و”عالم الوردة”) كما استعملت لقصائدها أشكالاً يابانية تقليدية من مثل قصيدتي التانكا والهايكو (“راذاذ ماء” و”لدى نزع الختم”)، كما كتبت قصيدة النثر “سجل خاطئ للعصور” و”الدرب ذو الأربعة وجوه”.
مع أواخر عام 2009 نالت مجموعة مختارة من قصائد تادا تشيماكو جائزة الكتاب المترجم الى الإنكليزية من جامعة كولومبيا الأميركية.
[إلتقاء
يشطف المطر بقايا الصيف،
داخل الحديقة يجثم الخريف مقطراً ماء.

لساني، البارد يحتبس
كلمات هادئة ناعمة
داخل صدفتها المعتادة على موج المد والجزر.

فوق راحة يدي المفتوحة
أضع حبة حص لتتأملها عيناي،

وتؤوب في النهاية تطليعتي الطويلة الى نفسها،
هاجرة ذاكرة.
تجنح ثم تغرق مثل سفينة محطمة في البعيد.

[ ألعاب نارية صباحية
صباح وردي،
علكة بايتة،
تمشيت قرب البحر

فوق الرمال تمثال صخري مشوّه سدّ دربي.
وليد سرطان بحر
منهمك بخدش كعبه المتشقق.

من بين أصابع قبضتي
رشح الرمل أحلاماً رملية لم تلبث أن ضاعت.
فاغرة فاهها، ثابرت مزهرية مرمية
على شرب الريح الجافة جداً.

في عرض البحر بدت الجزر مجرد نقاط
لا علاقة للواحدة منها بالأخرى.
من وقت لآخر، ولما أوشك أن أنساها
كانت ألعاب نارية بلون الثلج تنطلق ثم تنفجر في السماء.
[أسطورة الثلج
وأخيراً بدأ الثلج بالتساقط
بعد إنهمار المطر، وهبوب الريح، وتطاير الرمال

مُوقفاً عقارب كل الساعات
تابع الثلج التراكم بهدوء
فوق أبراج المعابد الشريرة النية
فوق جدران قلاع الريبة الكريهة
فوق الحزوز التي تركتها العربات في الوحل الأسود.

ملفوفة داخل شرنقة الثلج
غدت المدينة أسطورة
غدت شاهد قبر خفاني
يحوي عدداً لا يحصى من الثقوب حفرتها فيه الأرواح
(مهما كانوا مرضى وسقيمين، يغدو
المتقدمون في العمر جميلين قبل الممات).

أين كان الوفاق؟
نسيت مدينة البشر أثقال وزنها
وممعنة في الإرتجاف كزهرة يتيمة
فوق ساق نحيلة
لم تتوقف عن فتح بتلة بيضاء إثر بتلة
(مثل جرح عميق نبيل
تحول الى مسرح مقدس)

أين كانت الصلاة؟
الثلج الذي بدأ بالتساقط أخيراً
بعد الريح والمطر والرمل
ألبس الليلة البيضاء نهاراً أبيض
[المرآة
المرآة دائماً أطول مني بقليل
وتضحك قليلاً بعد أن أضحك أنا.
تحمرّ وجنتاي كما الزعرور
وأتخلّص بالمقص من أجزائي الناتئة خارج الإطار.

أُقرّب شفتيّ من المرآة فيصيبها الغمام
وأختفي بدوري خلف تنهيدتي
تماماً مثلما يختفي الأرستقراطي خلف شعار نبالته
مثلما يختفي الوغد خلف وشمه.

هذه المرآة، مقبرة الابتسامات، يا المسافر،
إذهب الى لاكاديمون وأخبر التالي:
من خلال مرآة ذاك القبر المدهون بالأبيض
والمبنيّ بحجارة ثقيلة، وحدها الريح تهبّ.
[ الحقل الذابل
الرياح التي تلفح الشجر تكتب وتضرب،
العقل الذي لا يقطنه أحد
ليس له أفق.
ببساطة، إنه واسع بشكل لا يمكن تخيّله.
داخل الأحذية ثمة الأقدام.
يالبعد تلك الأقدام!
دافعة الشمس عني ومكتوية بالجوع
اليوم أيضاً، بسبب السن المعرض للهواء، أهيم
في حقل الشتاء.
[ إعدام
رويداً، على مهل يستنشق الرجل الهواء،
ينتفخ صدره العريض،
ترتفع ذراعاه الغليظتان
يرتفع فأسه المتلألئ،
صوب السماء الزرقاء،
نحو السماء الزرقاء حيث تطير العصافير،
يرتفع فأسه اللامع.

تحت قدمه ثمة رأس ضئيل،
رقبة التفكير، جذع جسد، وسيقان
مصوباً نحو هدف، يبقى الفأس ساكناً،
في السماء الزرقاء حيث تطير العصافير، يبقى ساكناً؛
يخيم الصمت على أرجاء العالم، في تلك اللحظة،
أُنظر، الرقبة البيضاء تشرع بالتمدد، منزلقة
تحت الفأس المرفوع،
هاربة بعيداً عن الجذع المقيّد،
تتمطى الرقبة البيضاء، منزلقة، بلا توقف.
[رزنامة شعر
أنا التي أنتظر لنفسي
أنا التي لا تظهر
اليوم، أيضاً، قلبت صفحة من المحيط
ورميت سمكة البطلينوس الصدفية وقد ماتت فاغرة فاهها

النهار الذي لا يمكنه أن يفضّ شاطئاً أبيض
مثابة رحم أم لا يلد مجذافاً مكسوراً

أنا التي أنتظر لنفسي
أنا التي لا تُظهر
اليوم، أيضاً، قلبتُ صفحة أفق
ورميتُ جلد حية خفيفاً جداً

اليوم الذي لا يمكنني فيه كسر مظلة شمس مهترئة
تنقلي ضحكة مريبة على البارد

أنا التي أنتظر لنفسي
أنا التي لا تظهر
اليوم، أيضاً، قلبتُ ورقة سماء
كنست غبار النجوم السخامي ورميته بعيداً

في اليوم الذي لا أستطيع فيه تهشيم عشب دامع
أقلبُ وأقلبُ،
لكن دون أن أظهر

أنا التي تنتظر لنفسها
عالم الحب الأعزل الخيالي الأعداد
[ تبرّج
واقفة بمواجهة المرآة أتبرّج بشكل خفيف.
هذا ما أفعله دائماً، عادةٌ أمارسها كل ليلة.
أما الذي هو غير عادة يومية:
الليلة سأغدو صبياً!

قميص وسترة فضفاضة لصبي في الخامسة عشرة
بنطلون واسع أيضاً لصبي في الخامسة عشرة
هذه جميعها تناسبني بشكل لا يصدق
وأغدو صبياً حتى قبل أن تبدأ اللحية بالظهور

هذه المقامرة لا تكلّف الكثير
ولا هي خطرة كمقامرة
قد أستبدل الشاب في ورق اللعب بالملكة
لكن لا بأس: لا أحد سيلاحظ ذلك
(أُعيد دهن جسد السفينة الصدئ
فيما مقدمتها محملة بالعيون
وقد وُضعت في الخدمة منذ الزمن الأرثوذكسي القديم)

من الآن فصاعداً لن أحسد أي رجل أو إمرأة
لن أحتاج الى العطور أو الى مسدسين
إذا شئت، يمكنني أن أصبح
إمرأة من لحم ودم
صبي من عالم التجريد

أرخى الليل سدوله وأوغل
أُنجزت التحضيرات وسأغادر الآن
الى شخص ليس بالزوج أو الحبيب
وداعاً، أيها الصبي الغريب في المرآة
الذي يوشك أن يصبح رجلاً حال إمتلاك بزوغ الفجر رائحة
حليب الأم
[ الى المحطة الأخيرة
كل مرة أستيقظ أجد المنظر قد تغيّر
في أي اتجاه ينساب الوقت
الى الأمام وإلى الوراء، تومض قضبان سكة الزئبق
– أين ستنزلين
– إني قاصدة المحطة الأخيرة
فيما الحشائش تنمو كثيفة وجامحة أستسلم للنوم
ملفوفة بخيطان أشعة الشمس الناعمة
وذنب الحلم داخل الفم
(ربما الرأس ليس البداية
ولا الذنب النهاية)
يبدو وكأنني لم أولد بعد
والعالم هو النور خلف قشرة البيضة
ساعة منبه ترنّ في البعيد
صباح من ذاك؟
حبات البيض تفقس في نفس الوقت
ألعاب مدرسية بين فرق فرحة
حالما تطلق رصاصة الإنطلاق
ثمة مدفأة عند بوابة المدرسة
إنجرفت بعيداً داخل الحلم
كلما استيقظت يتغير المشهد
الهواء مكتنز بالفراشات
مع وقوعها تغدو أوراقاً ميتة
وتتبعثر تاركة وراءها
نفق مزمجر من الفراغ الأجوف
– أين المحطة الأخيرة
– ألا تعرفين هذه أيضاً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى