سمر يزبكصفحات ثقافية

رائحة القرفة -3

null


سمر يزبك

إنه خط الضوء النازل من المرآة إلى أرضية الحجرة، يفرشها بصور صغيرة، كل منها ترسل خطاً مائلاً من الضوء. تتحول حزم الضوء إلى وجوه مختلفة حول سرير حنان، تبحث بينها عن وجه عليا، تحاول استعادة رائحتها التي بدأت تتسرب من فضاء المكان. كيف كانت عليا؟ هل تذكر التماعة عينيها الأولى؟ هل تحفظ أكثر من نظراتها الخائفة؟

هل كان ذلك منذ زمن بعيد، عندما خفق قلبها لتلكم العينين؟

عصر يوم خريفي أحمر، وبعد أن دخلت عليا البناء المؤلف من طابق واحد، في حي المهاجرين، قبل هذه الليلة بسبع سنوات، كانت حنان الهاشمي تجلس على كنبة خمرية اللون، مطرزة بخيوط ذهبية شبيهة بالبروكار الدمشقي. شفتاها ترتجفان، وهي تحاول الإصغاء إلى الرجل الأسمر الذي كان يمسك عليا من يدها، ويحدثها بصوت خشن وذليل، عن اتفاقهما قبل أيام على الهاتف.

· ست حنان، لا أريد للبنت أن تخرج وحدها.

قال جملته، وهو يشيح بوجهه، متلعثماً. حنان تنظر إليه. تنوس عيناها، وتذبلان قليلاً ثم تفتحهما على اتساع مفاجئ، و تحدق في الصغيرة.

· الحجاب. يقول الأب، وهو يشير إلى رأس عليا.

تنظر السيدة إلى الطفلة، وتكتشف أنها تلف رأسها بخرقة صفراء باهتة، وتثبتها بدبوس زهري، عند طرف أذنها.

ـ لا أريدها أن تنزع غطاء رأسها خارج بيتك.

تومئ السيدة بالموافقة، قبل أن تخرج من الصالة الفسيحة، المزينة برسوم من الزجاج المعشق بالصدف. سوف تذكر توصياته باستغراب شديد عندما تمر سنوات، ولا يظهر، هو أو أحد من أفراد عائلة عليا. وسيكون استغرابها أكبر، عندما لا تأتي عليا على ذكر عائلتها. حتى عندما حاولت سؤالها عن أمها، وكررت ذلك على مدى سنوات طويلة، كانت الصغيرة تردّ بهزة من رأسها، أو بإطراقة.

في ذلك العصر الخريفي الأحمر، عندما كان الأب واقفاً، يلقي بتعليماته حول حجاب ابنته، انصرفت حنان فجأة، وتركته مع ابنته في الصالة التي انتظرت أن يختفي من أمامها، لتكتشف المجهول الذي أراده لها القدر، بينما صورة أمها باكية، تناوشها، لقد فضلت في تلك اللحظات، أي شيء على البقاء قرب هذا الرجل الذي يظهر كل فترة في البيت، ويأخذ ثمن طعامها وطعام أخوتها، والذي قتل أختها وسيقتلها يوماً ما بالتأكيد.

لم تعرف أن السيدة التي تحدثت بازدراء واضح، ستمنعها حتى من الخروج وحدها، وستقرر لها حياتها كما تشاء. والسيدة التي تركت الأب المتوحش، كما سمته عندما دخلت إلى غرفة زوجها، وأخبرته أن الخادمة وصلت مع أبيها، وسحبت من الخزانة الحديدية المركونة في عمق الغرفة، مبلغاً كبيراً من المال، كانت تشعر بارتباك شديد، وهي تتمعن في وجه الطفلة المحاط بالأصفر الرملي، الوجه الكحلي الذي تحول بعد أسبوع واحد، إلى لون خمري مشتعل، وتفكر أن عليها تدريبها، لتحمل أعباء الفيلا الجديدة، التي ستنتقل إليها مع زوجها.

كانت حنان مرتبكة، وأصابعها ترتجف، وهي تلاحظ لامبالاة زوجها، ثم انسحبت من غرفته، تخبط بشدة على الأرض، وتعرف كما عرفت في كل لحظات حياتها التي عاشتها قربه، أنه يشبه تمساحاً. صوته فقط، كان الأثر الآدمي الوحيد الذي لم تستطع يوماً أن تجد له شبيهاً حيوانياً. كان أشبه بصوت طفل ناعم وخجول. يكاد لا يُسمع.

حدثته عن الخادمة، وانتظرت صوته، لتهدأ كعادتها، لكنه صمت، فعاد شكله القبيح إلى سابق عهده. خرجت إلى الصالة. سلمت الأب مظروفاً، فوقف باستعداد، وبدأ يعدّ النقود. عليا تراقب وجهه، والسيدة تنتظر خروجه، وهو يبلّ إصبعه بطرف لسانه، ويأخذ نفساً عميقاً، ثم يعاود الكرّة، ويقلب الأوراق النقدية.

الرجل العجوز الذي أتى بكوبي عصير، ينظر إليه بفضول، ويشعر باشمئزاز من أظافره السوداء، ثم ينظر إلى الطفلة، وينظر إلى سيدته التي فهمت مغزى نظراته، وفكرت كم عليها من الوقت لترتيب حياتها الجديدة مع هذه البنت التي كانت مشغولة بتأمل التحف واللوحات، وأثاث البيت الغريب الذي يعود لأكثر من نصف قرن.

أنهى الأب عدّ نقوده، وصافح السيدة باحترام وانحناء، وانحنى أكثر ليقبل ابنته التي انتفضت وابتعدت هاربة منه، إنه يقبلها للمرة الأولى منذ ولادتها. المرة الأولى والأخيرة، لأن السيدة التي سمحت للرجل بزيارة ابنته كل فترة، هو والعائلة، لم تعرف أنه لن يعود إلى بيت العائلة، وأنه سيختفي عن الأنظار، وأن أمها تجهل أين تسكن ابنتها، وأين ذهب بها الأب، ولن تفهم لماذا اختفى فجأة.

كانت عليا ضائعة بين الخادم العجوز والسيدة. تراقب والدها الذي اختفى كبرق. تلمس جبينها، وتشعر أن نجمة تلمع بين أصابعها، كانت سعيدة، وهي تتحسس قبلة الأب اليتيمة التي أضاءت عينيها، لوهلة، بلمعان مفاجئ، لمحته السيدة وهي تقترب.

وتستطيع أن تتذكر الآن، وهي مرمية بين صور المرآة، الالتماعة الأولى لعيني عليا، في تلك اللحظة، اللحظة التي كانت فيها سيدة تعاين خادمتها الجديدة.

الغطاء الأصفر الذي يلف رأس عليا كان مصدر جاذبيّتها الثاني. تقترب منها، وتحاول معرفة ما تضعه خادمتها على رأسها. فقد بدت تلك الخطوط الحمراء الباهتة كآثار دماء، لكنها عندما اقتربت أكثر، اكتشفت أنها أثار خيوط قديمة، وشمت رائحة نّفاذة، عطرة. كانت تلك رائحة غسيل الأم، فتوقفت، ومررت أصابعها على رأس الصغيرة، وانحنت، ثم أخذت وضعية الجلوس، وانثنت على ركبتيها، وهي تحدق بعينيها السوداوين. عليا تحدق بثبات، قلبها يرتجف، ولم ترمش أبداً. أرادت أن تعرف أين هي؟ وما الذي ينتظرها؟ لذلك حدقت بقوة في سيدتها. والسيدة التي اكتشفت وجه الصغيرة المنحوت بدقة وجمال أكثر مما يحتاجه وجه خادمة، شعرت بسعادة طافحة, فالخادمات يملكن نظرات متشابهة، نظرات تتراوح بين الحزن البليد والأسى الصبور. أما خدودهن التي لا تشبه خدي عليا المرتفعين، فعلى الأغلب، كما فكرت السيدة، هي خدود منفوخة وحمراء للواتي يطبخن، أو مترهلة وشاحبة للواتي يلمعن البيوت. وجه عليا يشبه إلى حد كبير وجه فهد أسود. ولولا نظرات الشرود والحزن التي لاحت بين نظرة وأخرى، لشعرت حنان الهاشمي بالخوف، وهي تدور حول الصغيرة، وتتفحصها من رأسها حتى أخمص قدميها.

مدت يدها نحو رأسها، ونزعت الغطاء دون أن تفك الدبوس الزهري، فخدش خدها، وظهر شعرها الخشن المشدود بقوة في ضفيرة قصيرة، تكاد لا تلامس ظهرها. أما الدبوس الزهري، فترك مكانه خطاً أحمر لامعاً، سرعان ما نفرت منه نقطة من الدم القاني. تسمرت عليا، ولم تنبس بحرف. كانت تدرك أن عليها إرضاء السيدة التي دفعت لعائلتها الكثير من النقود، وكل ما عليها فعله هو أمر بسيط: الطاعة.

تفكر عليا بالطاعة فقط. تتخيل أن أمها لن تذهب بعد هذه اللحظات، إلى الخدمة في بيوت الناس، وأخواتها سيشترون الثياب الجميلة، وهي هنا فقط من أجلهم، وكل ما سيحدث لها بعد ذلك، سيكون سهلاً. لذلك لم ترفع يدها وتحاول رؤية السائل الحار الذي أحست بلزوجته على خدها، ولم يتغضن وجهها بأي تعبير. رمشت قليلاً بعينيها، عندما انحنت السيدة على وجهها ومسحت الدم بمنديل مطرز.

· لم أقصد.

قالت السيدة بصوت مبحوح، وهي تنظف وجه عليا، وتعقم الجرح الخفيف الذي ترك علامة واضحة على الخد: لم أقصد فعلاً. تحدث نفسها بعتب، وتنتظر إجابة من الصغيرة التي لم تهمس بحرف. فقط، أمسكت بغطاء الرأس، وحاولت إعادته إلى مكانه.

· لن يزعجك أن تنزعيه داخل البيت.

نظرت عليا إلى السيدة باستغراب، فهي لم تعتد الظهور سافرة أمام الغرباء، لأن ذلك كفيل بحرقها في نار جهنم. والسيدة نفسها كانت تضع حجاباً مزركشاً، ومع ذلك لم تبدِ عليا أي ردة فعل، حيال كلام السيدة، واكتفت بإنزال يدها والحجاب، والإيماء بالموافقة. سحبت السيدة الغطاء، ورمته جانباً، ثم أمسكت الصغيرة، واستغربت لوهلة، حرارة كفها، وقالت: تعالي سأريك غرفتك.. سنبقى هنا لأيام، ثم تحصلين على غرفة أجمل منها بكثير. وكانت تقصد الفيلا، والغرفة الملونة التي أعدتها للضيوف. حينها لم تصدق نفسها، كيف فكرت أن تمنح غرفة ضيوفها بهذه البساطة. كيف قررت ذلك؟ ولماذا انتقلت حرارة كف الصغيرة إلى جسدها؟ ربما هي الشفقة كانت تفكر بينها وبين نفسها، فهذه البنت ليست في النهاية، أكثر من خادمة!

أخذت تستعيد الالتماعة الأولى، وكيف أمسكت بيد الصغيرة، وشعرت أن ما بقي لها الآن هو كابوس الضوء المائل. وربما تعيش أيامها خاوية، إن لم يُدقّ الباب بعد قليل، وتدخل خادمتها السمراء التي كانت في اللحظة نفسها، تنظر إلى النافذة المغلقة للمرة الأخيرة، وهي تقوم عن السور الرخامي، وتدس الصورة في حقيبتها، قبل أن تختفي مع الريح.

توقفت الصور عن الرقص في غرفة حنان الهاشمي ذات النافذة المغلقة. وتأكدت أن خط الضوء المائل لم يكن حلماً. فكرت الاتصال بنازك، لكن الوقت ما يزال مبكراً. وربما تثير فضيحة. ماذا ستقول لها؟ لكنها تريدها الآن.

أمسكت هاتفها النقال. رنت. لم تسمع رداً، شتمتها في سرها، ورمت نفسها على السرير، وهي تفكر أن الموت يلاحقها من جديد. تجد نفسها في غرفتها وحيدة تماماً كما حدث منذ سنوات طويلة، بعد قرار العائلة أن تتزوج فجأة من ابن عمها. تفكر أنها تشبه نفسها في ذلك الزمن

قبل عشرين سنة، ربما أكثر؟! كانت حينها تجد الأعذار لتبقى في غرفتها، أو تذهب إلى الجامعة، أو تفعل أي شيء يجعلها بمنأى عن الجلوس قرب الأم والعائلة، هرباً من الحديث الممل عن جمال البنت الرائع، وعن حظها التعيس في الزواج من رجل عاقر، وعن اجتهادها في إكمال دراستها بعد الزواج، وعن.. .

كانت تتمنى أن يزور الموت البيت، ويرحل بصحبة أحد ما؛ فالموت هو الحل الوحيد القادر على جعل حياتها أقل تعاسة. إذا ذهب الزوج ستكون ممتنة لله، لكن الزوج لم يذهب. مات الأب، وانتظرت أمها سنوات طويلة حتى ماتت ذات شتاء.

عليا هي الإنسان الوحيد الذي لم تتخيل موته، لكنها ترحل الآن، وتموت من حياتها!

تصرخ حنان الهاشمي. تنظر إلى النافذة، تهمّ بالنهوض، وإزاحة الستارة. تقرر أن تبقى ساكنة. هي ميتة الآن!! ترتاح لهذا الخاطر.

كان لحنان، جسدُ غلام، ولم يتغير حتى هذه اللحظة التي تستلقي فيها على سريرها، كميتة. صدر صغير، خصر نحيل، وردفا صبي في العاشرة، بلا تكور أو استدارة، وشفتان رقيقتان. عندما حاول زوجها في إحدى المرات، تقبيلها، صرخت من الألم، وبقيت في غرفتها أياماً خجلى من شفتها. قالت لأمها بعد ذلك بأيام؛ إن زوجها كان يريد أن يبتلعها من شفتيها!

كانت تخبر الأم بأدق التفاصيل حميميةً، في فراش زوجها. وإن لم تفعل، فستجد الأم طريقها إليها، نادمة على أنها لم تعلم ابنتها فنون الفراش، كما تفعل نساء الشام مع بناتهن عادة، للحفاظ على أزواجهن، وجرهم إلى متعة الليل. وحين بدأت تعلمها تلك الفنون، كان الأوان قد فات. وأي تعليمات جديدة تجعل حنان أكثر ذهولاً وبروداً. هل تستطيع أن تجر زوجها إلى فراشها؟ وكيف ستجره؟ لماذا وقفت أمام أمها بكراهية، وهي تعلمها الذي يتوجب عليها أن تفعله: أن ترغب ولا تمانع، أن تمانع ولا تتمنع، أن تتدلل حتى يذوب الرجل من الرغبة، أن تداعبه برقه وتجعله تاج رأسها، تمسح قدميه وتفرك جسده بالزيوت التي تأتي أمها بها من سوق العطارين، ثم تلقمه الطعام لقمة، لقمة. وهذا ليس دائماً، هناك شد وإرخاء. شعرة صغيرة يجب أن ألاّ تنقطع. الكثير من الدلال والحزم معاً، لحظات كافية لجعل قلب الرجل يشتعل. وقلب الرجل بين منطقتين، لا يضخ الدم إلا من بين فخذيه، قبل أن يتوزع إلى باقي جسده تقول لها أمها. وكانت حنان تصاب بنوبات من الضحك، عندما تتأكد أن أمها لا تفهم في العلوم شيئاً، فتخبرها أن القلب هو ما يضخ الدم، فتنظر الأم إلى ابنتها، وتتمتم:

· بلهاء..بل من تحت.. وهنا مربط الفرس يا شاطرة.

ولم تكن الأم تتوقف حتى تغفو ابنتها في سريرها، فتنصرف محبطة من بنت بلهاء، لا تشبه أمها.

تغمض حنان عينيها على تلك الجملة:

· بلهاء، لا تشبه أمها.

تحرك يديها أمام وجهها، وكأنها تنفض الغبار. تقفز ثانية، تفتح النافذة، تنظر في الأفق الذي بدا أكثر وضوحاً مع تسلل الفجر، تلمح خيالاً واهياً لكائن يتحرك ببطء وتثاقل. كائن يشبه نقطة سوداء.

ـ هل هي عليا؟

تسأل نفسها.تسمع صوتها، وتعود إلى مرآتها لتكتشف إلى أي حد كانت تهذي.

* * *

بإذن من الكاتبة سمر يزبك، خصيصا لصفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى