صفحات سورية

محاكمة الرأي الآخر في سورية

null
عبدالله تركماني
” مفحم البيان الاتهامي لمعتقلي دمشق، لكن من الصعب أن نجد قفصا للجميع ؟ ” (1)
في سورية ما زالت السلطة ماضية في قمعها للحريات الأساسية، وفي انتهاكها لحقوق الإنسان ومناقضة مواثيقها الدولية. وهي لا تكتفي باستخدام أجهزتها الأمنية المتعددة في ذلك، بل إنها تسخّر القضاء السوري أيضا، وتمعن في الحط من وظيفته وإلغاء كل استقلال له.

لقد تعرض نشطاء الشأن العام، منذ بداية العهد الجديد في العام 2000، إلى ثلاث موجات اعتقالات تعسفية ومحاكمات صورية: فمن معتقلي الرأي والضمير لربيع دمشق في العام 2001، إلى معتقلي إعلان بيروت – دمشق لمجموعة من المثقفين والناشطين السوريين واللبنانيين في العام 2005، لتسوية الخلافات العالقة بين لبنان وسورية بروح الأخوة بين الشعبين والدولتين. وعشية الذكرى التاسعة والخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقدمت مخابرات أمن الدولة على حملة استدعاءات واعتقالات لأعضاء المجلس الوطني لـ ” ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي “، وقُدِّم اثنا عشر منهم إلى محكمة صورية، طبقا للأحكام العرفية وحالة الطوارئ (رئيس مكتب الأمانة رياض سيف، رئيسة المجلس الوطني فداء الحوراني، أميني سر المجلس: أحمد طعمة وأكرم البني، أعضاء الأمانة العامة: علي العبد الله وجبر الشوفي وياسر العيتي، وأعضاء المجلس الوطني: وليد البني ومحمد حجي درويش ومروان العش وفايز سارة  وطلال ابودان)، بعدما كانت قد اعتقلت ما يزيد عن أربعين من نشطائه على دفعات عقب عقد المجلس الوطني للإعلان في 1 ديسمبر/كانون الأول 2007، حيث تم استجوابهم أمام قاضي التحقيق بدمشق يوم 28 يناير/كانون الثاني 2008 ( من المفارقات الملفتة للانتباه، أنّ قاضي التحقيق واجه معتقلي الرأي والضمير بتقرير الأمن واتهاماته المعتادة والموزعة على مواد قانون العقوبات )، ثم إحالتهم بعد أكثر من شهرين إلى قاضي الإحالة، الذي أصدر قراره الاتهامي بحقهم في 16 أبريل/نيسان 2008، ثم عقدت محكمة الجنايات الأولى في دمشق جلستها العلنية الأولى في 30 يوليو/تموز الماضي، وبذلك مهدت لأكبر المحاكمات السياسية في تاريخ سورية المعاصر. ومن المفترض أن يكون المدعي العام قد قدم ادعاءاته في 26 أغسطس/آب الجاري، بالرغم من تأكد السلطات السورية من عدم جدوى المسرحيات القضائية في تحسين صورتها أمام الرأي العام في الداخل والخارج، وفي قمع المعارضة والقضاء على الرأي الآخر.

إنّ لائحة الاتهام أقرتها النيابة العامة وتبنتها كما جاءت تماما بالتقارير الأمنية المصاغة من قبل ضباط إدارة المخابرات العامة دون زيادة أو نقصان، وهي تهم أصبحت ثوبا موحدا مفصلا لمن تريد السلطة أن تنكّل بهم: تشكيل تنظيم سري لتغيير النظام بالقوة، ونشر أنباء كاذبة توهن عزيمة الأمة، والاعتداء على هيبة الدولة والتحريض الطائفي.

إنّ التهم لا تحتاج حتى للتعليق، فهي وُجِّهت بعد أن مارس الناشطون حقهم في التجمع الذي يكفله الدستور السوري ( المادة 26: لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمادة 38: لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى، والمادة 39: للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميا في إطار مبادئ الدستور ) وسائر المعاهدات الدولية التي صادقت عليها سورية. إنها تهم ضد آرائهم فقط وليس ضد أي فعل ارتكبوه، وتعتبر إدانة لذات المحكمة التي تستقي أحكامها من السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية.

إنّ هذه المحاكمة لوجوه إعلان دمشق البارزين، إنما هي في الحقيقة محاكمة سياسية للإعلان، بل للمعارضة السورية، بسبب الطرح السياسي الذي تضمنه البيان الختامي لمجلسه الوطني الذي انطوى على معالجة سياسية جادة للأزمات التي تتعرض لها سورية، على مختلف المستويات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية. كما تضمن حلولا عقلانية لتلك الأزمات، من شأنها أن تخرج سورية من عزلتها، وتصلح أوضاعها المأزومة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بأقل الخسائر، وتتصالح مع أشقائها، وتعود إلى حضنها العربي، وتتعامل مع المجتمع الدولي انطلاقا من المصلحة الوطنية السورية، واستنادا إلى مبدأ المصالح المتبادلة المشروعة، آخذة بعين الاعتبار المتغيرات العالمية والشرعية الدولية وروح العصر.

ففي سورية ما يكفيها من الأزمات والتحديات، التي تحتاج إلى جهود لا يستطيع النظام مواجهتها بانفراده وتحكّمه ومنعه النشاط السياسي وحجبه حق المعارضة عن المواطنين، كما تحتاج إلى قبول الرأي الآخر والكف عن قمعه وتجريمه أو تخوينه.

إنّ بوادر الانفراج في سياسات النظام الخارجية وما يعبر عنه إعلامه من إحساس بتراخي العزلة من حوله، لا يمكن أن تتأكد من دون أن يكتسب مصداقيته في سياساته الداخلية، وطالما بقيت العقلية الأمنية مهيمنة على سياساته تجاه المجتمع السوري ونخبه الثقافية والسياسية، كما فعلت مؤخرا بخطف الناشط الكردي مشعل التمو.

ومن المؤكد أنّ كل الحريصين على سورية، مكانة ودورا ومستقبلا، يأملون من السلطات أن توقف هذه المحاكمة/المهزلة وأن تطلق سراح جميع معتقلي الرأي والضمير، وأن تفتح صفحة جديدة قوامها الحوار الوطني الشامل بين جميع أطياف الحياة الفكرية والسياسية السورية.

(1) – راجع:  عباس بيضون ” قفص للجميع ” – صحيفة ” السفير ” اللبنانية، 22/8/2008.

*   كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

الوقت البحرينية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى