صفحات ثقافية

حيـن تتقـدس الكراهيـة.. حيـن يظـن المثقـف أنـه اللـه

null

عباس بيضون

«انهم خونة وعلينا ان نقول لهم انهم خونة علهم يرتدعون فيكفوا عن خيانتهم» ليس مهما من قال هذه العبارة، ارجح انها بلا مؤلف. انها لا تحتاج لان نقولها حتى فهي تقريبا عقلنا السياسي اليوم. اما الحجة فحسية وبسيطة. القمحة تؤدي للدجاجة، الدجاجة تؤدي للخم.
الحجة بسيطة اما العالم فمعقد. في النهاية ثمة علم للسياسة لا يحتاج الى اكثر من العد على الاصابع الخمسة. ربما على طريقة الجنرال هناك من لا يستطيعون ان يعدوا الى اكثر من اثنين. هناك بالطبع من يبدؤون دائما من الطريق الثالث، انها حسابات سهلة مع ان العالم ليس سهلا. في النهاية وبحسب جمع صحيح يغدو العالم كله اسرائيلياً. بحسب جمع صحيح يمكن ان تكون نجمة داود على القمر. حساب صحيح، لكنه ايضا علم صحيح، هو علم الأوعية المتصلة. يمكن لعالم ان يكون كله من الخونة ونجمة داود فوق كل شيء. لماذا لا يكون ايضا فوق بيوت المال والكارتلات والستادات والأبراج المائلة وغير المائلة؟ رآها هتلر او رأى ما يشبهها فوق الفن الحديث والفلسفة المعاصرة له. هناك من ليسوا أقل نباهة ولا يحتاجون الى ان يفتشوا في عقل الآخر عنها، انها موجودة في العيون. مع ذلك تحتاج كالسيدا الى فحص دم، ومن الآن فصاعداً ينبغي ان تكون وثيقة براءتها معك. ان تقدمها ليس لمن يطلبها فقط بل الى ذلك الجالس على شاشة التلفزيون ويقول بكل هدوء «انهم خونة من اجلهم، من أجل خلاصهم نقول لهم انهم خونة».

طبعاً ليس مهماً ان نقول للجالس في شاشة التلفزيون إنه يخيفنا فهو لن يسمع، لأنه على الشاشة والذين على الشاشة لم يأتوا ليسمعوا. الذين على الشاشة يعرفون ان الشاشة لا تقول كذباً، ومن عليها يعدون حتى الاثنين جيداً وعلينا نحن الذين خارج الشاشة، غير المرئيين منها، ان نسمع. علينا ان نخاف، لان المسألة خطرة الى هذا الحد ولانك لا تأمن في ان يكون في عقلك، تحت عبارة او مبدأ او حتى عدد، تحت شعور او قلق او مرض عادي. لا تأمن ان تكون في دمك عدوى كلمة سمعتها او احساس مغلوط راودك. النجمة ذات الستة انياب.

لكن الجالس على الشاشة ليس وحده السعيد بأنه قبض أخيراً على الاسم الصحيح لمرض اسمه الآخر. هذا الاسم مصدر سعادة عامة، انه يقال بغبطة من رأى الشيطان فصح عنده وجود الملائكة. هي معجزة، ولم يصل إليها صاحبها لولا نور قذف في قلبه، ولولا انه وصل الى أعلى دركات التجلي ولولا انه شف فرأى الحق الصراح. انها رؤيا ولم يصل إليها بالهيّن ولا اخترعها او افترى وتقوَّل على غيره. انهم خونة قالت الشمس هكذا وقالت الأرض، سمعها من الأعلى ومن الداخل ومن فوق ومن تحت فلماذا لا يجهر بها على الملأ. وإذا قيل له انك هكذا تخيفنا. واننا حين نسمع كلمة كهذه نتحسس مسدساتنا. وان الناس لا يحتاجون الى اكثر من براءة كهذه ليرموا اول مار. ان هذه الكلمة لا تقال الا في غلالة من دم. وان الناس قد فاضوا كراهية وبغضاً، فلا يحتاجون الى قطرة زائدة، اذا قلت له ان بعض العبارات لا تتفرق عن القتل او الشهوة للقتل، فلن تضيع في الغالب. ان رؤيا كهذه اثمن من أن تهدر او أن تضع لحسابات الساعة، ان حكما كهذا نطق به الجحيم ونطقت به السماء لا يباع بظرف او تقدير. ثم ما المانع ان يكون القطرة الزائدة فإن الغضب والشحن، هما عنوان الحق وعنوان الجهاد، انه الغضب المقدس والكراهية أم الطوبى والحقد أب العظائم والقتل، نعم القتل، قابلة التاريخ؟ فلماذا نقول له تروّ ولماذا نقول له مهلاً ما دام الحق قد جلجل وصحت الرؤيا.

من ناحية ثانية يظن المثقف البائس في ساعة تجل انه الله، يخلق تحت قلمه مسوخا ويقتلها. يسميها اسماء سخيفة ويبصق عليها، يصنعها من ورق ويمزقها كالورق. يصنعها من خشب ويشعل فيها النار. يظن مثقف ساخط في لحظة خلق انه الله، يبدع من غضبه وكراهيته كائنات يعذبها ويجلدها ويسميها باسماء مرجومة، يلوي اعناقها ويعريها ويمنحها ويطردها والنار في اقفيتها. لقد عثر على صندوق باندورا واطلق كل حشراته دفعة واحدة، وتقول ان للناس اسماء وان تلقيها ليس فناً وان الالقاب والاسماء المرجومة لا تقتل. ويقال له انهم ليسوا اشخاصا فحسب وان وراءهم اناسا يصح ان تجتذبهم وتقنعهم لا ان تلقمهم احجارا. ويقال له ان المسألة ليست اثنين او ثلاثة، واننا لا نفعل شيئا بهذه الهستيريا الشتائمية سوى ان نثبت ايمانهم، وان المنابر والساحات ملأى بهذا الما، فلا نفعل شيئا اذا اضفنا اليه قطرة. ان لغة كهذه هي الوجه المضاد للانشاء التخويني وللكليشيه الجهادي وانها لا تقل تجويفا ولا بهتانا وفراغا عنها. انك لست الله لمجرد ان تكتب ولست الحق بمجرد ان تتكلم. ان ليس للشتيمة من خيلاء ولا امتياز ولا قوة خاصة، فهي في الغالب اضعف وأدنى. يقال له ان هذه مباراة لا تصل الى شيء وحجتنا عليها انها لا تصل الى شيء وباشتراكنا فيها نشرّعها ونشرع معها الهراء كله. باشتراكنا فيها نهين الكلام وهو صنعتنا ونهين العبارة وهي أداتنا ونهين الفكر نفسه. اننا لا نفعل كذلك الا وصرنا بدون ان نحتسب حملة هذا الكلام الذي لا ورق له الا الجدران ولا مخزن له الا الهتاف. ان ثقافة الشتيمة هي وثقافة الشعار سواء. اننا لا نفعل شيئا حين نرمي الآخر بالجهل ونعامله كالمسخ ونخاطبه من علياء ذكاء غير ظاهر ونباهة خفية وعلم مجهول. ان الجدل ليس استفراغا للسخط لكنه فن له غاية وغرض، وليس من اغراضه ولا افضاله ان نستفز كرها اضافيا لدى الآخر او حزازة زائدة. ليس من اغراضه ان نصارع الآخر على ارضه، أرض الحزازة والضغينة والعصبية المفرطة. ما زلنا، نحسب ان سببنا الوحيد للكلام هو وضعه على سكة تسمح بتقابل الافكار وبفرز الخيط الأسود من الأبيض وبايجاد قاعدة عقلانية للحوار. سببنا الوحيد للكلام هو ان نلقي حجة على الآخر لا شتيمة او عصا رمزية او بصقة. سببنا ان نجتذبه لا ندحضه. ان نقاسمه خلاصة ما لا ان نهينه بجهله، ان ندعوه الى كلمة سواء لا ان نمسخه. ليست مباراة في الكراهية بالطبع ومن يظن ان مباراة كهذه تفضي الى نتيجة. ثم هناك. هناك حجم من الكراهية، حجم من السخط والحزازة، حجم من المسخ والابادة والمسخ في الشارع ولا نفعل حين نخوض في ذلك سوى ان نمسخ انفسنا، سوى ان نجعل منها دمية كراهية. ثم هناك. ألستم ترون الحرب، الحرب، التي أولها كلام كما قال البطرك؟ الحرب التي لا تزال كلاما، وفي الحروب ليس من عقل سوى هذه الكراهية. أليس علينا الا نبقى في ذيل هذه المسيرة؟ ان يبقى لنا على الأقل صعيدنا الخاص. ان نصارع على ارضنا. أليس علينا ان نقف ضد لغة الافتراء والشتيمة والشائعة والتقويل والديماغوجية التي هي حرب «مفتوحة» في الميديا والمهرجانات والتصريحات؟ أليس دحض لغة كهذه هو من موجبات الثقافة، ومن موجباتها التصدي لسرطانة وثقافية وثقافة صوتية، لثقافة التابو والاصنام الكلامية، فماذا يكون الأمر إذا تاجرنا بلغة كهذه، بلغة هي ايضا قرينة ثقافة منتكسة ومتكلسة ومرتاحة الى طفولة متأخرة. ماذا يكون الأمر اذا مشينا في ذيلها. ماذا يكون الأمر إذا صنعنا غوغاءنا الخاصة وعاميتنا الخاصة، أنكون حلقنا براديكاليتنا أو سقطنا الى حضيض العامة، وليس الفرق بينهما بكبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى