صفحات سورية

القرار الأميركي الذي يستطيع تغيير حاضر لبنان وسوريا

null
جهاد الزين
هناك “فكرة مسبقة” في العديد من الأوساط الاسرائيلية والعربية (واللبنانية) حول موقف الحكم في سوريا من السلام (السوري) مع اسرائيل لا تزال راسخة رغم التحولات الجوهرية التي حصلت والتي تجعلها – كفكرة مسبقة – منتهية المفعول التحليلي الدقيق وتحتاج الى إعادة نظر عميقة.
تقوم هذه الفكرة التي عاد بعض المعلقين الاسرائيليين الى استخدامها مؤخراً – وبينهم شالوم يروشالمي في صحيفة “معاريف” – على تكرار ان “طبيعة” النظام السوري لا تسمح له بالدخول في سلام نهائي مع اسرائيل حتى لو قبلت اسرائيل بإعادة الجولان، لأن “اتفاق سلام كهذا سيضعضع الحكم ويفكك جدول أعماله التاريخي”… ولأن الحكم السوري “يستند فقط الى نزعة الكفاح ضد اسرائيل”. ويريد أصحاب هذا التحليل القول إن اي سلام مع اسرائيل “سيفقده شرعيته” تجاه المجتمع السوري.
هذه واحدة من أكثر الافكار قدماً حول النظام السياسي القائم منذ أربعين عاماً في دمشق، والذي يشكل امتداداً مباشراً لتحولات الستينات من القرن العشرين التي انطلق منعطفها التاريخي الحاسم مع اعلان الوحدة السورية – المصرية ثم اعلان الانفصال السوري عنها.
التوظيف السياسي الاسرائيلي الحالي لهذه الفكرة القديمة واضح جداً:
فحكومة اليمين الليكودي تستبعد أي تجديد لمفاوضات سلام جدية مع سوريا من ضمن خطها العام المستبعد لكل سلام نهائي مع الفلسطينيين… والعودة الى التبشير بفكرة “عدم قدرة النظام السوري على تحمل تسوية سلمية”، يخدم هذا الاتجاه بشكل بديهي لأنه يرفع المسؤولية في “البروباغندا” عن التصلب الليكودي.
واقع الامر ان هذه “الفكرة المسبقة” لم تعد صحيحة وأول من يحتاج الى التسليم بعدم صحتها هم المسؤولون الاميركيون في زمن إدارة الرئيس باراك أوباما.
يستطيع الرئيس بشار الاسد – والنظام بكامله – أن يدخل في سلام نهائي مع اسرائيل على قاعدة التحرير الكامل للجولان المحتل لسببين رئيسيين:
الاول: ان المجتمع السوري تغير في نظراته الى السلام مع اسرائيل.
الثاني: ان “جيل” بشار الاسد بات حاملاً لعدد من التصورات المختلفة فعلياً عن مرحلة “المؤسس” حافظ الاسد.
باختصار… يمكن ترجمة هذين السببين في نقطة واحدة كبرى:
لقد اتخذ النظام في سوريا بقيادة الرئيس بشار الاسد قرار السلام مع اسرائيل الذي لم تتح الظروف على الارجح للرئيس حافظ الاسد أن يحسم تجاهه.
مرت القيادة السورية في أزمة مصيرية بين العامين 2003 ومنتصف 2008 وبصورة خاصة بين العامين 2004 (أواخره) و2007 عندما كان القرار الاميركي في عهد إدارة الرئيس جورج بوش هو السعي لاستكمال ارغامها على الانسحاب العسكري من لبنان بالسعي الفعلي لإسقاط النظام داخل سوريا.
كانت أزمة مصيرية فعلاً عليه، بحيث يمكن القول ان “عهد” بشار الاسد الفعلي بدأ عندما دخل عام 2004 للمرة الاولى منذ توليه الرئاسة عام 2000، في قتال مباشر على جبهات عديدة على رأسها الجبهة العراقية ولبنان.
وببساطة (… حيث لا ينفع التبسيط!) لقد ربح الحرب. لقد قلت لديبلوماسي اميركي زارني قبل فترة في مكتبي في “النهار” وهو يعمل ضمن طاقم السفارة في بيروت ومنتدب لمهمة بحثية لفترة موقتة يعد خلالها دراسة لوزارة الخارجية حول الحرب الاهلية اللبنانية بين 1975-1990… قلت له: إذا كان لديك اتصال بالسفير جيفري فيلتمان، المساعد الحالي لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، فأرجوك ان تقول له ان احدى صياغاته خلال شهادته مؤخراً أمام “مؤسسة هدسون للابحاث” حول العلاقات السورية – الاميركية قد دخلت التاريخ السياسي للمنطقة…
فقبل بضعة اسابيع (19/1/2010) قال جيري فيلتمان، السفير الذي “ادار” من بيروت معظم فترة الصدام السوري – الاميركي بين 2005 و2008: “لقد حاولنا عزل سوريا فوجدنا اننا نحن المعزولون وليس سوريا”. هذا كلام مهم جداً ليس فقط لأنه يعترف بربح القيادة السورية لـ”الحرب” بل ايضاً لأنه يصدر عن ممثل دولة عظمى… إذ يمكن فهم أن تفشل سياسة عزل سوريا لكن ان تكون دولة عظمى معزولة نتيجة ذلك فهذا ليس مألوفاً!… وباعتراف من ديبلوماسي اساسي في تلك المرحلة.
إذن… ربحت سوريا “الحرب”… لكن خلالها كانت التفاعلات السياسية الاستراتيجية تتبلور: علاقة جديدة نوعية مع تركيا لا حاجة للتشديد الأكيد انها عبرت عن تحولات داخل سوريا نفسها. لأن أي عودة – لا مثيل لها على أي حال منذ العشرينات – للانفتاح على شمال سوريا، وعاصمته الكبرى حلب “المنسية” طويلاً، يشكل تطويراً في الرؤيتين الداخلية والاقليمية للدولة السورية.
لا شك ان الثابت الايراني في علاقات سوريا يتخطى محض ضرورات الصراع السوري – الاسرائيلي حتى لو كان يتحرك في قلب هذا الصراع. إذن هو ثابت تكويني في علاقات النظام… لكن لا شك انه رغم تعقيد التوجهات الايديولوجية والسياسية الراديكالية، فإن انفتاح أو انسداد آفاق الحل السوري – الاسرائيلي يسمح، بل سمح بتعديل أولويات حلف دمشق – طهران. ففي عهد الرئيس حافظ الاسد كانت أولويات الحلف في “بلاد الشام” – ومن ضمنها جنوب لبنان – تقررها الاستراتيجية السورية وتتكيف معها الاهداف الايرانية، لاحقاً، وعندما اصبح النظام في سوريا موضع استهداف اميركي لوجوده بدت ايران أكثر قدرة على تقرير هذه الاولويات.
غير ان الموقع الحيوي لسوريا، ناهيك عن استعادة قيادتها لعناصر قوة ذاتية داخلية وخارجية، يُمكّنها من العودة الى “فرض” أولوياتها في محيطها (المباشر) دون مساس بجوهر التحالف مع ايران. وقد يكون من المبكر جداً اليوم في ظل الانغلاق الاسرائيلي أمام التسوية مع سوريا القول ان صانعي سياسة “الأمن القومي الايراني” لن يترددوا طويلاً في اعتبار سلامة النظام في سوريا اي ديمومته، وقد حقق مصلحته الوطنية العليا باستعادة الجولان، تستحق التراجع عن المشروع العسكري الراهن في جنوب لبنان، كما ارتسم عام 2000 عبر “حزب الله”. لكن هذه خيارات مؤجلة بل ليست مطروحة حالياً طالما أفق السلام مع اسرائيل مسدود اسرائيلياً وليس سورياً.
لقد اتخذت القيادة السورية قرار السلام، هذا اختلاف استراتيجي عن مرحلة الرئيس حافظ الاسد.
ومرة أخرى: أول المعنيين بتبني هذا التحول هم المسؤولون الاميركيون. فإذا استطاعت واشنطن الخروج من فترة الوقت الضائع المتمادية في الشرق الاوسط، أي في الصراع العربي – الاسرائيلي، واتخذت قراراً استراتيجياً بدفع اسرائيل نحو تسوية سلمية مع سوريا باتت معالمها واضحة بل مكتوبة منذ العام 2000، فإن وجهاً جديداً للمنطقة سيبدأ بالارتسام، وحتماً فإن حاضر لبنان وسوريا ومستقبلهما سيتغيران من وجوه عديدة.
السلام السوري – الاسرائيلي هو بالنتيجة في شقه التقني خلاف حدودي… إذا توفرت الارادة السياسية الاسرائيلية مقابل الارادة السورية التي نزعم منذ عدة مقالات سابقة انها متوافرة في عهد بشار الاسد للأسباب التي عرضناها.
ولا نفهم – وإذا فهمنا من الصعب أن نقبل – اسباب استمرار التلكؤ الاميركي عن سلوك خط تسووي “اسهل” نسبياً من البنية المعقدة للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي على أرض فلسطين.
•••
أما في ما يتعلق بلبنان، فقد يكون من المفيد التكرار ان “الديبلوماسية اللبنانية” يجب أن تعطي توجيهاتها المباشرة لجميع أجهزة سفاراتنا ليس فقط بإعلان تأييد الجهود السورية للتسوية السلمية، فهذا تحصيل حاصل، بل التعامل مع هذه المسألة باعتبارها مصلحة لبنانية عليا.
نحن في لبنان أصحاب المصلحة الكبرى في تحرير الجولان ضمن تسوية سلمية.

(•) راجع مقال جهاد الزين: “ثلاث اساطير حول النظام السوري”.

ثلاث “أساطير” حول النظام السوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى