صفحات سورية

السلطة حين تفقد أعصابها

null


نهلة الشهال

وقائع ثلاث تتلازم اليوم وتؤشر معاً إلى ارتفاع منسوب التوتر في سلوك السلطات المصرية. الحدث السباق من بينها كان الطريقة التي أدارت بها تلك السلطات اقتحام الغزاويين الجائعين والمحاصرين للحدود المصرية في رفح. فما أن استوعبت الصدمة الأولى المرافقة لانهيار تلك الحدود وتدفق أكثر من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني – كل سكان القطاع عملياً – إلى المقلب الثاني منها،
إلى البلدات المصرية الفقيرة المتاخمة لها، والتي راح الفلسطينيون يتنزهون فيها ويشترون كل ما وقعت عليه أيديهم، حتى لملمت حكومة السيد نظيف تعاطفها وتفهمها الأوليين، وراحت تشيع الأخبار والتحليلات عن ضبط فلسطينيين متلبسين بوقائع «إرهابية» (تهريب متفجرات من غزة إلى مصر!)، وعن عدوان على قوات الأمن المصرية وجرحى منهم بحجارة الفلسطينيين، وعن رفع العلم الفلسطيني على أماكن عامة مصرية في سيناء… وكلها تدل على مؤامرة إسرائيلية – قديمة وقيل فيها انها مستديمة، وسنداً لذلك نبش التاريخ وظهّرت وثائق منسية – تتولى حركة حماس تنفيذها لتحويل سيناء إلى وطن بديل للفلسطينيين! ثم انتهى الأمر، بعد سيل الشتائم والردح عن نكران الفلسطينيين للجميل، وعن كونهم جميعاً «مليونيرات»، يملكون ما يكفي من فلوس لشراء ما يشاؤون – حتى منحة الفقر نزعت عنهم – إلى تهديد وزير الداخلية، السيد أبو الغيط، لهم بكسر أرجلهم إن هم عادوا إلى وطء الأرض المصرية والمس بـ»قداسة» الحدود.

وما إن هدأ قليلاً غبار هذه الزوبعة، حتى انفجرت في الأسبوع المنصرم «فضيحة» انتخابات المجالس المحلية التي كانت تعتمل في العلن وليس في السر، وفق الصفة المعهودة الملازمة للكلمة. فقد سبق تدني نسبة المشاركة في الاقتراع إلى ما قيل انه 5 في المئة ممن يحق لهم التصويت، فرض حصول كل مرشح لانتخابات تلك المجالس على موافقة مباحث أمن الدولة على ترشيحه: ليس على سجل عدلي نظيف، وهو أمر بديهي، بل على رضا المباحث عنه (رحم الله أنظمة أحزاب البعث)… التي لم تمنح تلك الشهادة الثمينة إلا لمن تشاء، مما جعل 80 في المئة من المجالس المحلية فائزة بالتزكية قبل الشروع بالانتخاب. ثم رشح «الحزب الوطني» الحاكم 55 ألفاً من المرضي عنهم لملء 52 ألف مقعد في الـ 4500 مجلس محلي الموزعين على الأحياء المدينية والبلدات والقرى. ثم – لم ينته المسلسل بعد – راح الأمن يعتقل بكثافة مميزة قيادات وكوادر تنتمي بالدرجة الاولى للإخوان المسلمين من الذين خشي، رغم المصدات السالفة، تسربهم إلى بعض المجالس، ثم – نعم – قرر أن يترك 23 مقعداً من مجلس مدينة المحلة الكبرى لتفوز بها، بالتزكية أيضا، أحزاب أخرى معارضة هي «الوفد» و»التجمع» و»الجيل»، وهو كرم أملته في اللحظة الأخيرة وقائع الحادثة الثالثة.

الحادثة الثالثة إذاً هي إضراب عمال المحلة الكبرى التي تنتمي إلى ميثولوجيا مصر الحديثة، لأنها ترمز إلى مصانع الغزل والنسيج، بعشرات آلاف عمالها وعاملاتها. وهؤلاء باشروا في كانون الأول (ديسمبر) 2006 إضرابات للمطالبة بتحسين أجورهم وسائر شروط العمل. وفي نهاية أيلول (سبتمبر) الفائت، عادوا للإضراب واحتلوا لمدة أسبوع المصانع في اعتصام تميز بحسن تنظيمه وسلميته، وشهد على ذلك العالم، إذ تواصل العمال – بفضل الانترنيت – مع نقابات عمالية كبرى تضامنت معهم، كإتحاد عمال النسيج العالمي ونقابة عمال القطاع العام في جنوب إفريقيا، ومع صحافيين في أماكن قصية. وأدى التقرير المستمر الذي كانوا ينشرونه والقدرة على بث أشرطة حية مصورة، إلى إحاطة تحركهم بقدر من المتابعة من قبل حركات مصرية أخرى، مطلبية واحتجاجية، ووسائل إعلامية محلية وخارجية. ويومها تجاوز العمال المضربون الأطر النقابية المتكلسة أو المفسدة من قبل السلطة، وشكلوا لجاناً منتخبة أثناء الإضراب والاعتصام، ومسئولة أمام العمال، تناقش مع جمعية عامة يومية القرارات المطلوب اتخاذها، في خطوة تطبيقية للممارسة الديموقراطية صلّبت كثيراً التحرك، وجعلت التفاوض مع الحكومة الذي تولته تلك اللجان المنتخبة ينتهي إلى تحقيق عدد من المطالب العمالية، مما اعتبر نجاحاً. وقد عاد العمال إلى الإضراب منذ أسبوع متابعة لتحقيق مطالبهم التي نالوا بشأنها وعوداً منذ أشهر، فقامت السلطات بالتعامل مع تحركهم هذا بوصفه «مسيساً» – يا للتهمة! فالسياسة شأن عليّة القوم – وجزءاً من التحرك ضد «النظام» في أسبوع الانتخابات المحلية وما سبقها من توترات واحتجاجات على مسارها، عولجت بإنزال أعداد غفيرة من الشرطة لاحتلال الساحات العامة ومنع الناس من التجمع والتظاهر وتوقيف المئات وإحالتهم على القضاء بتهم الشغب. وفي المحلة الكبرى، هجمت الشرطة على التجمعات العمالية وفضتها بالغاز المسيل للدموع وبإطلاق الرصاص الحي – مما أدى إلى سقوط عدة جرحى بحالة الخطر – وقامت كذلك باعتقال العشرات، وأكملت باقتحامات في الأحياء السكنية استمرت حتى أوقات متقدمة من الليل، وأطلقت هناك كذلك الرصاص، وهو ما أدى إلى مقتل فتى كان على شرفة منزله، أصيب برصاصات ثلاث في الواحدة فجراً!

يمكن مقارنة الانتخابات المحلية الحالية بسالفتها في 2002، حيث لم يتم الحسم المسبق بالتزكية سوى لـ 52 في المئة من المقاعد، وهو ما لم يمنع الحزب الحاكم من الفوز بنسبة 97 في المئة من المجالس! ورغم ذلك، فسياق الانتخابات الحالية يمثل وبالمقارنة ارتداداً، حيث يمكن القول إن الانتخابات لم تجر أصلاً. والطريف هو ذلك الاستخدام الشكلي البحت للغة القانونية وللمؤسسات القانونية لتغليف عمليات لا تترك أي هامش ولو شديد الضعف أمام ممارسة الحياة العامة. فقد حلت هذه المقاربة الشكلية للقانون مكان نظريات الديموقراطية الشعبية التي التصقت بأنظمة شمولية تعتد بايديولوجيات ومصالح «الطبقات الفقيرة» التي تبرر لها مسلكها. كما باتت هذه السلطات تعرف كيفية تجنب القمع المكشوف لأنظمة بوليسية فجة، ولا أقصد عدم ممارسته على الأرض وإفساح المجال لحيز من العملية الاعتراضية المضبوطة وذات الوظيفة التخفيفية، وإنما بإحاطته بسلطة القانون! فالتعامل الحالي مع إضراب العمال في المحلة أقسى بكثير مما حدث في العامين الفائتين. ولعل السبب مزيج من اشتداد الأزمة الاجتماعية إلى حدود خانقة، لم تعد تترك مجالاً للمناورة أمام النظام القائم، وقد شهدنا على امتداد الشهر الفائت مأساة الخبز المفقود في مصر ووقوع عشرات القتلى في طوابيره، وارتفاع الأسعار الجنوني الذي يسمح بالكلام عن انتشار الجوع في مصر، بالمعنى الحرفي للكلمة. ثم تصل مسالة تأمين انتقال السلطة – أو ما يسمى بوراثة الرئيس مبارك – إلى حدود يبدو أنها باتت حرجة هي الأخرى، حيث تميزت الترشيحات المعتمدة إلى المجالس المحلية بالرغبة في ضبط شبكة من يمكنه الاستفادة من المصالح التي توفرها عضوية هذه المجالس، وذلك دعماً لما يقال له اتجاه الشباب في الحزب الحاكم، أو تيار نجل الرئيس ومن يحيطون به من رموز الاتجاه الليبرالي الصافي. ولعل ذلك يفسر النزق الذي ساد في التعامل مع هذه الانتخابات وما أحاط بها. وبكل الأحوال، يمكن نعي ما سمي بالاتجاه إلى الانفتاح السياسي الذي أعلنت النية عنه في 2005، وتسجيل انكفاء يعلن انتهاء «المزاح».

أما بخصوص غزة، فهاجس التطابق مع ما يفترض أنه يوفر الرضا الأميركي والإسرائيلي يبدو هو الأخر سيد الموقف، ويبدو أن هوامش الاستقلال هنا ضاقت فوق ما كانت ضيقة أصلاً. وتقول الخبرة السياسية لحالات مشابهة إن ذلك اقصر الطرق نحو فقدان الزمام كله: ليس خلف هذا القول بحث عن موقف وطني أو قومي أو ثوري، بل شيء من الاحتفاظ بالقوام، ليكون فرض أخذ المصالح الذاتية بالاعتبار ممكناً. ولكن يبدو أن السلطات المصرية لم تعد تراهن سوى على التهويل ببعبع استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة. فهل يكفي لحفظها في يدها؟

الحياة – 13/04/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى