ذاكرة الصفحاترفيق شامي

من ذاكرة الصفحات: حكايات البؤس السوري – نِعمــة ذاكرة الحمــار

null

رفيق شامي

الحكاية الرابعة -نِعمــة ذاكرة الحمــار

يعتقد البعض أن أكثر البائسين شقاءً هو من يهرب من ذاكرته أو يخسرها ليمضي يومه كالدابة. تستحيل خسارة الذاكرة إن لم تكن لأسباب بيولوجية أونتيجة مرض نفسي دون عنف ضد الذات. فلكي يهرب المنفي من بؤس الذاكرة إلى بؤس النسيان عليه إغتصاب نفسه لأن الظروف الموضوعية للمنفى ترهف الحس بالوطن وتؤدي إلى تماه كبيرمع مكان الطفولة.

. وهذالا يحتاج لثقافة عالية فحتى الطيور والأسماك تبحث عن مكان طفولتها ويقطع بعضها آلاف الأميال ليصل اليه. ولأن المنفى قلما يعطي إمكانيــة لضرب جذور جديدة ناهيك أن ضرب الجذور له علاقة حميمة بالطفولة ويصعب لكي لا نبالغ ونقول يستحيل حتى في بلد مضياف فكيف الحال والقرن العشرين أصبح قرن المشردين الغير مرغوب فيهم.

كبيرة هي المساحة التي تحتلها هموم الوطن في حياة المنفي. وقد يحول شوق المنفي غبار الحارات إلى تبرٍ ويضفي لوناً وردياً على صور الوطن في ذاكرة المنفي. خاصة إن كانت قريته أو مدينته جميلة واقعاً. لي زملاء إيرانيين يكرهون طهران لبشاعتها. زملاءآخرون أفغانيون لا يكفون عن شتيمة كابول كقرية قبيحة بائسة ولذلك يسهل عليهم نسبياً الأبتعاد روحياً عن أماكن طفولتهم بينما يعصى ذلك علي فمعلولا قريتي ودمشق مدينتي جميلتان حتى اليوم رغم كل التشويه الذي لحق بهما نتيجة البناء العشوائي .

زميلي التعيس الذي يجبر نفسه على نسيان باب توما ويذكرني دوما بجمال نظام مدينته الألمانية ، يخلط بين الجمال الضارب بجذوره عمقاً حتى بدايات الحضارة والذاكرة وبين التنظيم الحديث لمدينة دمرت عن بكرة أبيها في الحرب العالمية الثانية ونهضت من جديد حديثة، نظيفة، عملية ككل ما يخترعه الألمان وهي لا وجه لها ولا تاريخ.

لكن الأتعس من هذا المنفي الذي يخسر ذاكرته عن باب توما الحي الدمشقي الجميل هو ذاك الذي يتمتع بذاكرة قوية فوق العادة. ذاك الذي يظن أنه لا ينسى شيئاً لأنه يسقط في شرك الإنتقائية. يظن أنه يتذكر كل شيء بموضوعيــة. والذاكرة عدوة الموضوعيــة. فمقارنة متمهلة وسماع دقيق لما يتذكره هذا الإنسان يظهر بما لا يتحمل الجدل أن ذاكرته إنتقائية.

الذاكرة الجيدة سلاح ذو حدين فهي بحدها البناء ديناميكية ضرورية لإستقراء التاريخ القديم والحديث لنتبين مدى صلاحية ما نفكر أو نقوم به. لأن كل فكروعمل لا يأخذ التاريخ بعين الإعتبار لا يأخذه التاريخ بعين الإعتبار.

الذاكرة الجيدة تحمي الإنسان من الوقوع في نفس الخطأ، كان جدي – رحمه الله – يقول: “لو كان للبشر ذاكرة مثل ذاكرة حماري لما ركضوا وراء حاكم”. كان هذا جوابه لي عندما سألته وأنا بعمر عشر سنوات لماذا يقف حماره على طريق الكروم عند منطقة معينة ويرفض التقدم إلا بتأني وحذر شديدين ملتفاًً حول بقعة معينة وسط الطريق. روى لي جدي أن عمال البلدية قاموا قبل أكثر من عامين هناك بحفر الطريق لتمديد أنابيب المياه وظلت الحفرة لمدة أشهر مفتوحة دون حواجز وقاية كعادة البلدية في قريتنا.

ولكن الذاكرة الجيدة تتحول لمصدر بؤس متى أصبحت إنتقائية ومغرقة إلى ذلك في ماض براق تنتشي به إلى حدود التخدير. والسلفية في أحد وجوهها الكثيرة هي إحدى نتائج هذه الذاكرة المخدرة المريضة.

إن تبجيــل الماضي وتقديسه إلى حد رفعه عن كل معاينة نقدية هو أحد صفات مجتمع مهزوم لا يجد في حاضره ما يقنعه فيرتد للماضي باحثا عن السلوى. والطاغيــة يشجع على هذا التقديس للماضي خاصة وأنه لا يقدم ولا يزمع أن يقدم لشعبه أي حاضر إنساني وبالواقع فالحاضرالعربي حاضر مهزوم على طول الخط وليست هزائمنا تجاه إسرائيل إلا بوصلة عديمة الرحمــة في وضوحها لهزائم داخل مجتمعنــا وأنفسنا قد أُحكم تمويههــا إلى حد أننا لم نعد نشعر بها كهزيمة يومية.

الإنتقائية هو الحد الثاني الهدام للذاكرة.

والإنتقائية جزء من تربيتنا السيئة.

لم أجد مثلاً في كتاب مدرسي واحد للتاريخ العربي ولا حتى محاولة متواضعة للعناية بالذاكرة الوطنيــة للطلبة. كل ما تحتويه هذه الكتب المملة إنتقائي كاذب. وهي في النهاية مسؤولة عن ظواهر غريبة عجيبة في فهم التاريخ أذكر أحدها وأضحك لتجمد الضحكة آنياً على فمي.

م. زميل ليبي منفي هرب 1973 بإعجوبة من سجون القذافي وعاش مشرداً فقيراً إلى أن أراحه السرطان الخبيث قبل سنوات من عناء رحلته. كان هذا الزميل يقدس فلسطين ولا يعرف ولا يريد أن يعرف عن تاريخها إلا النذر اليسير. كان يخشى كل نقاش نقدي عن حاضر المقاومة الفلسطينية. وأنا أعتقد أن التقديس إبن مباشر للذاكرة الإنتقائية.

فاجئني هذا الزميل يوماً بتهمة لم أفهمها إلا بعد تمحيص. كان الديكتاتور الأسباني فرانكو يصارع الموت وصديقي الإسباني كارلوس يدعو له بالموت البطيء فقد كان كارلوس مع عائلته في المنفى لأن ذويه تروتسكيين ساهموا في القتال ضد فرانكو ونزحوا أولا إلى فرنسا ثم إلى المانيا.

وكانت الجالية الإسبانية في مدينة هايدلبرغ حيث درست جالية قوية مضيافة ومثقفة.

“كيف تصادق من إغتصب الأندلس؟” سألني الزميل الليبي.

راعه أنني لا أوافقه لا جملة ولا تفصيلاً في تهمته أن الإسبان سرقوا الأندلس. كاد يقتلني وتوقف عن رد السلام الذي لم أتوقف عنه حيثما قابلته لسنتين ليعود وديعاً مسالماً بعد أن قرأ مقالا لكاتب يحبه لم أعد أذكر إسمه وصل إلى نفس النتيجة التي وصلت أنا أيضاً إليها.

“كتب تاريخنا لا تصلح للحياة” قالها لي بمرارة وحفرت هذه الجملة ذاتها في ذاكرتي مع صورة وجهه النحيف المليء بالمرارة.

لو بقيت تجربتي وحيدة مع الزميل الليبي قبل ثلاثين سنة لنسيتها كما نسيت الكثير وأنا أهدأ ذاكرتي التي بدأت تضعف مع مرور ستين عاماً على صنعها يومياً بأقوال جميلة مثل: التسامح – وهو ما يحتاجه مجتمعنا السوري الديمقراطي القادم حتماً – يحتاج كالحب للمقدرة على النسيان. والحقد عدو الحب إنتقائي. التسامح يتطلب معرفة تامة وأما الحقد فيتطلب الجهل أولاً…. وغير ذلك من الأقوال المفيدة التي أجمعها بعناية للدفاع أكثر فأكثر عن نسياني ليسهل علي ألمه.

هناك تدريبات هامة لإنعاش الذاكرة وأنا أقوم بها أحياناً وأنساها أحياناً أخرى لكني أعمل يومياً وبدأب ضد الإنتقاء بعد ما لاحظت وجهاً آخراً للبؤس يصاب به السوريون في المنفى والمهجركلما تقدم سنهم. غ. صديق سوري كان في شبابه يسارياً راديكالياً يرفض كل الأنظمــة العربية ويتمتع بمصداقية كبيرة جعلته محبوباً جداً لدى الفلسطينيين والظفاريين والأريتريين وأنصار البوليساريو مناضلي الصحراء الغربية. كان غ. يضحي بكل وقته لأنه كان متأكداً أن النصر قريب وهذا ما ظنناه جميعا في مطلع السبعينييات من القرن الماضي.

رحل غ. في مطلع الثمانيات إلى فيينا عاصمة النمسا وعمل هناك بنجاح في إختصاصه ( كومبيوتر) وعاد قبل حوالي السنة إلى ألمانيا وعندما ذهبت لتحيته إكتشفت أن ربع قرن يفصلنا. بدى لي عجوزاً مليئا بالفرح والصخب. وأخبرني أنه كان قد زاربحكم عمله مصر واليمن وتونس والمغرب وليبيا وبيروت وسوريا، أي نعم سوريا وقد تناول طعام العشاء في مطاعم دمشق. قالها بلسان الخبير، وبدت لي لهجته فضفاضة لاتناسب حجمه النحيل. ثم حدثنا وهو الملاحق سابقاً في كل زوايا أرض أبناء يعرب أن التفتيش في مطارات بلادنا صارت متمدنة وأيضاً السلطات في مطار دمشق كانت لطيفة دوما ولا تزال تعشق البرطيل والمبالغة.

أي نعم سوريا الجميلة الخلابة قالها ونظر إلي بشيء من الحزن. ” سمعت أنه لا يزال لديك مشاكل”، قالها بصوت عالم النفس الحنون الذي لا يحب ذكرإسم المرض أمام مريضه. وتذكرت فجأة أنه لم يذكر لي ولا بأي هاتف من قبل – وكنا طوال ربع قرن نتحدث على الأقل مرة شهرياً – أنه ينوي السفر إلى دمشق لكي لا أزعجه بأي طلب.

” تقول مشاكل؟ أنا ليس عندي أية مشاكل إنما السلطة لديها عدائيــة لكل من يواجهها أم أنك نسيت حتى هذه ؟”

لم يجب بل صب كل ما كان في نفسه قبل ربع قرن من غضب وحقد على إسرائيل. هي الدولة ويهود العالم اساس كل المصائب.

والطغاة العرب؟

سأله معي صديق تونسي وأعاد السؤال بحدة أكثر عراقي سمع من غ. نظرية لا أول لها ولا آخر أن إسرائيل هي التي تقتل وتذبح في بغداد.

لا يهمه شأنهم.

أكد لكي لا نسيء فهمه أنه بالتأكيــد لا يحب أي حاكم عربي وأنهم كلهم عملاء لكنهم جميعاً ليسوا المشكلة بل إسرائيل فقط.

أصرينا دون إتفاق مسبق:

لا بل هم النصف الثاني للبؤس إذا كانت إسرائيل النصف الأول.

لم يقتــنع ورشقنا بتهم كثيرة.وإفترقنا.

هذه المرة دون وعد بالعودة.

خاص – صفحات سورية –

الحقوق محفوظة للكاتب ولصفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى