صفحات العالمما يحدث في لبنان

عبور الصحراء

الياس خوري
بعد نهاية الحرب الأهلية، لم يعد من المنطقي ان يرفع اليساريون اللبنانيون شعار اسقاط النظام بالعنف الثوري. فلقد قاد العنف لبنان الى الخراب، وقيام دويلات الطوائف على اطلال الدولة والوطن، وصولا الى السقوط في شباك الهيمنة السورية. والحق ان اليساريين اللبنانيين التقطوا معنى اللحظة، وكان جورج حاوي اول من بدأ سياسة الانفتاح والمصالحات. وقد تركّز الطموح على ضرورة المشاركة في الحياة السياسية، التي صار البرلمان وسيلتها الاساسية. اذ بات واضحا ان العنف او التلويح به لم يعد وسيلة للتغيير، بل صار اداة لإعادة انتاج الأمر الواقع الطائفي والمذهبي والعشائري.
خلال الحقبة السورية حيل بين الشيوعيين وبين البرلمان. وعانى الحزب العقائدي الأكثر عراقة وانغراسا في المجتمع اللبناني من الفيتو السوري. فرأينا الحزب السوري القومي وحزب البعث يتمثلان في البرلمان، محمولين على المحادل الطائفية، بينما بقي الشيوعيون خارج اللعبة. حتى تجربة المثقف والمناضل الديمقرطي حبيب صادق في برلمان 1992، وهو صديق للشيوعيين، لم يستطع النظام الأمني تحملها، ما قاد الى تحويل صادق رمزا وقائدا للمعارضة الديموقراطية التي تخوض انتخابات مبدئية في الجنوب، في مواجهة محدلة التحالف الشيعي المدعومة من سورية.
وفي كل انتخابات، في زمن الهيمنة، كان المرشحون اليساريون واصدقاؤهم، يتعرضون للإسقاط، بفعل المحادل التي كانت ترعاها عنجر.
لكن لماذا بقي اليسار خارج اللعبة البرلمانية بعد خروج الجيش السوري من لبنان؟
انقسم اليسار عشية انتفاضة الاستقلال. ففي حين شكّل ‘المنبر الديمقراطي’، بقيادة حبيب صادق المختبر الأكثر فاعلية للإعداد للانتفاضة، ومن رحم هذه التجربة ولدت ‘حركة اليسار الديمقراطي’، آثر الحزب الشيوعي انتقاد ‘لقاء البريستول’ والتمسك بلغة الممانعة القديمة، والابتعاد عن مناخات المشروع الاستقلالي، الذي تحوّل مدّا جماهيريا جارفا بعد اغتيال رفيق الحريري.
غير ان المفارقة جاءت في انتخابات 2005، ففي حين ترشح الشيوعيون في لوائح هامشية من ضمن تحالف 8 آذار، وابعدوا عن اللوائح القوية في الجنوب والمتن، وبذا لم يفز اي مرشح منهم، وجد حبيب صادق نفسه خارج اللعبة الانتخابية في الجنوب، بسبب التحالف الرباعي، السيئ السمعة، مما اقفل الانتخابات على الثنائية الشيعية المتحالفة مع تيار المستقبل والحزب الاشتراكي. اما ‘اليسار الديمقراطي’ فاضطر الى نقل مرشحه الوحيد من دائرته في الشوف، كي يفوز في طرابلس بأصوات المستقبليين.
تعكس الصورة القاتمة لانتخابات 2005، الواقع الانتخابي الذي اضطر اليسار بجناحيه الى مواجهته.
الصورة التي تقدمها انتخابات 2009 لا تقل قتامة. فبينما بقي الجنوب، وهو موقع تقليدي لليسار، خارج المنافسة، كرر ‘اليسار الديمقراطي’ تجربة 2005، لكن في البقاع الغربي، حيث نجح مرشحه امين وهبي على لائحة 14 آذار، بينما اضطر امين سره الياس عطالله الى عدم الترشح في طرابلس او في الشوف.
لكن الكارثة الحقيقية تعبّر عن نفسها في الأصوات الشحيحة التي نالها مرشحو الحزب الشيوعي. وهي اصوات محزنة، تدعو الى التفكير العميق في هذه الصحراء الانتخابية التي يعبرها اليساريون، من دون أفق او وعد، حتى وان كان هذا الوعد سرابا.
وباستثناء المقال الاخباري الذي نشره ثائر غندور في ‘الاخبار’ في 17 حزيران (يونيو) 2009، مرّت هذه النتائج بصمت يثير اكثر من علامة استفهام. والصمت مفهوم، لأن اي نقاش علني للمسألة، لن يعني سوى ان على القيادة الاعتراف بفشل رؤيتها السياسية، واستنتاج العبر، وصولا الى ضرورة عقد مؤتمر استثنائي بحثا عن افق وقيادة جديدتين.
لم يترشح في الانتخابات سوى خمسة مرشحين شيوعيين، نالوا العدد التالي من الأصوات. سعدالله مزرعاني: مرجعيون- حاصبيا، 3353 صوتا. فاروق دحروج: البقاع الغربي، 1797 صوتا. سمعان اللقيس: الكورة، 553 صوتا. جهاد المعلم: زحلة، 1001 صوت. طارق حرب: بعبدا، 856 صوتا.
اي ان مجموع ما ناله الشيوعيون في الدوائر الخمس هو 7650 صوتا، وهو رقم ادنى بكثير من الأوراق البيضاء، التي وجدت في كل لبنان!
قد نقول ان هذه المقارنة مجحفة، وهذا صحيح جزئيا، فنحن نقارن بين 26 دائرة هي كل لبنان، وبين خمس دوائر خاض فيها الشيوعيون الانتخابات. لكن اذا عرفنا ان الورقة البيضاء كانت من دون حملة انتخابية وتنظيم، تصير المقارنة فضيحة لليسار بأسره، وليس للحزب الشيوعي فقط.
تستطيع القيادة ان تبرر الموقف بخيانة الحلفاء. ولكن من قال ان هؤلاء حلفاء؟ هل يعقل ان يكون حزب الله، الايراني الهوى، حليفا، بعدما ابيد الشيوعيون واليساريون في ايران؟ ومن قال ان التيار العوني الذي تخلى عن خطابه العلماني ليخوض معركته بشعارات طائفية من اجل القبض على التمثيل المسيحي معني بالتحالف مع العلمانيين، ناهيكم عن حركة امل، وحلفاء سورية العنجريين الذين لم ولن يغفر اسيادهم للشيوعيين موقفهم الاستقلالي، ومقاومتهم للاجتياح السوري المدرع للبنان عام 1976؟
لقد سقط الحزب الشيوعي في شعاراتية خاطئة. رفض الارتهان للسياستين السعودية والامريكية لا يعني غض الطرف عن الارتهان للسياستين السورية والايرانية. ورفض المال السياسي السعودي لا يعني السكوت عن المال السياسي الايراني. والدفاع عن المقاومة لا يعني تسخير المقاومة وادخالها في اطار الصراع بين الطوائف على الهيمنة.
هل صحيح ان قيادة الحزب الشيوعي فوجئت برفض ‘الحلفاء’ المفترضين، ادخال شيوعيين في لوائحهم؟ وكيف تكون المفاجأة حين ‘ناضل’ هؤلاء الحلفاء في الدوحة من اجل قانون 1960، الذي يكرّس الطائفية، ويجعلها سدا منيعا في وجه اي قوة تغييرية او علمانية او مدنية
والسؤال، بعد هذه النتائج الهزيلة، هل بقي هناك من مبرر لطرح النسبية كوسيلة لتحديث القانون الانتخابي، بحيث تستطيع القوى العلمانية اختراق السد الطائفي المنيع من اجل الوصول الى البرلمان؟
شهدت الانتخابات النيابية استقطابا طائفيا وسياسيا حادا، ما جعل جميع اللوائح تفوز ‘زي ما هي’، ولم يحصل سوى اختراقين في المتن الشمالي. قد نقول ان حدة الانقسام لم تترك مجالا لأي طرف ثالث. وهذا ليس صحيحاً، بل الصحيح ان استسلام الطرف الثالث للقوتين الطائفيتين المهيمنتين في تجمعي 8 و14 آذار، وزحفه من اجل الحصول على مقعد نيأبى بأي ثمن، وتخليه عن موقف سياسي نقدي وجذري، لمصلحة تحالفه المفترض مع احدى هاتين القوتين، قادت الى ان يفاجأ ببؤس النتائج، التي تعتبر اشبه بالفضيحة في معاقل يسارية تقليدية كالجنوب والكورة والبقاع الغربي.
ماذا يربح الانسان اذا ربح العالم وخسر نفسه؟ هذه الحكمة القديمة تحولت في واقع اليسار اللبناني الى خسارتين، فعندما خسر اليسار نفسه خسر العالم. وفي هذا عبرة لمن يعتبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى