صفحات الناسمحمود عيسى

خليّة آب /مطر الغياب: الجزء الأول

null
محمود عيسى
خريف عام1987حافل بالوداعات بالجملة …يذهبون ولا يعودون …..يُخشى الخروج من البيت لأن اللاعودة هي الاحتمال الأكبر.
أنت الآن في اختبار المواجهة ….الاختطاف في كل مكان .. من الشوارع والجامعات …..والكليات المدنية والعسكرية.. شملت الاعتقالات: الطلاب والموظفين والعمال ومجموعة من الضباط، إنه الكابوس ..العشرات .. ولا حاجة لأية أدلة .. الاعتقالات بالجملة، كأنه الانتقام!! القوائم جاهزة ومفتوحة لتطال كل من يشتبه به أو يعترف أنه أبدى استعداداً ما لتقديم أي خدمة من أي نوع أو التعاطف مع الزنادقة المغامرين!!
تمكن ((الحكيم)) من السفر إلى الاتحاد السوفيتي من أجل إكمال دراسته للاختصاص في الطب الوقائي قبل أن تصل المعلومة لجهات الأمن بأنه على صلة بحزب العمل… وحيداً … وحيداً ..لم يكن أحد في وداعه في المطار… وحيداً أيضاً.. لن يكون أحد في استقباله بعد أقل من عام.
مساء 9/10 من ذلك العام كان لقاء خلية آب /زياد وجمال وأحمد الزعتر/ على مفرق بوقا، ثم انضم إلى اللقاء أحمد الأشقر، كان يختبئ وراء نظارة سميكة تخفي زرقة عينيه… هل عرفتموني؟
ضحكنا….. وسألناه: أتختبئ وراء إصبعك؟
جمال ـ طالب الطب ـ ذهب معي إلى منزلي لأنه لم يعد قادراً على البقاء في البيوت التي يعرفها، تتوارد الأخبار العاجلة… طارت فلانة…. طار فلان….. كل هذا ولم تكن مدينة اللاذقية قد فرغت بعد من وداع ضيوفها وضيوف الدورة العاشرة لألعاب البحر الأبيض المتوسط.
صباح 10/10 السيارات محملةُ بالعناصر المستنفرة.. تجوب أحياء المدينة كلها.. مداهمات متواصلة وتعود محملة بالمعتقلين والمعتقلات….
11/10 نام عندي جمال في الغرفة الصغيرة المطلة على الشرق… وزياد معي في غرفتي المطلة على الشارع الرئيسي، ذهبت صباحاً إلى //حمص // إلى موعد في حي النزهة وذهب زياد ـ طالب الهندسة ـ إلى //جبلة// ومعه مفتاح البيت ولكنه لم يعد!!! ولم يعد باستطاعتنا الاستمرار في المنزل…. خرجت من البيت مع // جمال// إلى صديق في نفس الحارة في ضاحية تشرين، استغرب صديقي الزيارة المسائية، وزاد استغرابه عندما طلبت منه أن يستقبل لديه جمال, يوماً أو بضعة أيام.. تجاهلت نظراته … وذهبت إلى أحد الأصدقاء الآخرين لتأمين إقامة مؤقتة لأحمد الأشقر…. ودون أي تردد ترك الشقة لنا.
نجا أحمد الشقر بأعجوبة من الاعتقال في بيت المنطقة الصناعية, حيث تم اعتقال جميع المقيمين فيه.. وتمت مصادرة الآلة الكاتبة.. شاهد أحمد فردة حذاء أحد الشباب في مدخل البناية, إنه حذاء فلان!! عاد سريعاً ولم ينظر ورائه.. وأسرع في الخروج من المنطقة، وقد أكد له البقال حقيقة اعتقال الجميع!! ولو دخل إلى المنزل لاعتقل لأنهم كانوا يكمنون في البيت.
النزيف الحاد لم يتوقف …. والخسائر فادحة .. خيرة الشباب والصبايا!!
وفي الصباح افترقنا.. واتفقنا على اللقاء على الكورنيش الجنوبي, كان أحمد الأشقر على موعد مع الكوافير من أجل تغيير شكله… في الوقت المحدد جلست أنتظره عند صاحب الكشك الوحيد على الشاطئ الصخري، شرق السفينة المدمرة، أشرب الشاي قبالة المعهد الرياضي، أوقف أحمد سيارة أجرة قبالة الكشك وقطع الشارع متجهاً نحوي ونادى قبل أن يصل: هل عرفتني؟
أخذت أضحك, كان شعره الأشقر الطويل مجعداً, خصلات.. خصلات، وما أن جلس جاءت دورية أمن وقفت قبالتنا وترجل منها ثلاثة أشخاص،  لم يعد أمامنا سوى الهدوء والاستكانة، فالبحر ورائنا وهم أمامنا، بقينا جالسين وجاء أحد العناصر إلى طاولتنا غطى هديرُ الموج المتكسر على الصخور هديرَ قلبينا، اقترب العنصر أكثر وقال : ممكن آخذ كرسي؟
ـ تفضل…… تفضل،  وتنفسنا الصعداء.. هكذا كانت المواجهة الأولى, وجهاً لوجه, في اختبار حرب الأعصاب.. نهضوا بعد أن شربوا قهوتهم، ونهضنا بعدهم، قلت لأحمد الأشقر يبدو أن جمال (الـ نيولوك) قد أفادنا كثيراً.
أصبح عدد الرفاق الموزعين كودائع لدى الأصدقاء كبيراً، وكبيراً جداً، ولم نرغب في تجميعهم سويةً كي لا يعتقلوا جمعاً، كما جرى لدينا في بيت الصناعة، وفي حلب، استأجرنا بيت في حي ((المار تقلا)) استقر فيه جمال, ويزن… و….
ضاقت المدينة التي نحبها بنا, وخاصةً على أحمد الأشقر.. كان القرار بالخروج والابتعاد,  ولضيق الوقت وعلى عجل وقع الاختيار على قريتنا الجبلية الجميلة. الساعة العاشرة ليلاً.. السيارة الصغيرة تقف عند مدخل الجامعة في الزقزقانية..  أحمد الأشقر وزوجته سمر بجانب السائق (أبو شكيب).. صعدت في صندوق السيارة الخلفي.. الطريق شبه فارغ..  عند مدخل بانياس الشمالي قلت لـ (أبو شكيب) امشِ كما أقول لك، صعدنا على الجسر واتجهنا شرقاً، الطريق الضيق ينتشر على جوانبه بعض المنازل المضاءة وكثيرٌ من المداجن، قال لي أبو شكيب: لماذا المداجن كثيرة عندكم؟ قلت له: من أجل التدجين…  ضحك قائلاً: ” أما نحن فقد دُجّنا قبلكم من زمان….
أفاق أهلي صباحاً… لدينا ضيوف… قلت لهم: إنه صديقي أحمد، مريض بالقلب شفاه الله.. بحاجة إلى هواء نقي.
كانت أختي في أختي في الثاني الثانوي والباقي موزعين بين الابتدائي والإعدادي والثانوي, كاد أهلي والأقارب يصدقوا أن الضيف قصدنا طلباً للهواء النقي والراحة وليس هرباً من الاعتقال لولا أنه يدخن طالما كان صاحياً!!
المواجهة مكشوفة.. بين طرفين غير متكافئين, آليات العمل معروفة والتقنيات معروفة أيضاً،  كان “الكمون التنظيمي” تكتيكاً إجبارياً, واللجوء إلى اعتماد العلاقات الخيطية, بحيث يتم رؤية رأس الخيط.. وكل حلقة ترتبط بالحلقة التي تتواصل معها حتى نهاية الخيط.. وأخطرونا بضرورة الاعتماد على تغيير توقيت المواعيد .. لتصبح بين السابعة والثامنة صباحاً.. وكذلك الأمر مساءً.. وإذا كان الوضع عادياً يتم اللقاء دون كلام.
كان الوضع منهكاً جداً.. والأعصاب متوترة.. أصابنا النزيف الصاعق في الأعماق.. غاب منا العشرات.. ووهنت قوانا.. المدن فارغة من أهلها.. وأصاب الحزن الكثير من المنازل وفقد الأطفال أهلهم, وحصل أن غاب الأب والأم دفعة واحدة أو على دفعات في العديد من الأسر. ولم توفر الاعتقالات أحد, حتى  أنها طالت العديد من الحوامل, وحصلت بعض الولادات والإسقاطات في غرف التحقيق أوفي السجن لاحقاً..
استمرت إقامة أحمد وزوجته سمر عندنا أكثر من شهر,   نسجوا خلالها علاقات اجتماعية وإنسانية جميلة, وتم دعوتهم للعشاء والغداء في أكثر منزل.. لكن الوضع مؤقت, وخصوصاً بعد أن لاحت بعض المؤشرات السلبية, وكثرت الأسئلة حول الضيفين الغريبين.. استأجرنا شقة في بانياس على طريق القدموس يتألف الطابق الأرضي من البناء من ثلاث شقق, شقتنا فيها أربع غرف وصالون كبير.. الأثاث  لدينا لا يملأ غرفة. بعض طراحات الاسفنج والأغطية وعدة الطبخ.
أشعنا أننا مدرّسون أمام الجوار،  الجيران في طابقنا كانوا عبارة عن بعض الطلاب في إحدى الغرف الجانبية.. والشقة الأخرى يسكنها زوجان في شهر العسل, ورغم ما يفصل بيننا من جدران, ورغم تركنا للصالون والإقامة في غرفة نوم داخلية, كانت تصل إلينا أصواتهم, وصراخ العروس المسكينة التي تثير الشفقة من جهة و الاستهجان من العريس الغبي الذي يحول ممارسة الحب إلى عقوبة يومية, يسعى الشريك المظلوم لاختصارها..
في تلك الأثناء كان النزول إلى الشارع محسوباً، نقتصد فيه تخفيضاً للاحتكاك وتقليلاً للاحتمالات السيئة, والمصادفات والمفاجآت، خصوصاً بعد أن قبل بعض “المنهارين” في التحقيق الخروج بالسيارات في محاولة من أجهزة الأمن للضغط على الحزب من جهة، ومن أجل حرق المناضلين, وتشويه سمعتهم.. فوقع عبء العمل آنذاك.. على أقلنا معرفة من قبل رفاقه.. ولجأنا إلى أعمال التمويه لمن يخرج من أجل إبعاد الشبهات قدر الإمكان.. نحمل أكياس الخضار بدل الجرائد والكتب.. ونرتدي ثياباً يدل مظهرها على مهن شتى..
المواجهة مكشوفة.. وانكشفت إقامتنا في مدينة بانياس من خلال انكشاف أحد المواعيد مع المركز، حيث تم إلقاء القبض على المراسل القادم من دمشق في كراج طرطوس، عندما صعد أحد عناصر الأمن إلى الميكرو, وأخذ يحدق بوجوه المسافرين، ولما أظهر المراسل قليلاً من الارتباك جرى توقيفه وتفتيشه، ثم اقتياده إلى الفرع, ونزع اللاصق الطبي عن ظهر يده .. وتمكنوا من اكتشاف رسالة مخبأة في علبة الدخان.. هكذا وقع المراسل شعبان في الكراج, وانكشفنا في بانياس.
انضم إلينا هناك مطلوب آخر, “ثائر” طلبه فرع الأمن السياسي على أثر اعتقالات تمت في حلب, كان يعمل في شركة كرنك اللاذقية, تم نقله بسيارة من الجهة التي يعمل لديها بسبب نفوذ مديرها .. وهم في الطريق إلى الفرع في اللاذقية, أوقفوا السيارة من أجل تناول الفطور, فهرب ثائر وانضم إلى قائمة المتخفين!!
**  **  **
يتبع
اقرأ في الجزء الثاني من  “خلية آب/ مطر الغياب”
**أنصفتني أم مازن**
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى