صفحات ثقافية

حول طبعة أعماله الكاملة في القاهرة: أنسي الحاج: إنقاذ الانباء من سوء الفهم!

null
محمود قرني
القاهرة ـ القدس العربي بين المقدمة الأولي لديوانه لن والمقدمة الثانية لديوانه خواتم يقطع الشاعر اللبناني أنسي الحاج رحلة عسيرة وسط صحراء الكلس الغربي، وسط قوادم وأحراش متفلتة من أزمنة تركت رائحتها وذهبت.
فالحاج وأقرانه في الشعرية العربية غرباء الي حين، بل غرباء في كل حين، وعلي مدي ثلاثين عاما أو يزيد، انطلق النبع رائقا ودافقا في مصبه، ثم عاد ـ جريا علي الآفة العربية ـ محتدا ونافرا ومحبطا، عندما استشعر سدرة المنتهي، وكأن مقدمة لن افتتاح باذخ وقشيب لمستقبل بدا أكثر جلاء من كل الحقائق النقيضة، في مقابل اختتام لرحلة بدت عائدة الي رمادها الاول، وكأن ثمة حتمية تكلل الشاعر العربي في طريقه لمصادرة المستقبل مرتين، الأولي مصادرة باسم بيارق الشعر الزاهية والناصعة مدفوعة بقوة الحضور والموهبة في ثقة يعكسها السؤال الافتتاحي لمقدمة لن : هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ ، والمصادرة الثانية باسم البيارق الغاربة التي يتحول معها الوجود إلي طللية تقبع خلف الأكمة بين السحالي والثعابين وبنات آوي، تدلنا علي ذلك التساؤلات المشاعية التي تحفل بها المقدمة الثانية لـ خواتم حول موت الكلمة الذي يأخذ صوراً نافرة وجارحة، لا تقدم حلولا، لكنها ـ في الاغلب ـ تقدم شهادة وفاة لمنظومة من القيم الرفيعة التي سارت في ظلالها كائنات أنسي الحاج الشعرية طيلة عمره الشعري الذي يقارب نصف القرن أو يزيد.
أما ما يضمن لهذه التجربة الفريدة حياة أخري فكثير ويستعصي علي الحصر، رغم تلك الصورة العربية ـ العربية لرواج مؤكد يحن فيه الشاعر للخلود واقتناء الأبدية، وتتضاعف هذه الحياة الممعنة في عمقها لدي أنسي، عند صدور طبعة شعبية من أعماله الكاملة عن هيئة قصور الثقافة في مصر وهو ما يستدعي مزيدا من الاحتفاء.
من هنا يحتفي أبناء وأحفاد انسي الحاج بحضوره في ثلاثة أجزاء هي مجموع أعماله الكاملة في طبعتها الجديدة، حتي وإن مر الحدث علي الحياة الثقافية شبه الرسمية كما يمر طائر غريب علي حقل من الحنطة الجافة.
ورغم ذلك فإن الرغبة في احتفاء المستقبل بأنسي غالبة وحادثة، في تهتهات وشقشقات المبتدئين والراسخين علي السواء، ومن يستعيد مقدمة لن سيتأكد من نجاعة الحدس، ومصداقية التشوف والذي جعل لأنسي مكانا في كل مستقبل، فقد ترك لنا فرجة تقود من يريد الي حرية وانعتاق أبديين حين قال: ليس في الشعر ما هو نهائي، وما دام صنيع الشاعر خاضعا أبدا لتجربة الشاعر الداخلية فمن المستحيل الاعتقاد ان شروطا ما أو قوانين ما أو حتي أسسا شكلية ما هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال .
في أول ايلول (سبتمبر) 1954 كتب سعيد عقل مقدمة الأعمال الشعرية لـ توفيق صايغ ، لكن الاكثر لفتا للانتباه ليس ذلك التأسيس المفارق الذي وضع بذرته الشعرية ذلك القاموس اللاهوتي لدي صايغ، بل تلك اللغة الاكثر حداثة لـ عقل في صياغة ما يشبه البيان المبكر لقصيدة النثر العربية ذات القاموس المنفجع بالفيكتورية، والمتأثر ـ في عمومه بالأدب الانكليزي دون أن يفقد دقته وقدرته علي اغتصاب الأسطورة.
يقول سعيد عقل عن ثلاثين قصيدة لتوفيق صايغ:
إن كتابه لا ليقرأ، انه ليغدو خلجات فيك ودما دافقا ونارا، انه مزيد من سبق ولاهوت، من كشف وخطيئة ، ثم يقرن ذلك بوصفه: تتشوف الحياة أبدا إلي الحلم ، وهنا يبدو سعيد عقل ـ المتابع لحركات التمرد الفني في أوروبا ـ واضعا أول ملمح للكتابة الآلية، التي ضج بها القاموس السريالي في أدبياتنا فيما بعد، وإن ظلت مقدمته في الإجمال تفتقر الي القدرة علي التنميط والتقعيد، وهو الجانب المشرق في مقدمة لن التي تأخذ أهميتها التاريخية من كونها التدشين الأول ـ الأكثر علمية ومنهجية ـ في الاقتراب من كيان ذي ملامح تقترب من التحديد، حتي وإن جاوزتها أدبيات قصيدة النثر في صورتها اللاحقة.
كان ذلك الاجتراء المبكر علي صنمية وقدسية النص العربي الكلاسيكي قيمة مضافة، لا سيما أن أنسي لم يكن ـ فحسب ـ محارب النص القادم علي ظهور الجمال والنوق، بل كان يحارب ذلك النص الذي تسربل بحلم امتلك مشروعيته من المد القومي الجارف، ومن مصداقية شعراء كبارا أنجزوا في إطاره شعرية تمتلك درجة عالية النثر مفجعة، في مقابل التعريب المحموم لمفردات الحداثة في النص التفعيلي.
كان سؤال أنسي الواثق هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ إجابة تتضمن الكثير من السخرية من ذلك الذي يربط النص الشعري في قدم موسيقية عرجاء لا تفتأ تعيد إلي الهجير ما أخذه بحنان الظل، وهو سؤال في جوهره يكشف عن تلك الحماية المزيفة التي ظل الشعر يبحث عنها، وكأنه عورة تبحث دائما عن طرائق مألوفة للستر والتخفي، في المقابل كان النثر يريد أن يخرج عاريا، يريد أن يتحدث عن مقومات اللغة التي هي مقومات المخيلة المهدورة عربيا، وقد ظل بورخيس يسأل نفسه طيلة رحلة كتابة عمرها سبعون عاما: ما الذي يعنيه بالنسبة لي ان أكون كاتبا؟ ويجيب دائما: يعني ذلك ببساطة أن أكون مخلصا لمخيلتي ، وربما كان ما فعله أنسي وما أراده للمخيلة أكثر قسوة مما أراده بورخيس، فأنسي يجترح بلا مباضع وبلا آباء، ومن هنا كان رجما بالغيب ربطه بين قصيدة النثر الحر، والإنسان الحر، والاختراع المتواصل للغة في ظل التشوش العام للحواس الذي كان تعبيرا ووعيا أثيرا لدي آرثور رامبو .
ويبدو الانحراف المتحقق في مفهوم الحرية لدي أنسي محتاجا إلي الكثير من الترف العربي في وقت كانت الحكومة فيه تسعي، ليس لمحاربة الأمراض المستوطنة فحسب، ولكن لمحاربة الاحتفاء، كانت الحرية هنا تتجاوز شكل القول الي مضامين التفكير، فالحرية خارج السجون بالمعني الفيزيقي ولكنها عندنا داخل سجون أكثر قداسة من حصون الباستيل. ان الحرية لدي أنسي الحاج بقدر ما هي نمط للتفكير، تبدو جذرا إنسانيا يمنح الحق في الجنون، في الانفصال والاتصال والتوحد والسفور في وجه عتمة القبيلة وتبجح مقدساتها، لذلك كان ذلك الوصف المبكر للشاعر مفارقا وتتأتي فرادته من وصفه بالاعتباطية عندما يقول أنسي إن قصيدة النثر، عمل شاعر ملعون في جسده ووجدانه، الملعون يضيق بعالم نقي، انه لا يضطجع علي إرث الماضي، انه غاز، وحاجته الي الحرية تفوق حاجة أي كائن إلي الحرية، انه يستبيح كل المحرمات ليتحرر .
علي جانب آخر لا يمكننا إغفال القداسة التي حازتها المقدمة شبه المعصومة لديوان لن ، فقد تحولت بدورها الي برزخ أخير تلتقي عنده نوافل الشعر قبل فرائضه، وقد كانت تلك المواصفات التي قدمها أنسي وأقرانه الي براهين ومشاعل للأبناء والأحفاد، ولا زال البعض من مجايلينا ينظر الي المواصفات الثلاث الرئيسية لقصيدة النثر الايجاز، التوهج، والمجانية باعتبارها اليوتوبيا التي علينا أن نحصل علي صكوكها قبل أن ندلف الي ذلك الفردوس ـ الجحيم المسمي بقصيدة النثر.
وقد أدي الوعي الأفقي ـ في مصر علي الأقل ـ بهذه الخصائص الي الكثير من اللغط والإساءة للشعر، ربما بسبب ذلك الولاء الفج لتلك المواصفات في الوقت الذي كنا فيه أحوج للإساءة الي تلك الخصائص.
طالما كنا نصدق أن كل المواصفات في الشعر ليست نهائية.
ورغم أن أنسي الحاج نبه مبكرا الي ان تلك الخصائص قد تم تجاوزها فيما بعد وفيما قبل وربما لدي شعراء سوزان برنار نفسها، إلا أن ذلك لم يعصم عامة الشعراء من الخطل، ولم يعصم الخصائص نفسها من الوصول الي درجة عمياء من المعصومية.
من هذا المنطلق، الذي يقع في الكثير من الالتباس، تأتي اهمية استعادة أنسي الحاج مصريا.
نظرا لذلك الوعي الناقص الذي أحاط بالكثير من تلك الخصائص، ومن أبرز مشكلات قصيدة النثر في الشعرية العربية الجديدة أنها ـ وكما عبرت سوزان برنار ـ نص بلا مقابل، وفي جانب من هذا التعريف تتحصل فكرة المجانية، حيث يطرأ تحول جذري علي مفهوم الوظيفة الشعرية، فقد تحولت صورة الواقع من اعتباره رديفا للنص الوظيفي الي صورة تتحقق الشعرية فيها بأدوات لا يستطيع الواقع امتلاكها، وهنا يبدو المعني الاستعادي للغة خاليا بدوره من كونها خالقة أولي لوظيفة اجتماعية، الي خالقة اولي للشعرية، فالواقع ليس هو النص، واللغة ليست هي الواقع، وما يحتويه النص بين جنباته انما هو لغة مفارقة في كل حالاتها لذلك التعري الفذ والمؤلم في حياتنا وكان مالارميه يعترض علي انتقادات ديجا لعمله المزدحم بالصور والأفكار، ويقول إن المؤلم في الشعر هو لغته أي جسده، لا الصور ولا الأفكار . ومن هنا يبدو ذلك التحول الي المجانبة التي أدركها أنسي مبكرا وعيا مضافا لذلك الاكتشاف المذهل للغته المتفردة التي استمسكت بمستويات محسوبة ودقيقة من تاريخيتها واسطوريتها وطبقاتها التركيبية، وهو الأمر الذي احتفظ لها بحياة تضمن لها التجدد، عبر ذلك الوعي المفرد بزمنية النثر المحض، الذي تحول الي وشائج تتحلل من ذلك الرباط غير المقدس مع فكرة الراهنية.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى