الأزمة المالية العالمية

الركود الكبير»… انتكاسة في الإرهاب وليس انتكاسة الإرهاب

null
حازم الأمين
عندما وصف عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي جان بودريار حدث 11 ايلول (سبتمبر) بأنه نوع من «انتحار السيستم» [النظام بمعناه الأعرض] قصد بذلك أن مفجري برجي التجارة العالمي هم ابناء شرعيون للنظام العالمي الجديد، وهو اذ لم يخف دهشته التي لامست الإعجاب بالكائنات «الشيطانية»، اعتبر ان أسامة بن لادن واحد من أبالسة العولمة ومن صورها.
اليوم تلوح الأزمة المالية العالمية بوصفها «ازمة في العولمة» او «ازمة العولمة»، والإرهاب بنسخته الإسلامية لم ينفصل صعوده عن صعود موازٍ على المستوى المالي والإعلامي والمعلوماتي، وكثيرون ممن رصدوا مؤشرات الإنهيار وتداعياته لم يتركوا مجالاً واحداً الا فحصوا إحتمالات انعكاس التداعي الإقتصادي والمالي عليه. فماذا عن الإرهاب بصفته واحداً من وجوه الفقاعة المالية والمعلوماتية؟
ما لا شك فيه ان الإرهاب تغذى من تفشي الفقاعة المالية، ومعظم القنوات التي ضبط فيها تمويل جماعاته سواء في باكستان او العراق او الخليج واليمن انما اعتمدت في تغذيتها له على تعاظم القدرات المالية لـ»محطات التغذية»، بفعل الأسهم وارتفاع اسعار النفط وازدهار الأسواق سواء في اوروبا او في المشرق وصولاً الى وسط آسيا. وطبعاً ترافق ذلك مع إتساع القدرة على توظيف التكنولوجيا في خدمة الإرهاب على نحو مواز لتعاظم قدرتها على مكافحته.
«محطات التغذية» التقليدية للإرهاب، بحسب راصديها في السنوات العشر الأخيرة، تمثلت في جمعيات خيرية ورجال اعمال خليجيين، وفي أموال وتبرعات الجاليات المسلمة في اوروبا، وبعض الأعمال التجارية التي تولاها رجال أعمال أشارت تقارير عديدة الى انهم يقومون بتشغيل رؤوس اموالٍ في اسواق مالية كدبي وماليزيا واحياناً في سويسرا، تُستخدم عائداتها وريوعها في تمويل جماعات ارهابية متطرفة، لا سيما في العراق وباكستان.
ففي باكستان يبدو واضحاً لأي مراقب ذلك التداخل الكبير بين وظائف التمويل الإغاثي وتمويل الجماعات الإسلامية المسلحة، اذ ان زيارة واحدة لمخيمات لاجئين أفغان بالقرب من مدينة بيشاور، او لمناطق سكن الكشميريين النازحين من اقليمهم المتنازع عليه بين الهند وباكستان، تشعرك بأن ثمة ما يُمرّر في ظل هذه الأعمال الإغاثية. فلمعظم الجمعيات هناك اجنحة إغاثية واخرى قتالية، واذا كان الفصل إسمياً بين الأجنحة (لشكر طيبة وجماعة الدعوة نموذجاً) فإن احداً لا يمكنه تحديد تمايز في التمويل. جماعة الدعوة (الجناح الإغاثي) تتلقى دعماً علنياً من الجاليات المسلمة الباكستانية في اوروبا، اما لشكر طيبة (الجناح القتالي) فتقول ان تمويلها من «محسنين» محليين. وفي حين يكشف تواضع الإغاثة تسرباً في الأموال، يجزم مراقبون في باكستان بأن الجزء الأكبر من الأموال يذهب الى المقاتلين في كشمير في حالة «لشكر طيبة»، والى طالبان في حالة الإغاثة الأفغانية.
قنوات تحويل الأموال تعرضت لتبدلات كثيرة كما تثبت الوقائع، اذ ان مراقبة الأرصدة والحسابات من قبل اجهزة تعقب الإرهاب في اميركا واوروبا افضت الى ابتكار تقنيات تحويل بديلة. فالإرهاب صار يحتاج الى عملية «غسل اموال» تمكّنه من الإلتفاف على عمليات المراقبة والرصد.
أجهزة امنية عديدة في المنطقة كشفت عمليات نقل اموال في حقائب فردية، واعتبر ذلك وسيلة التفاف. المخابرات الأردنية ضبطت في سنة واحدة نحو عشر حقائب مليئة بأموال متبرعين لـ»القاعدة» في العراق مصدرها الخليج. «الكاش» صار وسيلة الإلتفاف في حقبة الإرهاب الأخيرة، ولكنه «كاش» ناجم عن ازدهار في الأسواق المالية، وتكاثره، ولو في حقائب، ليس إلا صورة عن الوفرة التي نجمت عن ذلك الإزدهار.
البديهي ان نقول ان «الركود الكبير» سيصيب الإرهاب ايضاً، او هو اصابه فعلاً. الفوائض المالية التي غذّى داعمو الإرهاب (من رجال اعمال ومؤسسات) ذاك الإرهاب منها انكمشت وانخفضت، والجاليات المسلمة في اوروبا واميركا ما عاد بإمكانها إقتطاع أجزاء من مداخيلها، واسواق المال التي احتضنت أسهم تشغيل رؤوس اموال الجماعات الإرهابية أصيبت بدورها وأصابت حملة الأسهم، وهذا كله سينعكس على اوضاع شبكات الإرهاب سواء «الوطني» المحلي او الدولي العابر للحدود. كذلك اصيبت حاضنات مساعدة للإرهاب ومعممة لثقافته، من وسائل إعلام واتصال او شبكات مستفيدين غير مباشرين.
كل هذا صحيح ما دمنا في منطقة التوقع والرصد، لكن ثمة وقائع أخرى توازن هذا الإفتراض: ففي مقابل تقلص موازنة الإرهاب ثمة تقلص في موازنات مكافحته ناجم بدوره عن «الركود الكبير». ثم ان العقم الضخم في «عقيدة مكافحة الإرهاب» والمتمثل في قصرها المواجهة على المستوى الأمني والعسكري، وإهمالها المعطيات الثقافية والإجتماعية، يضاعف مخاطر تقلص موازنة المكافحة، اذ ان تلك الموازنة كانت السبيل الوحيد للتصدي للمهمة، وانخفاضها يعتبر عاملاً حاسماً في تراجعها.
ثمة مؤشرات سبقت «الركود الكبير» تشي بتحول بدأ يصيب مفهوم الإرهاب. فتقدم الإرهاب المحلي على الإرهاب المعولم بدأ يظهر في اكثر من مكان. طالبان باكستان تولت المهمة عن «القاعدة»، وارتفاع نسبة العراقيين في «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» وانبعاث جماعة الشباب في الصومال… هذا التحول قد يُلائم مستجدات الإنكماش في موازنة الإرهاب وقد يخفّض الأعباء، لا سيما اذا عرفنا الطبيعة المنخفضة لأكلاف الأعمال الإرهابية، وهذه من مؤشرات قوتها التي لطالما أشار إليها الخبراء. فقد أشار مثلاً مسؤول اميركي في العراق الى ان تمويل «القاعدة» هناك صار يعتمد بشكل رئيسي، بعد ضبط الحدود ومصادر التمويل الخارجية، على عمليات سلب وإتجار محلي بالنفط وديّات عمليات الخطف، وكان هذا كافياً لـ»تشغيل» شبكات واسعة من الناشطين.
ما زال الوقت مبكراً لرصد اثر «الركود الكبير» على الإرهاب في العالم، لكن الأكيد ان هذا الأخير، وبصفته وجهاً من الوجوه الكثيرة للعولمة اولاً، وللطفرة المالية ثانياً، سيصيبه التحول، هذا اذا تفادينا إطلاق حكم مسبق بانتكاسته.
الأميركيون بدورهم نقلوا أنظارهم الى مستوى آخر، اذ انهم اليوم في صدد توقع اثر الركود على ما يوازي الإرهاب في قاموس تصنيفاتهم، أي حزب الله وحماس وأنظمة مثل ايران والسودان، وصولاً الى فنزويلا، وقد رأى خبراء ان طفرة السبعينات انتجت منظمة التحرير الفلسطينية، وطفرة العقد المنصرم دفعت حزب الله وحماس الى مقدمة المشهد، متوقّعين تقهقراً في موقعي كل من التنظيمين… لكنهم اهملوا حقيقة دور نتائج الإنتخابات الإسرائيلية في دفعهما الى الواجهة مجدداً على رغم «الركود الكبير
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى