المثنى الشيخ عطية

الحلقة رقم 3 من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
الشاطئ
ها أنا مرة أخرى أمامكِ. بيننا البحر والحقد والضياع ولكنَّ سماء المتوسط فوقي تمدني بقوة غريبة تعيدني إلى حالات التحامي الأولى بنهر طفولتي تحت سمائك… أرفع كفَّيَ مثل جسر أصل به السماء والماء، وأحس بهدوء التسامح.
أنظر في الموجات التي تترامى على شاطئ ليماسول تحت قدمي، أنحني لأطويها بيدي الواثقتين مثل سجادة أدحرجها أمامي لأصل هذا الشاطئ الغريب بشاطئك.
أنحني لألمس ترابك. أقف لأنظر في عينيكِ مباشرة وأسألك بعيني كيف هو حالك. أزيل جدران حقدي، وأسألك دون ضغينة بين الأصدقاء هذه المرة كيف هو حالك. أطمئنك أنني لن أعيد لومي لك. أقول لك حسناً لن أسألك كيف تسمحين لهم بقتله على ترابك!؟ كيف استطعت حضن جثته في ترابك!؟. وأقول لك احتضني جثتي أنا أيضاً في ترابك…
ها أنا مرة أخرى أمامك، عارياً من أية تحضيرات للقاء، خالياً من المشاعر، مسلماً قياد هذا البركان في داخلي لكفك الممدودة، دونما ذكرى، دونما تفسير ودونما تفكير…
دعينا نرمي ذكريات ما حدث جانباً، دعينا نطوي ما حمّلتني من مآسي مثل منديل نضعه ببساطة وهدوء على الطاولة، دعينا نسمي هذه اللحظة فقط لقاء رجل بوطن…
ها أنا قريب منكِ أكثر، وأحس بالحياد تجاه مشاعر حقدي، أحس بتكسر أمواج الشاعر الهادرة على صخرة مائي، وانسيابها ماء يروي أراض وحقولاً، أو يحكي حكاية طفل وحيد وجد حضناً دافئاً وإنْ في الحلم بعد تشرّدٍ طويلٍ وحنين…

*******

حطت الطائرة سالمةً مثلما أخبرت السائحة الفنلندية في مطار لارنكا، ولوحت لي الفتاة بيدها وهي تجول بعينيها باحثة في أرجاء المطار عن صديقها، واستقريت أنا بين يدي نصير، وسبحان من لا يتبدل.. نصير هو نفسه بطوله الذي يقارب عرضه. وجه بوذا بعينيه الجميلتين وشحمتي أذنيه الكبيرتين، مع ابتسامته الهادئة السموحة الساحرة لكن باختلافات بسيطة تناولت الشعر الذي خف وقارب الصلع، والعينين اللتين فقدتا مع كبر السن فتنتهما وإن حافظتا على الجمال.
تعانقنا وقدمني إلى محمد، نائب رئيسة التحرير، ولفت انتباهي تهذيبه وهدوؤه بالقدر الذي أثار إعجابي ذكاء عينيه.
ـ بداية تبشر بالخير إن كان هذا مديري.. قلت لنصير بعد أن أوصلنا محمد إلى البيت، وبعد أن قدمت لمحمد زجاجة فودكا البيزون هدية بافتراضي أنها الهدية المناسبة لشاعر أو ليبي، ورد على مجاملتي ضاحكاً: إن أجمل البدايات هي التي تفتتح بالفودكا.
طمأنني نصير ونحن ندخل بيته ضاحكاً بأن محمد وزوجته عائشة التي ستكون مديرتي هما في الأصل شعراء، ويمكنني التعامل معهما على هذا الأساس، وأن محمد سيناسبني طالما تم التعارف بيننا عن طريق الفودكا.
استقبلتنا أحلام زوجة نصير بلطفها الطفولي المهذب، وعرفتني على أولادهما الثلاثة.
فوجئت بحجم ابنها الأكبر سِرَاج، الذي حاز اسم جده لكونه الذكر الأول في العائلة. قلت مندهشاً: أنت شاب!، وبادرت أمه التي كانت تتوقع استغرابي بالقول: إنه فقط في الحادية عشرة، لكنه بلغ طول أبيه وأمه معاً، وقلت له ممازحاً أنه سيصبح بعد يومين بطولنا نحن الثلاثة.
جلست وأنا أتأمل الأب والابن، إنهما متشابهان حتى في الملامح الطفولية التي لم يتخلَّ عنها وجه نصير، لكن سِرَاج يختلف بشكل جسده الممشوق عن شكل جسد أبيه الذي فاجأني بتكرشه على هذه الصورة.
قلت لنصير أنه لم يكن كذلك في حلب، وقال ضاحكاً إنه لاشيء يبقى على حاله، واستطرد ضاحكاً: إلا أنت، فيما عدا هذه الشيبات، هل هي شيبات؟ وضحكت، قلت أن الباريسيات يفضلن الرجل الناضج فحاولت خداعهن بصبغ شعري.
ـ وهل صدّقن ذلك؟.. قالت أحلام ضاحكة.
ـ في الحقيقة لا. واحدة منهن اكتشفت ذلك وسألتني عن السبب، ولما كنت صريحاً وغبياً كعادتي قلته لها، فقالت أن تفكيري على هذه الصورة لا يعبّر عن نضج.
ضحكت أحلام من سخريتي، استمرت..
ـ لكنك مازلت تحتفظ به!؟.
ـ في الحقيقة أنا أخالفها الرأي وأريد الإثبات من خلال احتفاظي به أنني ناضج.
ضحكنا سوياً وفاجأني سِرَاج بسؤاله..
ـ يعني عمو.. شعرك مصبوغ، ما لون شعرك؟ وقبل أن أجيبه سألني..
ـ عمو إنت تعرف بابا من زمان؟ وقبل أن أجيبه سألني..
ـ عمو أنت جئت من فرنسا، يعني كنت في فرنسا؟
ضحكت وقلت له: توقف. أولاً على أي سؤال تريد أن أجيبك أولاً؟.. وضحكت أمه ناهرة إياه: سِرَاج. ووجهت كلامها إليّ مبررة:
ـ هذا حالنا معه.. إنه يجننا بأسئلته. لا تأخذها بجد. إضافة إلى أنه لا يلتزم بمواعيد نومه. هذا الكلام سِرَاج أمام عمو هاني. يجب أن تذهب إلى السرير. مضت ساعتان على موعد نومك.
ضحك نصير ولم يعلق فشكت إلي ضاحكة..
ـ هكذا هو وابنه. يفلت له الحبل، وفي لحظة غضب يقلب الدنيا على رأسه.
أمر نصير ابنه بالذهاب إلى النوم، وقام الولد.
قدمت هداياي لهما وقدم لي نصير كأس ويسكي، بينما ذهبت أحلام إلى المطبخ.
انتقل بي الحديث مع نصير إلى أحوال الرفاق غير المشجعة في باريس. وقلت له في النهاية:
ـ إنها سيئة. تصور أنهم لم يطوّروا أي مشروع تجاري بالنقود التي لديهم لتشغيل الرفاق المنفيين كما فعل غيرهم.
ـ أعلم هذا. قال نصير. هم هكذا. طرحت عليهم أكثر من مرة أن أشغّل لهم بعض الأموال هنا، ولم يردّوا علي. كيف هي علاقتك بأبو أحمد.
ـ جيدة. قلت، وقال نصير: نعم سمعت أنه يثق بك. اسمع هاني. لدي مشروع يعود عليهم بالنفع، بسيط ودورته شهران فقط. إنها صفقة ورق. أنت تعلم. نحن الناشرون لا نعتمد فقط على طبع الكتب. غطيت أنا الجزء الأكبر من الصفقة، وأحتاج إلى خمسين ألف دولار. لو وافق أبو أحمد على إرسالها لي فسوف تعود عليهم بمثلها بعد شهرين. ما رأيك؟.
أحرجني سؤاله، وتذكرت تحذير محمود لي من الدخول في مشاريع نصير المالية. قلت له أنه ليست لدي خبرة في هذه الأمور، وطلبت منه أن يطرح بنفسه المشروع على أبو أحمد.
أخذ نصير رشفة كبيرة من كأسه، وقال:
ـ أنت تعلم مدى خوفهم، وخبرت بنفسك ترددهم، طرحت عليهم في السابق عدة مشاريع ولم يردوا لي خبراً حتى. قلت ربما ساعدتني أنت في إقناع أبو أحمد بسهولة وأمان الصفقة. إنه يثق برأيك.
أحرجت أكثر. ماذا علي أن أقول. شغلت نفسي قليلاً بكأسي وأنقذني سِرَاج بدخوله وسؤاله المفاجئ لي.
ـ عمو. فرنسا فيها بحر مثل قبرص؟
قام نصير مهدداً الولد، وطالباً منه للمرة الأخيرة أن يذهب إلى النوم وإلا فإنه سيعاقب، وعاد ضاحكاً.
ـ هذه حالنا معه. من يصدق أن هذا الحجم لولد في الحادية عشرة فقط. وضحكت أنا أيضاً. قلت له إنني بدأت أصدق، وضحك معي ضحكة قصيرة منتظراً جوابي.
حافظت على جو المرح. قلت لنصير بعد أن قررت بلحظة عدم التورط..
ـ لماذا لا تطلب مني ديوان شعر تطبعه، بدلاً من إشغالي بالتجارة!؟.
ـ سأطبع لك ما تريد، لكن دعني أموّل نفسي بهذه الصفقة.. قال وخشيت أن يساء فهمي فقلت بسرعة..
ـ لا. لا. أنت تعلم أنني تركت الشعر. قصدت أنني لا أفهم  بالصفقات.
ـ لن تحتاج إلى الدخول بهذا. فقط أريدك أن تقنعه؟
ـ بماذا!؟ كيف أقنعه بأمر أنا نفسي لا أفهمه.
ـ إنه لا يحتاج إلى فهم. لكن انتظر، لقد فهمتك. سأعطيك التفاصيل غداً في المكتب، ونرسل بعدها فاكس لأبو أحمد. قال وسكت، ودخلت أحلام قائلة أن العشاء جاهز.
ـ ما هذا العزّ. كان علي أن لا أتعشى في الطائرة لو أعلمتموني بذلك. كبة بلدية. متبل. فتوّش. دجاج بالفرن. دجاج بالرز والبازلاء. ماذا تظنوني؟ قلت مبدياً إعجابي وشكري على الوليمة.
ـ أنت نحيف زيادة، ويبدو أن أحلام بدأت تفكر بذلك منذ الآن. قال نصير وضحكت.
ـ لا أعرف إن كنت بحاجة إلى شفقتكن عليّ، زوجة محمود في باريس، وأنت هنا الآن. لست خروفاً لديكن، وابتسمت أحلام..
ـ صحتك جيدة لكن يلزمك القليل.
ـ ليس القليل الذي لدى نصير، قلت وأجابت أحلام ضاحكة..
ـ لا عليك من نصير. إنه حالة خاصة، ولا تظن أنه أكلي، إنها قلة الحركة.
ـ لكنه يفكر ببرنامج ركض، في الطريق قال لي ذلك وقلت أنني سأشترك فيه معه للتشجيع.
ـ عليك أن تبدأ به من الآن وإلا فإنه سيتبخر مثل غيره من البرامج.. قالت أحلام ضاحكة. وضحك نصير لمداعبات زوجته له.
ـ حملك عليّ. غداً صباحاً على الأقل.. قال نصير وثبت أنا الموعد قلت أنني سأكون جاهزاً في التاسعة. ما رأيك، وضحكت أحلام مصححة لنا الموعد.
ـ في التاسعة ستكونان في المكتب. الموعد هو السابعة. ووعدنا بالالتزام.
دخل سِرَاج أمام مفاجأتي وقال أنه جائع. وضحك نصير، وغضبت أمه..
ـ لقد تعشى قبل ساعة انظر كيف أصبح من كثرة الأكل. أنت تفسده.. وجهت كلامها لنصير.
ـ يلاّ. هذا اليوم استثنائي بوجود عمو هاني. دعيه.. لكنه سيذهب بعد العشاء مباشرة إلى النوم، ثم أنه سيمسح بقايا الأكل من الثلاجة في جميع الأحوال ونحن نيام، فليمسحها الآن.. قال نصير ضاحكاً ووافق سِرَاج وجلس لمشاركتنا المائدة ورضيت أحلام ضاحكة.

مع القهوة بعد العشاء وعلى الأرائك الأنيقة الحافلة بالذوق في الصالة، طرح نصير الموضوع المحبب إلى قلبه، الحرب. سألني..
ـ ما رأي الرفاق في باريس، هل ستشعل أمريكا الحرب؟.. قال وجلست أحلام منصتة. تنفست بعمق ” الحرب “!؟ ليس لي من مفر.
ـ إنهم شبه واثقين من عدم قدرة أمريكا على المجازفة، ويراهنون على موقف أوروبا، وفرنسا بشكل خاص.. قلت بإيجاز.
ـ أعتقد أن هذا صحيح. إذا أضفنا البرنامج الكيميائي والنووي الذي كان ينفّذ في العراق. يبدو أن الأمريكيين يخشون خسارة لن يتحملوا نتائجها الآن. ما رأيك أنت؟ قال نصير.
ـ أنا أتمنى أن تكون هذه هي الحقيقة ، لأنني أشعر أن هناك لعبة تدار على صعيد الإعلام، وهذه اللعبة تخيفني.. الأوروبيون مثلهم مثل الأمريكان ينقرون على وترين، أولاً تشبيه العراق بألمانيا النازية التي يقودها ديكتاتور خطر أحمق إلى الهلاك مع تضخيم حجم القوة التي يمتلكها، وثانياً يذكرون شعوبهم بصلاح الدين الذي يكرهونه وكأنها تهيئة لحرب صليبية، وليتك ترى الإعلانات في مترو باريس.
ـ هل تعني أنهم يهيئون إعلامياً للحرب؟ ألا يكون ذلك تذكيراً بمخاطر الحرب من أجل تفادي خوضها؟.. قال نصير.
ـ لا أعرف، ولا أستطيع أن أستنتج شيئاً من التحليل، لكن حدسي يقول أنهم يهيئون للحرب وواقع الحشود الهائلة التي يضعونها في الخليج يخيفني أكثر.
ـ أنا أرى العكس، وأتفق مع تحليل الشباب لأنه في النهاية هناك خطوط حمراء لا تستطيع أميركا تجاوزها وأعني الاتحاد السوفييتي الذي لمّح أنه لن يسمح بوجود هذه القوة على ما يعتبره حدوده الجنوبية.
ـ ليت هذا هو الواقع، غورباتشوف يفكر بالبيت الأوروبي كحل لمشاكل الاتحاد السوفييتي، وسيلقي بكل العالم الثالث في فم أميركا.
_ لا تتحدث بهذا التشاؤم. إن ما نتحدث عنه هو حرب عالمية ليس سهلاً خوضها من أي كان.
ـ وما نتحدث عنه مصالح جوهرية وخطوط مقدسة وضعتها الإمبريالية الغربية لكي لا تمس من أي كان.. قلت ذلك بحدة متورطاً في إيضاح ضيقي، ودخل سِرَاج الذي كان يستمع مختبئاً في الممر..
ـ يعني عمو. أميركا لن تحاربنا. صمتُّ مذهولاً لكن مرتاحاً لهذا الإنقاذ الذي قد يغلق نقاش الحرب، وقام نصير غاضباً ومهدداً إياه بالعقاب.
ـ لقد تجاوزت حدودك. وعاد ضاحكاً بعد أن هرب سِرَاج وأغلق على نفسه الباب.

*******

على باب بيت نصير الجميل المستقل الذي يدعونه في قبرص ” هاوس” لتمييزه عن الشقة في الأبنية استقبلت أول صباح لي في ليماسول. صباح جميل مشبع بالسحر والبرودة التي تميز سواحل المتوسط.
استنشقت الهواء بعمق وقمت ببعض التمارين السويدية في انتظار نصير الذي خرج مبدياً إعجابه بثيابي الرياضية، وانحنى لربط حذائه الرياضي. هيا بنا الآن. قال. وبدأنا نهرول في اتجاه الشارع الرئيسي،  الذي أخذنا إلى اليمين باتجاه البحر.
ـ عشر دقائق من الهرولة، ونصل إلى الشاطئ. قال نصير منحدراً ومسرعاً أكثر.
ـ سنصله بعد دقيقتين على هذا الركض، أرجو أن تبطئ، قلت، ولم يرد علي مضاعفاً سرعته وسابقاً إياي. ماذا يريد أن يثبت!.. قلت في نفسي وحافظت على سرعتي.
وصلت إلى الشاطئ. بعد أن غاب عني نصير. وهاهو ذا منحن يلهث، ويتنفس بصعوبة.
وقفت ضاحكاً: تريد أن تختصر البرنامج في يوم واحد. قلت ولم يستطع أن يجيبني. طلبت منه أن يتمدد على العشب، ويفتح ذراعيه بهدوء ليتنفس. تركته يرتاح واتجهت صوب البحر. صوبك.
هاهو ذا أنت أخيراً.. قلت وأنا أنظر إليك عبر المدى المفتوح، كما أنظر إليك الآن. بنظرة الحزن نفسها. بموجة الحنين التي تصادم موجك كي تمتزج فيه. بذاكرتي التي تنداح هكذا  مدى شاسعاً من رمل.
ـ كم يبعد البلد عنا؟.. سألت نصير دون أن أزيح نظراتي عنك.
ـ ثمانون ميلاً فقط.. قال وهو يتنهد. وأردف.. هل اشتقت إلى حلب؟.
حلب؟ ثمانون ميلاً فقط من الأزرق اللامتناهي. الأزرق الذي أطويه أمامي كما سجادة لأصل إلى ترابك. لأصل وأخلع نعليّ بهدوء على خط ترابك. هل قال نصير حلب؟!..

قالت نورا ضاحكة، وهي تجلس بيني وبين زوجها في المطعم الأنيق الذي دعتنا فيه لقضاء حفلة رأس السنة في حلب.. انظر ماذا أحضرت لك. لا تقل لي إنها ليست جميلة. إن فتنتها ستقتل عبد الواحد الذي بدأ بالحركة. انظر إليه، سوف يدعوها للرقص. عليك أن تقطع عليه الطريق. أنا أريدها لك. قالت نورا مشيرة بعينيها إلى أخت صديقتها التي دعتها معها للحفلة من أجلي.
ـ قلتِ لي أن اسمها….
ـ فريال. كم مرة أعيد عليك الاسم.
ـ فريال! هل أنت جادة لربطي بفتاة تحمل هذا الاسم. إنه يذكرني بالرياضيات.. قلت مازحاً وضحكت نورا.
ـ سأقوم للرقص مع يوسف، فلا تضيع الفرصة. قم بدعوتها فقط. إنها تنتظر.. قالت نورا وهي تقوم ممسكة بيد زوجها. وقمت لأجلس في المقعد الشاغر بجانب رفيقي مرزوق الذي أحسست من تجرعه للويسكي بهذه الدفعات أنه يعاني من خذلان أخت محسن له.. لعنتُ البورجوازية وتصرفاتها.. لقد شجّعه هذا البورجوازي المهووس باليسار على التفكير بأخته، وشجعته الفتاة بالحضور إلى مطعم الكلّية للقائه. لكنّ ابنة البورجوازية خضعت كلياً لمنع أبيها وأمها البات لها من التفكير فيه، ولم تعد ترد نهائياً على مكالماته بينما تجاهل محسن حال رفيقه الذي قتله الهيام.
ـ هل تعلم أين تكون جميلة الآن!؟.. سألته وأنا أحتسي جرعة من كأسي.
ـ مع خطيبها بالتأكيد. لماذا تريد أن تعرف؟
ـ لألعن “مرض اليسارية الطفولي” لدى هذا البورجوازي التافه محسن؟.. قلت وضحك مرزوق الذي تذكّر إطلاقي هذا اللقب على محسن عندما عمل لاستصدار قرار فرعية الجامعة ببعدي عن جميلة، وثورة محسن الذي انتفض من مقعده لضربي على سخريتي.
ـ ما زلت متأثراً من وقوفنا ضدك؟ قال مرزوق محاولاً الاعتذار.
ـ لا. لكن أنت تعلم.. جراحات الحب تبقى حتى لو اندملت. أفكّر أن أحرق هذه الجراحات نهائياً بالاستمرار في الحياة، والحب.. قلت وأنا أشير بعينيّ إلى فريال التي بدأت تستجيب لدعابات عبد الواحد. وانفجر مرزوق بالضحك عالياً.
ـ أنت لا تريد إعادة الكرّة مع عبد الواحد. وأنا لن أراهنك. ابتعد عن هذا هاني.. قال مرزوق وهو لايزال يضحك.
ـ كنت سأخذلك، لكن يبدو أن الأوان فات.. قلت ضاحكاً وأنا أنظر إلى عبد الواحد الذي مرّ علي بنظرة سريعة وهو يقود الفتاة للرقص.

انضم إلينا معاذ وسحر حين شعرا بوحدتنا. نظرتُ إليهما بكامل السعادة. لقد وجد معاذ فتاته أخيراً. يالهذا الزوج الذي يشع بالنقاء.
ـ أراد هاني طلب الفتاة للرقص، قال مرزوق ضاحكاً وانفجر معاذ بالضحك. لخبط شعري بيده، قائلاً لي أنني لن أكفّ عن شقاواتي. واستفسرت سحر عمّا يجري.
ـ إنهما يظنان أنني سأنافس عبد الواحد على فتاته، لكنني أقرّ بعجزي. انظري إليهما. قلت مشيراً إلى الزوج الذي يتمايل بانسجام أمامنا.
ـ هل تريد الرقص. قالت سحر مواسية بلطفها إياي.
ـ لا. أنت سترقصين مع هذا الذي لم يصّدق أنه وجدك، وأنا سأقدم استعراضاً لمرزوق لن يستطيع نسيانه. قلت وأنا أقوم لطلب يد أخت فريال التي كانت تبادلني اختلاس النظر، للرقص. وبدأ مرزوق بالضحك من تصرفي بسعادة.
وضعت يدي على خصر الفتاة الرخص الذي دفعني إلى الضغط قليلاً عليه وتطويقها مع اقتراب أنفاسي من عنقها. أبعدت شعرها الأسود المسترسل بظاهر يدي وأنا ألامس  عنقها، وأقرب جسدي من جسدها.
ـ أنا متزوجة.. قالت هامسة وهي تستجيب بلطف لحركاتي.
ـ وأنا غير متزوج. قلت مداعباً وأنا أقرب شفتي من عنقها.
ـ لهذا سنتصرف بلطف، قالت محافظة على وضعها وهي تتمايل بلطف مع إيقاع جسدي.
ـ نعم. وسنكمل لطفنا برقصك مع مرزوق.. قلت متآمراً معها وأنا أنظر إلى مرزوق الذي استجاب لإشارتي بدعوته. وطلب مني أن أسلّمه الفتاة اللطيفة التي شاركتنا تعاستنا بفيض نادر من الحنان.
تأملت رفيقي معاذ سعيداً بفيض الحنان الذي تغمره به رفيقته. أحسست بسعادة غامرة لسعادته. أي نقاء يشع من هذا التلاحم . أي نقاء يشع من هذا الحب. أي نقاء يشع من هذه الألوهة. غمرتني سعادة رفيقي، وغرقت في حضن شاسع من الأمومة رأيت فيه وجه أمي ووجه شجرة المشمش إياها وهي تقترب مني، تمسك بيدي وتأخذني لأرقص معها بهدوء وحنان قال لي فيه حنانها.. لن يغمرك غيري بما تحتاج من حنان.

ـ كم يبعد البلد عنا؟.. أعدت السؤال على نصير، ولم أسمع جواباً. نظرت إليه. كان نائماً باستسلام مثل طفل بين أيدي شمس المتوسط. شمسك الحانية مثل أم.
يا إلهي.. كم أحسد نصير على هذه الطمأنينة. ليتني أستطيع الهجوع هكذا بين أحضان شمسك. ليتني أستطيع الإحساس هكذا وأنا ممدد بحضن ترابك. ليتني أستطيع استعادة طمأنينة الولد الذي كنته. الولد الذي وقف مرة أمام الفرات مواجهاً هديره الصاخب من على الجسر ليتحد فيه، ولينقسم في اتحاده إلى ولدين شقيين ينبض في وجه أحدهما أبداً نبع طفولة يجري ماء صافياً لا يتوقف رنين ضحكاته. الولد الذي انفلت عن جدوله وجرى خلف فراشة عابثة دون أن يسأل عن الطلقة المخبأة لصدره بين أشواك السور. الولد الذي سقط أمام جدوله مضرجاً بالدم. دم قال عنه أنه ماء الورد، لكنه ماء الورد الذي انتزع قلبه، ووضع مكانه حجراً وأفقده نعمة البكاء.. يا إلهي ليتني فقط أستطيع استعادة طمأنينة الولد الذي كنته، ليتني أستطيع إبعاد صورة وجه الطفل الذي كان معاذ عن ذاكرتي وأبكي.

*******

أفكّ لفة الجرائد من على التمثال فوق المكتب. أرمي كبكوبة الأوراق في السلة على يساري تحت ساعده، وأنظر إلى سكرتيرة المكتب روزالين. إنها لم ترني. هذا جيد. أقوم من مقعدي. أقف على باب مكتبي وكأنني ضيف سأدخله. أين أضع التمثال. أتملاه من بعيد. هذا هو ديك الصباح. ديك شهرزاد التي ستسكت عن الكلام المباح وتضعني أمام تحدي طلاقة القول أو الخرس أمام قضبان ما يتاح، في مجلتي الجديدة…
أنقّل بصري في الأرجاء والزوايا، ليس هناك أفضل من ساعد المكتب على يساري بجانب التلفون. أنظر إلى روزالين التي أحس أنها تراقبني دون أن تشعرني بذلك. سوف تظن أنني مجنون. لا بأس. أعود إلى مكتبي وأضع ديكي في المكان الذي حددته له. هذا جيد. يدخل سكرتير التحرير حسان ويضع أمامي مسودة المواد..
ـ هذا بريد القراء.. يقول بإيجاز وعجلة.
ـ شكراً.. أقول له. تفضل بالجلوس.
ـ  لدي عمل. وقد حان موعد قدوم الرئيسة..  يقول.
ـ هل يعجبك وضع الديك هنا. أسأله قبل أن يمضي وألاحظ ضيقه بالسؤال. يبدو أنني أخطأت، ماذا أفعل لغبائي. لقد كان مكتبه. أشعر بالندم على سوء تصرفي. وأحاول تعويض ذلك بدعوته مرة أخرى للجلوس.
ـ  إنه جيد.. يقول قاطعاً محاولتي ويمضي.
كيف أستطيع تجاوز ذلك. أنظر إلى روزالين، برج المراقبة في المجلة. إنها تبدو لطيفة وطيبة لكنني لم أحب انفتاح مكتبها على مكتبي بهذا الزجاج. يدخل ساعي البريد إلى مكتبها ويمازحها. الجميع يشعرون بالراحة معها ويمازحونها. توقّع له الأوراق وتبدأ بتقليب الرسائل القادمة. أعود إلى بريد القراء منكباً على تحرير المادة ومستغرقاً في التصحيحات. تدخل روزالين إلى مكتبي، ويلفحني عطرها المميز.
ـ رسالة من باريس.. تقول وتناولني الرسالة. إنها من محمود. هل أستطيع مناداتك روزا. أقول بكامل انشراحي وسعادتي، وتضحك موافقة. أفتح الرسالة: “هييي أيها الرجل. حلمك علينا. مكتب جميل ونافذة على البحر!! رحم الله أيام الشارل ميشيل وناتاشا والمونوبريه في باريس”. أضحك متخيلاً وجه محمود الجميل الساخر وهو يستغرب وقوفي مع جارتي الجميلة ناتاشا بعد يومين فقط من إقامتي في البيت. “أرجو أن لا يفجع سعادتك العنب الحامض”. أضحك تاركاً نفسي على سجيتها دون أن أسأل عن نظرات روزا التي تراقبني وتبتسم لسعادتي. “العنب الحامض” هذا ما تراه إذن من مستقبلي في قبرص يا محمود! لن تكف سخريتك عن قتلي وإسعادي بهذا القتل. كم أحس بحاجتي إلى مشاطرتك السعادة التي أنا فيها. ماذا تفعل في هذه اللحظة. أنظر إلى روزا. إنها وديعة. وديعة وطيبة لا تشعرك بوجودها رغم إحساسك أنها تراقب كل شيء في المجلة. أتابع القراءة. “سألتني عنك فنانة تشكيلية قادمة من كندا تدعى ماريان، وقلت لها أنك في قبرص. أردت أن أعطيها عنوانك، لكنها ترددت في أخذه واستغربت هذا التصرف. كيف تشرح لي هذا التصرف منها”. أقرأ وتدمع عيناي. تعود صورة ماريان إلى ذاكرتي حية وأخاذة وهي ترفع كنزتها لتريني بطنها، أرى بطنها الحليبي الضامر يقترب مني ويتسع. أرى نجمة سرّتها تتسع وتضمني لأغرق فيها. أغرق في كوني الشاسع. أغرق لأبتعد قليلاً عن كوني وأرى ماريان  حية وكاملة ويأخذ بطنها شكل بطن نسائها الحاملات. أرى ماريان كاملة بطفلها المكور في بطنها. أرى وجهها الهادئ الساكن بنشوة الرضا بعد الحب وتدمع عيناي. أدير وجهي كي لاتحس بي روزا.. أتشاغل بترتيب وضع ديكي، وأحس بروزا تراقبني. أحس بقلقها الذي لا تريد إظهاره لي. ترفع سماعة التلفون وتنظر إلي. تضع السماعة وتتجه إلى مكتب الإخراج. تغيب قليلاً وتعود لتدخل إلى مكتبي. اجتماع خاص لمناقشة غلاف العدد في غرفة الإخراج بعد ربع ساعة بالضبط.. تقول وهي تنظر إلى ساعتها متشاغلة عن النظر إلي لكن فضولها يغلبها وتنظر في عيني. أنظر بحيرة اللوز اللطيفة القلقة في عينيها وأهز رأسي دون أن تفارق عيني عينيها. كم تشبه عيون ماريان. أبتسم لها فتبتسم وهي تعطيني ظهرها.

*******

تطفئ يد حسان النور. الظلام يسود غرفة الإخراج. أختلس نظرة إلى شبح عائشة المنتصب بجانب محمد ويثير طولها الشبحي بين عماد المستغرق في وضع السلايدات بآلة الرشق وزوجها الساهم النظر في الشاشة على الحائط إعجابي. أحس بها جانب محمد وكأنها عشتار التي تقود ابنها تموز داخل أنفاق العالم السفلي للخروج إلى إشراقة الحياة.. يا لهذه المرأة الهائلة الجمال. أفكر بكلمة هائلة التي تليق بطولها. تتحرك لتأخذ مكانها وسطنا، وأحس بها كاهنة أسطورية تقود مجموعة الرجال الخونة لجنسهم الذكوري وهم يشحذون الأسلحة لخوض معركة الأنوثة، وأشعر بالرضا لهذه الخيانة. أحس أنها تنظر إلي خلل الظلام وتستمتع بمراقبتي لها. يرتفع صوت عماد.. سأبدأ العرض.
ـ طيب.. تجيبه عائشة. وتبدأ الصور بالانسفاح على وجه الشاشة، مضيئة وجوهنا وراشقة عليها طابع الوجوم.
على خلفية حائط رمادي كابٍٍ قبعت عليه صورة الرئيس المصري حسني مبارك تقف امرأة مذعورة، تخفي ذعرها بوضع يدها على فمها لإطلاق زغرودة فرح، وبجانبها يقف رجل يسدد سبابته في حركة تهديد إلى طفلة في السادسة اجتاح وجهها الذعر وهي مقيدة بين يدي رجل ثان فتح ساقيها على منتهاهما لتبرز زهرتها أمام الرجل الأول… الرجل الأول في صورة أخرى يمسك مشرطاً موجهاً إلى زهرة الفتاة التي ضربتها صاعقة من ذعر… الرجل نفسه في صورة ثالثة بين فتاة في الثانية عشرة وأمها وهو يحاول تعرية ساقي الفتاة التي رفعت سبابة التلميذة أمام الأستاذ طلباً للرحمة خشية العقاب، والرجل الثاني منشغل بفتاة أخرى محاصرة بينه وبين امرأتين ترتديان الأسود لجرها مثل خروف إلى المذبح. الأم الأولى في صورة رابعة تحمل طفلتها المكفنة بالأبيض والمغمى عليها من هول إعصار الختان الذي اجتاح جسدها وروحها… الرجل الثاني يقف في صورة خامسة وهو يحمل بين أصابعه الموجهة إلى الكاميرا قطعة لحم صغيرة على منديل أبيض اجتثها من زهرة الفتاة…
يقشعر جسدي من الذعر. أحس بوجوم الجميع أمام الشاشة البيضاء التي بقيت بيضاء لفترة أمام صمتنا.
ـ إنه مسلخ بشري.. أقول.
ـ ما العنوان الذي اخترته له؟.. تسألني عائشة وهي تخفي ما أصابها من ذعر.
ـ “وإذا المختونة سئلت/ إعادة إنتاج الوأد”.. أقول وتصمت عائشة مقلّبة في رأسها العنوان.
ـ هل يشكل أية حساسية بمقابلته مع الآية الكريمة “وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت”.
ـ لا أعتقد، خاصة وأن الموضوع يثبت أن الختان هو أحد تمظهرات الوأد.
ـ حسناً دعونا نعيد الصور الآن مع التوقف لاختيار صورة الغلاف. العنوان أعجبني، وسنناقش الموضوعات المساندة في مكتبي بعد الاختيار.. تقول ويبدأ عماد بتحريك الآلة لتنسفح صور المسلخ مرة ثانية أمامنا على الشاشة.
ـ توقف يا عماد.. تقول عائشة. كبّر صورة الرجل. حسناً دعنا نكبّر صورة الفتاة. ما رأيكم.. تقول.
ـ إنها الأنسب.. أرد عليها ويبدأ وجه الفتاة المذبوح من الذعر بالاقتراب منا.
ـ توقف. ما رأيك يا عماد.. تقول عائشة.
ـ دعيني أصغّرها قليلاً.. يقول وينحسر وجه الفتاة ليظهر جزء من وجه الجلاد مع سبابة يده الناهرة للفتاة.
ـ هذه هي. توقف. ما رأيك هاني. ما رأيك يا محمد.. تقول عائشة.
ـ بالضبط.. أقول.
ـ اتفقنا.. تقول عائشة، ويلمع النور.

*******

ـ ماذا لديك من موضوعات مساندة للغلاف؟.. تسألني عائشة وهي تنظر إلى محمد كي يتابع الحديث.
ـ هناك موضوع حول قانون الأحوال الشخصية في المغرب، يحلل ويضع إصبعه على مواطن الظلم المقنوَن والمشرّع له على المرأة. وهناك موضوع جريء مترجم حول جذور خوف الرجل من المرأة، ويعرض فكرة جريئة حول الشك البيولوجي في أن عضو الرجل ما هو إلا بظر متضخم منتصب، لإثبات أن الأنثى هي الأصل. وهناك موضوع عن الحرب الأولى بين الرجل والمرأة وكيف دمّرت الذكورية عالم الأنوثة ورموز الأم الكبرى ووظفت الرموز التي لم تستطع تدميرها لصالح الإيديولوجيا الذكورية. وهناك موضوع أعتقد أننا لن نستطيع نشره حول آثار الديانات الأمومية في الديانة الإسلامية…
ـ إنه موضوع جيد. لم لا نستطيع نشره؟.. تسألني عائشة مهتمة بالموضوع. وتعود صورة ماريان هادئة وسادرة في انتشائها، مختلطة بوجه نورا وموشاة برموزها إلى ذاكرتي.
ـ المشكلة في هذا الموضوع أنه يفتقد إلى الإثباتات والمراجع، رغم كونه يحلل ويخالف بجرأة نادرة قضية تم الاتفاق حولها من قبل المؤرخين هي صورة إله الإسلام، وينفذ إلى رأي يخالف الآراء المعتادة القائلة أن إله الإسلام مجرّد وغير خاضع للتشخيص، “ليس كمثله شيء” إلى رأي عجيب بأن إله النبي محمد هو في الجوهر صورة الوحدة المبدعة للذكر والأنثى إن لم يكن الأنثى نفسها.. أقول وتضحك عائشة.
ـ وكيف توصل كاتبه إلى هذا الرأي.. تسألني عائشة.
ـ إضافة إلى تعايش النبي محمد مع المسيحية الأولى التي يعتقد أنها أمومية كما يقول، ومحاولات النبي منح المرأة مساواة كاملة مع الرجل لولا معارضة صحابته الذكور حوله، فإن النبي محمد ترك النص مفتوحاً لزمن آخر يمنح المرأة الإنصاف، مع قبوله لذريعة من حوله والقائلة بأن تثبيت الدعوة ومشروع بناء الدولة الإسلامية لا يمكن أن  يتم مع فرض النبي للمساواة على بشر تعودوا اعتبار الأنثى سلعةً توّرث مع المتاع.. ومن تتبعه لرموز الإلهة الأنثى في الديانة الإسلامية، ومنها كما يذكر اعتماد النبي التقويم القمري القائم على دورة الأنثى الشهرية، وعلى تقديس نور القمر حيث  الإلهة الأمومية هي سيدة  القمر، وطلبه من المسلمين أخذ نصف دينهم من امرأة هي عائشة “الحميراء”، إضافة إلى قوله صراحة في النص القرآني “وليس الذكر كالأنثى” كتفضيل منه للأنثى.. يخلص الكاتب إلى أن صورة الإله في الوعي الباطن للنبي محمد هي أنثى، ويدعم رأيه أيضاً بالقول أن طلب النبي من المرأة التي كانت تمارس الختان أن تخفض أي تترفق بالمختونة يصب في باب أسلوبه بمناصرة النسوية عن طريق فتح النص عسى أن يأتي الزمن الذي يزول فيه خوف الذكور من عضو الأنثى فيكفّون عن اجتثاث صواعقه وتعود فيه لعضو الأنثى قداسته،  ويورد رأياً غريباً يقول فيه إنه لا يستغرب أن تكون عبادة الفرج لدى بعض الفرق الباطنية في الإسلام هي تعبير عن عودة هذا التقديس.. أقول وتنفجر عائشة بالضحك…
ـ إنها آراء غريبة. هل هي مسندة بمراجع!؟
ـ لا، وأعتقد أننا لن نستطيع نشر كلام حساس كهذا ولا تسنده المراجع؟
ـ أوافقك هاني فنحن لن نعرف أين سيعلقوننا إذا نشرنا هذا الكلام. هل أنت مع رأينا بعدم نشره يامحمد.. تقول عائشة موجهة كلامها إلى زوجها الذي يضحك وهي لا تزال تضحك.

*******

أدخل مكتبي. أحيي ديك شهرزادي سعيداً. أطبطب على عرفه الأحمر. أضع الأزهار التي قطفتها بطريقي في المزهرية. أجلس وأنظر إلى روزا التي تراقبني ضاحكة وسعيدة. يالهناءة هذا الصباح. أبدأ بمراجعة المواد أمامي. ألاحظ خروج حسان بصحبة المدير الفني عماد من مكتب محمد. أنظر إلى روزا. إنها تنظر إلي بقلق. أبتسم لها وتردّ على ابتسامتي بعذوبة. أحمل مسودة المواد وأدخل مكتب عماد وحسان. أسلّم بانشراح غير أني أفاجأ بارتباكهما من دخولي.
ـ اذكر القط.. أقول مازحاً، ويضحكان بإحراج أحسّ فيه أنهما كانا فعلاً يتحدثان عني. يبدو أن عليّ أن لا أبقى. حسناً. أعطي الأوراق لحسان. إنها جاهزة للطباعة. أقول بلطف وأخرج.
ألاحظ حركة محمد غير الطبيعية وهو يدخل ويخرج بانشغال من مكتب عائشة. علي أن أراه لمناقشة افتتاحية العدد. متى يفرغ من انشغاله. أدخل مكتبي وأحس أنني ملاحق مرة أخرى بنظرات روزا. ثمة أمرٌ يحدث في هذه المجلة ولا أستطيع اكتشافه ويعكّر هدوئي!. لماذا لا تتصف السعادة بالكمال!؟. أقلّب صفحات العدد السابق من شهرزاد بدون اهتمام، وأرى روزا تتجه إلى مكتب عائشة وتخرج منه إلى مكتب عماد وحسان قبل أن تدخل بعد ذلك مكتبي.
ـ اجتماع مع رئيسة التحرير.. تقول وأنظر إليها. أنظر هذه المرة في عينيها مباشرة كي أرى ما تخفيه. إنهما وادعتان جميلتان وتنسياني السبب الذي نظرت إليهما من أجله.
ـ كن حذراً، وحافظ على هدوئك.. تقول وتخرج. لماذا عليّ أن أكون حذراً. ولماذا تحذرني روزا؟. إن هذه الفتاة تخيفني. أدخل غرفة عائشة. الجلسة مرتبة. عماد وحسان يجلسان في طرف، ومحمد في الطرف الآخر، وثمة كرسي بينهما مخصص لي أمام مكتب عائشة… هذا هو الاجتماع الثاني لي في المجلة بوجود عماد وحسان. أتوجس شراً  لا أستطيع تحديد مصدره. ألاحظ أوراق بريد القراء أمام عائشة، ويزداد توجسي حدة غير أني أحافظ على هدوئي.
ـ  لا أحد ينكر التحسن الذي طرأ على المجلة مؤخراً، لكنه لم يصل للدرجة المرجوة على جميع الأصعدة.. تقول عائشة بأسلوب رجل أعمال لا يريد إسعاد موظفيه بذكر نجاح الإنجاز خشية من أن يكبروا عليه بهذا، وتستطرد.. لا أريد مناقشة إلا ما يتعلق بجانب التصحيح في المجلة رغم أن هناك ملاحظات قدمها لي أحدهم حول الأسلوب. هناك شكوى من عماد على هانيبال تتعلق أولاً بإدارته للعمل حيث يقول عماد أن هانيبال متكبر ولا يسمع من حسان أي رأي حول مواضيع العمل، وثانياً…
أنظر إلى وجه حسان الذي استحال إلى لون الشمع. أحاول أن أضغط على أعصابي كي لا تنفجر. لقد صعقتني المفاجأة.. وتستمر عائشة.. هناك قائمة بأخطاء نحوية مرّت على هاني في التصحيح… أنظر إلى وجه حسان الذي اصفر من كشف عائشة للأوراق أمامي، ويتوقف عقلي عن التفكير. الجميع أمامي هلام ولا صوت. أضغط على نفسي كي أعود، ويعيدني صوت عماد بصاعقة أخرى.
ـ الصفّيفة يشكون أيضاً من تعبهم بصف بريد القراء ويقولون أنه غير مصحح تقريباً… أتوقف عن التنفس. هذا هو الموضوع إذاً. حبل مشنقة أعده لي عماد بمساعدة حسان، وهاهو يضع فيه عنقي.
أستعيد أنفاسي وتتحفز كل خلاياي للمقاومة. أنظر إلى عائشة بهدوء   وصمت.
ـ هذا ما فهمته من محمد الذي نقل إليّ شكوى عماد، تقول عائشة محرجة مني، وتبتسم..
ـ هل تسمحين لي برؤية القائمة؟.. أقول ضاحكاً.
أنظر إلى القائمة وإلى حسان، ثم إلى عماد. إن حسان نفسه شكا لي منذ أيام من سيطرة عماد، وتعهدت له بمعالجة الأمر. نعم، سأفي بعهدي لك يا حسان، وسأعالج الوضع معك يا عماد، وبجانبك هذا الحليف الذي يكره سيطرتك.
تضغط عائشة على زر الجرس، وتدخل مدبّرة المطبخ نينا. ماذا تشربون تقول عائشة محاولة تلطيف الجو الذي تسمم.
ـ قهوة. نعم قهوة. أقول وأنا أحاول استعادة هدوئي.
أعيد القائمة ضاحكاً إلى عائشة بعد أن رصدت ماهية أخطائي واطمأن قلبي أنها لا شيء تقريباً. ألاحظ ضيق خصمي من ضحكتي. لن تتمكن من إتمام عملية القتل بسهولة يا عماد بل لن تتمكن على الإطلاق. هاهو ذا الطفل في داخلي يجمع أوراقه بسرعة، ويخرج شيطاناً قادراً على الإيذاء.
ـ أشكر مدام عائشة.. أقول.. على تنبيهي بهذا الكشف عن كيفية جريان الأمور في المجلة لكوني جديداً عليها، كما أشكرها على شفافية التعامل المطلوبة في مجلة من نوعية شهرزاد. في البداية أنا أعتذر من حسّان عن شعوره بأنني متكبر على تقبل اقتراحاته حول موضوعات المجلة والأسلوب. لقد اقترح حسان علي فعلاً تغيير بعض الأمور التي هي من صلب مهماتي، وكان هذا حديثاً بين صديقين، ولم تسجل كاقتراحات للمجلة، وقدّم لي موضوعاً يعتقد هو أنني أهملته، لكنني في الحقيقة أرجأت نشره بعلم رئيسة التحرير إلى عدد آخر. أقول هذا وأنا أنظر إلى عائشة وأشعر بامتنانها على عدم إحراجها أمام حسان من رفضها لنشر موضوعه الذي حاولت أنا نشره.. وأكمل.. أعتقد أنه كان على صديقي حسان رفع مقترحاته كتابة كي تناقش كمقترحات إذا كان حريصاً عليها وأعتقد أنه كذلك، بدلاً من الحديث فيها مع عماد، لكن على أية حال ومهما كان التفكير بهذه المقترحات، ومع إيماني بأحقية أي عضو في المجلة بتقديمها  فقد كان قبولها أو رفضها يعنيني أنا فقط بالتشاور مع رئيسة التحرير لأنها تتعلق بمهامي أنا كمدير تحرير تنفيذي، فأنا المسؤول عنها ومن سيسأل عن النجاح والفشل في النهاية، ومع ذلك وآسف إن لم يعلم حسان بذلك فقد قمت بعرضها على رئيسة التحرير احتراماً مني لصدورها عن سكرتير التحرير.. أقول وأنا أنظر إلى حسان الذي بدأ ينهار لهذه المعلومات، وأكمل.. إن سوء التفاهم يمكن أن يحدث في أي مجلة، لكن يمكننا تجاوز ذلك بتقديم مقترحاتنا خطياً، وعقد اجتماع لمناقشتها.. وبالنسبة لحساسية صديقي حسان، فأنا أعتذر عن مسّها إذا كنت قد فعلت، لكوني جديداً في المجلة ونحن لا نزال نتعرف على بعضنا.
ـ حسّان يحسّ أنك تسلبه مهماته في العمل، وأنك تريد القيام بكل شيء علماً بأنك تخطئ في مجال هو مجاله، وأعني تصحيح الأخطاء.. يقول عماد بأسلوب اتهامي محاولاً إعادة الأمر إلى ما يريد وخلخلة تماسكي.
ـ القائمة.. أقول ضاحكاً. إن حسان لم ينبّهني إلى أي خطأ نحوي مرّ علي، وكان عليه تنبيهي مباشرة قبل إعداد العدد للطباعة، من أجل توفير الوقت وجهدك في الإعادة علماً بأنني أصحح جميع الأخطاء التي تمرّ عليه هو أمامه مباشرة دون تسجيلها له، ثم إن أخطائي لا تتجاوز ثلاثة أخطاء مكررة وهي تعتبر بحكم الأخطاء الشائعة أمام عدد كامل مؤلف من مائة صفحة كان يحفل قبل أن أستلمه بالمئات… وبالنسبة لسلبي مهمات حسان، أنا لا أعرف فعلاً كيف أسلبه مهماته، ولماذا !؟ أنا أرجو من حسان أن يتحدث بنفسه عن هذا. أقول رامياً الكرة في ملعب حسان الذي مازال يشعر بالإحراج.
ـ أريد أن أقول أن هانيبال لم يترك لي المجال كي أحدثه بأخطائه، وأنتم تلاحظون أنه شديد الثقة بنفسه للدرجة التي لا يسمع بها من الآخرين. لقد استلم مهمة الإشراف على التصحيح والتي كانت منوطة بي دون أن يترك لي رأياً بذلك، علماً بأنني أستطيع القيام بذلك على أكمل وجه ودون السماح لأي خطأ نحوي بالمرور.. يقول حسان، ويبادر عماد بتثبيت هذا كرأي.
ـ إنه أمر معقول أن يستلم حسان مهمة الإشراف على التصحيح كي لا يكون هناك أي حساسية، وكي يتفرغ هانيبال لمهماته كمدير تحرير تنفيذي.
تذهلني حبكة عماد. هذا خصم خطر تستطيع احترامه. لكن ماذا فعلت له لكي يكون خصمي على هذه الصورة!؟ ولماذا يريد تجريدي من مهماتي!؟. لقد أخذت جزءاً من مهماته بإشرافي أيضاً على الأمور الفنية في المجلة لكنني لم أسئ إليه سوى بزيادة تدقيقي.
تنظر إلي عائشة منتظرة رأيي بهذا الاقتراح. وأشعر أنه فخ منصوب ومليء بما لا يخفى من رماح.
ـ ليس عندي أي اعتراض على استلام حسان لمهمة التصحيح بدلاً من إشغال مدير التحرير بها، وهي أصلاً ليست من مهام مدير التحرير، ففي جميع المجلات مدقق لغوي أو مصحح تجاوزناه هنا بما نملك من قدرات لغوية، لكن قضية الإشراف تخلق كثيراً من الإشكاليات، فهي اختصاص مدير التحرير ورئيسة التحرير.  وأرى أن الحل العملي مادمنا جميعاً نريد مصلحة المجلة هو أن يستلم حسان وكلّي ثقة بأنه أهل لذلك مسؤولية التصحيح، تحت إشراف مدير التحرير الذي يكون مسؤولاً بدوره أمام رئيسة التحرير، ولا أعتقد أن حسان يعارض ذلك مادامت الغاية في النهاية أن لا تخرج المجلة بأي خطأ.
ـ لكنها مهمة واحدة تتعلق بالتصحيح، وحسان سوف يحس بالمسؤولية أكثر إذا استلم الإشراف.. يقول عماد معيداً الكرة إلى ملعبي.
ـ وما الذي يضير إذا زاد التدقيق بالأخطاء تحت إشراف مدير التحرير التنفيذي الذي تقع عليه مسؤولية الإشراف على جميع مواد العدد. أقول وتهز عائشة رأسها بالموافقة على رأيي، ويسقط في يد عماد. لقد تم الأمر. يجيب حسان أنه موافق، ويتنفس داخلي الصعداء. إنها معركة فعلاً. أحس بانتصاري لكن مع غصة خزي عالقة في حلقي. أحس أنني علقت في معركة وسخة حشرت فيها غصباً عني. يا إلهي ما الذي تضعنا فيه!؟ كم بت أكره هذا المنفى الذي يضع في يدي سيفاً يقتل بدلاً من زهرة تحيي!! يا إلهي.. كيف أستطيع أن أكون نفسي، كيف أقطع حبال جرّي إلى حلبة هذا الصراع الذي أكرهه!؟ كيف أستطيع أن أكتب الجمال الخالص دون هذا الصراع، وأن أكون الشاعر الذي يمثل نقاء الإنسان، كيف لي أن أكون نفسي!؟…

*******

ـ العمى، يقدم قائمة بأخطائك، إنه لم يدع لك فرصة تثبيت نفسك في المجلة. تقول أحلام منفعلة ومتأثرة على حالي. حسّان يفعل هذا. ماذا جرى للدنيا!؟.
ألتزم صمتي. ينظر إلي نصير دون أن يتخذ موقفاً..
ـ ليس لدى حسان أي حق في أن يضع يده بيد عماد لكي ينال منك عماد وهو المتضرر أكثر. لقد جرّه اللئيم إلى هذا الموقف.. لكنه ليس من قدم القائمة يقول نصير وينرفزني تحليله.
ـ انظر يا نصير. لقد أخطأ صديقك حسان، وسواء جره عماد أم لم يجره فقد حاول تدمير عملي دون وازع من ضمير. لقد قدمته لي على أنه شاب يساري نظيف، وأنا لا أستطيع أن أنسى سخريته من  لا جدوى ذهاب بعض أصدقائه من “الشغيلة” إلى القتال ضد الإسرائيليين في بيروت. كان يسخر من انتحار أصدقائه في عمل بطولي قال عنه أنه غير مجدٍ، وأنه امتلك الوعي للابتعاد عنهم. ربما أغراك هذا بتقريبه منا، لكن مقاييسي في تقبل من يقترب منا تختلف. أنا لم أحترم عدم احترامه لإرادة أصدقائه ولو كانت انتحاراً.. وقد أثبت لي فعله اليوم صحة رأيي فيه. لقد طلب أمامك مساعدتي له في الحد من سيطرة عماد الذي ليس من مصلحتي معاداته. وقد تورطت بالموافقة. ولا أعرف الآن ما الذي ركّبه من حديث لعماد عني. لم أعد أستطيع تحديد أية هوية له.. أقول لنصير الذي يحاول تهدئة انفعالي.
ـ لا أحد يقرّ ما فعله حسان اليوم، لكن هل حاولت أن تتفهم موقفه من أصدقائه على أنه رأي خاص هو حرّ فيه، هل تعرف ما لدى الشغيلة من أمراض يسارية طفولية فعل حسان حسناً في هربه منها. هل حاولت أن تتفهم وضعه في المجلة!؟. إنه يحس أنه أصبح بلا عمل في المجلة مع قدومك. لقد حللت مكانه تقريباً. إنه يدافع عن نفسه. لا تفهمني خطأ. أنا لا أقرّ ما فعله لكنني أعرف أن الظروف لا ترحم، وأنه ليس بالسوء الذي تصورته فيه. لقد صارحني اليوم بما فعل معتذراً وقال أنه أخطأ بالشكوى لعماد عن وضعه تحت إحساس أنه مفصول عن عمله، كان يريد شغل وظيفة ما كي لا يعتقد أحد أنه لا عمل له بالمجلة وقال هذا لعماد لمعرفته باحترام عائشة لرأي عماد، وصدف أن هذه الوظيفة تقاطعت مع عملك.. يقول نصير، وأجيبه باعتراض على فهمه..
ـ كيف تفهم الأمور على هذا الشكل. إن عمله يتقاطع إدارياً مع عمل عماد لا عملي، ومع هذا حاول إيذائي أنا لا عماد، وأشك في أنه هو من قدم قائمة الأخطاء إن لم يكن أوحى بها إلى عماد.
ـ هوّن عليك هاني، ولا تدع الغضب يأخذك إلى الخطأ. أنت الآن منفعل لأنك مجروح.
ـ جرحي الحقيقي هو تحليلك الذي لا أفهمه.
ـ ليس تحليلاً بل تفهماً لأحوال الإنسان. اجلس فقد أعدت أحلام العشاء، أو أقول لك. هيا معي إلى المطبخ لعمل خلطة الجريب فروت خاصتك. لم أقل لك. اتصلت مع شاعرنا نديم اليوم. قلت له أنك أحضرت لنا من باريس خلطة للفودكا مع الجريب فروت فقال لي معتبراً أن هذا إهانة للفودكا، فالفودكا تشرب عادة مع الحليب لا مع الجريب فروت.. يقول نصير عاضاً على ضحكته التي تخرج بدفقات. ويعود لي قليل من هدوئي وابتسامتي. لقد خلخل نصير جدران قلعة الانتقام التي سورت نفسي، وأدخل طعم العجز إلى فمي. ليتني أستطيع المسامحة ببساطة. ينتابني شعور بالغضب من نصير على تعريته لروح الانتقام داخلي وذره لبعض من ملح الإنسانية على جرحي!؟
ـ لقد حان موعد الأخبار. سنسمعها ومن ثم نتصل بمحمود لسؤاله عن آخر التحليلات لديهم حول الإنذار الأمريكي بتحديد موعد الحرب. يقول نصير مغيراً قناة التلفزيون وغارقاً في مقعده يحتسي كأس الويسكي. الحرب. أضحك بسخرية وغصة. هذا موضوع أستطيع فيه الانتقام من نصير على خلخلة داخلي.
ـ إنها لعبة. والله لقد أصبحت الحرب لعبة في يدكم أنتم المثقفون!!.. أقول ويفاجئه كلامي الذي قلته بعفوية. ينظر إلي مندهشاً ومحافظاً على انشراحه، وضاحكاً..
ـ لا بأس، أنت اليوم مجروح، ويحق لك قول ما تشاء.
ـ ما أشاء! هذا عز لا أحلم فيه!.. أقول ويقرر الشيطان في داخلي أن لا أخذل سماحته. وحسناً، إنها فرصة لخلخلة هذه الإيمانية التي تفلقني فيه.
ـ حسناً.. أقول بمودة وضحك. بدأت أفكر أنكم حولتم مأزق دخول الكويت إلى لعبة أطفال وقمتم بتعبئة مسدسات البلاستيك بالماء استعداداً للحرب. وبما أنكم ضليعون بالثقافة والسياسة ومثقفون عرباً فقد استبدلتم ماء المسدسات بالتنظير، وحولتم التنظير إلى طقس، ثم حولتم أنفسكم إلى كهان.
ـ وماذا تفعل أنت زيادة عنا!.. يقول نصير ضاحكاً مني.
ـ أنا أتفرج الآن. سئمت من اللعبة.. أقول.
ـ لكنك مازلت فيها، وما زلت حتى يوم أمس تبشر بالخراب. أنت الوحيد الذي يلبس ثياب الكاهن، ويقول أن الحرب واقعة لا ريب فيها، متجاهلاً كل تحليل لواقع القوى على الأرض.
ـ أعتقد أنكم تتفقون معي ضمناً على هذا. وتعرفون بقرارة أنفسكم أن الحرب واقعة لا محالة، لكنكم تهربون كالعادة إلى التحليل بدلاً من مواجهة أنفسكم، أنتم تحولون مجرى التحليل إلى نتيجة تريح خوفكم، وتبعد عنكم شبح الحرب، تمارسون نوعاً من ارتداء أقنعة تسمونها تحليل الواقع لكنها في الحقيقة هرب من رؤية الواقع.. أقول ويضحك نصير ماداً لي يده بكأس الفودكا..
ـ ستحولنا إلى مرضى نفسيين!.. يقول نصير وتتدخل أحلام مرددة تحليل نصير ببساطة أكثر.
ـ لكن الأمريكان أصبحوا يخشون من تعداد القتلى بعد خسارتهم في الفيتنام، كما أن هناك معارضة في الكونغرس للحرب، ثم إن هناك السوفييت ومبادرة ميتران التي تعبر عن المعارضة الأوروبية.. تقول أحلام وأقاطعها مستمراً في لهجة كلامها..
ـ نعم، وهناك حشد بلغ النصف مليون جندي في تحالف تسع وعشرين دولة بينها عشر دول عربية، في مقدمتها مصر وسورية، وهناك أسلحة خرجت من المخازن وفكّ عنها السيلوفان. هناك ملاحق إعلامية تروّج لمزايا هذه الأسلحة في صحف الغرب وصحف العرب على حد سواء. هناك معرض أسلحة حي سيقام أمام العالم في لحمنا.. أقول ويضحك نصير. يخاطب أحلام.
ـ ألم أقل لك أنه كاهن الخراب. أنت لم تعرفيه في البلد. لقد بدأ حياته الشعرية بقصيدة تبشر بهبوط الفاشية مثل ثور أسود يحمل في قرونه المجازر.. يقول ضاحكاً وأضيف مجارياً إياه في ضحكه.
ـ وها نحن ننعم بفضله في جنة المنفى، ولا تلاحقنا قرونه التي لم تمزق أوصال البلد والأحزاب والمؤسسات بالاستبداد والفساد والقتل، ولا تنهش لحم رفاقنا الآن في سجونه. ولا تجعلنا نلعب بدخولها الحرب إلى جانب أميركا لعبة تحليل الدخول والخروج، كما لم تجعل غيرنا يمدحون حكمة النظام الديكتاتوري في وقوفه مع أمريكا ضد ديكتاتورية صدام حسين.
ـ لا أحد يمدح دخول النظام إلى جانب أمريكا.
ـ بل بدؤوا، وفي التجمع الوطني الديمقراطي بالذات، وحاولوا جرّ رفاقنا إلى اتخاذ موقف يدين أميركا والعراق على حد سواء كمقدمة للوقوف مع الحرب.
ـ أنا معك هاني في موقفك من النظام لكن لا تبالغ في انحراف موقف التجمع وكأنك تريده أن يكون كذلك لإثبات رأيك. كل ما فعله حلفاؤنا هو محاولة جر رفاقنا إلى إدانة الطرفين ظناً منهم أن هذا هو الموقف الصحيح، وأدرك رفاقنا أن هذا يعني الوقوف مع الحرب على العراق، وأصدروا بياناً يقف ضد الحرب فقط.
ألتقط جملة “وكأنك تريده أن يكون كذلك”، لأنظر قليلاً إلى داخلي. هل أريد هذا فعلاً!؟ هل أريد للحرب أن تقوم من أجل إثبات صحة موقفي؟ وهل ساعدتْ سوداويتي ورؤياي للخراب قرون ثور الفاشية السوداء من أن تطحن بلدي؟ أي شيطان يقبع في دواخلنا يا إلهي!! ولكن هل علي أن أجمّل الصورة لكي تصبح الصورة جميلة فعلاً! هل يشكل هربي من رؤياي لخراب الحرب على العراق كما يفعل نصير وقفاً لهذه الحرب!؟ هل سأشعر بالسوء إذا كان موقف نصير هو الصحيح!؟ يا إلهي، لم أعد أستطيع ضبط مرآة داخلي التي يختلط فيها الملاك بالشيطان.
تضحك أحلام سعيدة من روح نقاشنا، وتعتذر للذهاب إلى المطبخ واستخراج الطعام من الفرن بينما يملأ لي نصير كأس الفودكا، ويضيف إليه الجريب فروت ضاحكاً.
ـ فودكا جريب فروت. لدينا حليب إن كنت تفضل خلطة نديم. دعنا نتصل بمحمود.

*******

ألملم أقلامي المتناثرة على طاولة مكتبي. أضعها في المقلمة أمامي. أرى روزا تقفل باب مكتبها، تلوّح لي بيدها مودعة وتمضي. لم يبق أحد في المجلة. إنهم لا يصدّقون متى تحين ساعة الانصراف كي يغادروا المكان، ولكن أليسوا على حق!؟. أرتدي جاكيتتي مسرعاً بدافع صهيل نداء مجهول. ها هي روزا. إنها ما تزال على باب المصعد كما حدست.
ـ لقد تأخر المصعد كالعادة. تقول روزا محرجة من وقوفها الطويل.
ـ لقد أمرته أن ينتظرني. هل أعتذر منك على ذلك. أمازحها وتضحك. ينفتح الباب. تدخل وأدخل وراءها.
ـ أي زر أضغط؟ أمازحها وتضحك. أضغط زر الأرض. ثمة ما يحيّرني الآن في روزا. لقد تجاهلتني طيلة هذا اليوم، وتبدو ودودة معي الآن، ولقد حذرتني منذ أيام مما يعدّونه لي. إنها تعرف الكثير. أنظر إليها. أجعلها تحس بنظراتي وتتجاهل هذا الضغط. أستنطق ملامحها. لا أصل إلى شيء. كيف أستطيع كسر حجر صمتها. نخرج من المصعد. أقدم على خطوة اختبار.
ـ هل تسمحين لي بمرافقتك على الطريق. سأتناول طعامي في المطعم الكائن في نهاية طريقك.. أقول وتتردد.
ـ نعم، ولكن هل يضيرك أن نذهب عن طريق البحر. الجميع يذهب من هذا الطريق وأخشى أن يرانا أحد.
أستغرب خشيتها. أنظر إليها مقطباً جبيني بعدم الفهم. وتقول مبددة استغرابي..
ـ الجو متوتر مما حدث. أنت تعلم. لا أريد أن أعلق بأية تفسيرات.
ـ دعيني أعتذر عن طلبي. أنا آسف فعلاً على إحراجك.
ـ لا. لا. ليس من مشكلة. فقط كي أتجنب أية تخمينات من الآخرين.
أضحك مشيراً لها أن هذا يذكرني بالبلد، وكأننا لسنا في قبرص.
ننزل إلى الشارع المؤدي إلى البحر صامتين. يبدو أنني ملزم بكسر الصمت مادمت قد طلبت مرافقتها.
ـ أشكرك روزا على تنبيهي. تعلمين أنني جديد في المجلة وأستغرب ما يحدث. تضحك بهدوء:
ـ سوف تعيش حالات طويلة من الاستغراب. لكن قل لي ماذا حدث في الاجتماع. عائشة كانت سعيدة ومحمد تصرف بشكل حيادي، حسان كان محرجاً وعماد كان منزعجاً. وأنت صامت كصياد يشحذ أسلحته.
ـ صياد!! لا أعرف إن كان هذا إطراء سيعجبني.
ـ أنت تعجب عائشة، لقد امتدحتك بوجودي أمام محمد. ماذا حدث فعلاً ؟!.
ـ أنت التي تسألين؟ يفترض أنك أول من يعلم. أقول وتضحك..
ـ ليس بالضبط لكنني سكرتيرة المجلة ومستودع أسرار الجميع.
ـ لم أكن أتصور أن يحول عماد وحسان مشكلة صغيرة إلى فخ للنيل مني. لماذا يفعلان ذلك برأيك؟ أسألها وتتردد في الإجابة.
ـ لا أريد الخوض في النميمة؟
ـ لكنك سألتني عما حدث.
ـ ولم تجبني. أخبرني بما حدث؟.. أضحك على تهربها. وأقرر خوض الحديث.
ـ لقد قدم أحدهما قائمة بأخطاء مرّت علي، وطلب عماد كفّ يدي عن الإشراف على التصحيح وتسليم حسان هذه المهمة.
ـ ورضيت بذلك!.. تسألني باهتمام.
ـ كنت سأقبل لولا أن الأمر يمكن أن يضرّ بالتراتب الإداري، ويقلل من صرامة التدقيق، فاقترحت أن يستلم حسان مهمة التصحيح تحت إشرافي، وأنا تحت إشراف عائشة، ووافق الجميع من أجل خير المجلة. أقول وتضحك روزا..
ـ خير المجلة!! ها. لقد حمّلت حسان مسؤولية كان مرتاحاً منها أمامك، وأصبحت أنت الذي سيعدّ قائمة الأخطاء.
أصمت واجماً بحيرة وقد مسّني ذكر القائمة.
ـ هل أهنتك!؟.. تقول وقد أحست بجرحها لي.
ـ انظري روزا. نحن لا نكاد نعرف بعضنا. سأتجاوز إهانتك معتبراً أنها مزحة، لكن أرجو أن تعرفي أن عماد هو من بدأ ذلك، وأساء لحسان بهذا، كما أرجو أن تعرفي أنني لست عماد لكي أضع نفسي في ذات الموقف الذي احتقرته. أقول وتضحك روزا..
ـ أقدّر ذلك، لكنك قسوت على حسان. دلني تصرفك على أنك لست الرجل الطيب الذي رأيته في البداية. حسان لا يستحق ذلك. إنه طيب وحساس، وتعلم أن قدومك إلى المجلة هزّ وجوده وهدّد وظيفته. لقد كان يجلس في المكتب الذي تجلس فيه الآن، وأنت تعرف ذلك.
ـ اللعنة على هذا المكتب.. أقول. الجميع يعلم أنني اخترت أصغر وأبعد مكتب في المجلة حين وجدت حسان فيه، وعائشة هي التي أصرت على إعطائي إياه شارحة لي أن مكتب مدير التحرير يجب أن يكون بجانب مكتبها، ومكتب سكرتير التحرير يجب أن يكون مع مكتب عماد وجماعة الكمبيوتر. لماذا لا يفهم الإجراء العملي في هذا!.
ـ إنه لا يحس بالأمان لأن عائشة لا تكن له مودة.. تقول روزا، وتتوقف كمن تورط في تفاصيل لا يجب الدخول فيها. ماذا أفعل. إنها تدافع عن حسان وكأن بينهما علاقة ما، أو ربما هي تشفق عليه لا أكثر.
ـ أعتقد أن عائشة محقة.. أقول وتصمت روزا باستياء يشعرني بإدانة صمتها لقسوتي. ماذا لو كانت على علاقة بحسان؟ إنها قلة أدب مني أن أبدي لها عدم احترامي له.
ـ أرجو أن لا تزعجك قسوتي.. أقول.
ـ لا. لكنني أفكر بالرجل الذي التقيته أول مرة وأثارتني بساطته.. تقول وأضحك. إنها بداية انفراج.
ـ أول مرة. كيف رأيتني أول مرة!؟ أسألها وتضحك.
ـ عندما علمت أن القادم سوري، انقبض قلبي.
ـ كلبنانية
ـ نعم. وقلت ألا يكفي حسان في المجلة. لكنني لم أصدق أنك سوري فعلاً. كنت مهذباً وهادئاً على غير عادة السوريين وأقرب إلى السذاجة بشعرك القصير الذي بدا أنك حلقته بنفسك.. تقول وأضحك.
ـ لقد حلقته بنفسي فعلاً. لم يكن لدي الوقت في باريس للذهاب إلى حلاق، وعندما فعلت ذلك لم يعد ينفع الندم. ماذا أيضاً!؟.
ـ سأكون صريحة معك. دققت بملفك لأعرف من أية منطقة في سورية، وتأكد حدسي عندما عرفت أنك من المنطقة العراقية في سورية. زال خوفي قليلاً وأضحكتني سذاجتك وقلقت عليك عندما حاول عماد النيل منك أمام عائشة. لقد شعرت بظلمه لك.
ـ هكذا إذن.
ـ غير أنني أخفق دائماً في أحكامي. أنت تخيفني الآن أكثر من  الجميع.. تقول روزا، وأضحك. تتوقف.
ـ لقد وصلت الآن إلى البيت.. تقول، وأحس أنني ملزم أمامها بالإيضاح، لكنني لا أستطيع استبقاءها أكثر في الشارع.
ـ قبل أن أودعك. أريد أن تكوني على ثقة بأنني لا أستطيع إيذاء أحد وإن بدا علي ذلك. حتى لو أردت ذلك. صدقيني.. أقول وتنظر روزا إلي بعينيها الصافيتين وتضحك.
ـ هذا ما يخيفني فيك. تقول روزا أمام دهشتي وتمضي.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية

للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى