صفحات ثقافية

‘ماء البارحة’ لمروان علي: الظلال حينما تحتبس

null
إبراهيم حسّو
يستدعي الشاعر السوري مروان علي عبر كتابه الشعري (ماء البارحة) ضمن منشورات (جريدة الغاوون الشعرية) كافة مداركه الحسية والتعبيرية لقبض حالات إنسانية وحياتية معاشة ومنسية وصور عالقة في ذهنية شعرية متبدلة ومتحولة يحاول من خلالها الشاعر ان يوقظها من ماضيها ونسيانها، مستنطقا أصواتا وإيقاعات وعوالم فقدها الشاعر أو يفتقدها في حياته التي يقضيها في بلاد باردة ومفتوحة على سماء لا تنضب، مصرًا على حضورها بكل تفاصيلها وتوتراتها وبرهاتها، يتحسس بالزمن كحضور وبقاء والمكان كجسد يتحرك ويتوق إلى منبته، ينظم تلاحق الزمان والمكان، اشتباك الشكل أو ظاهر الشكل، بالوجود اللامحدود للأسماء ودلالاتها الخاصة بغية التذكر أو الاستنجاد بها، بمحاورة الصدى وكسب صوتها، بتوصيفات طاهرة مرتجفة كخيال يشتعل وينير درب الكلمات، أصوات كروائح تلهث وراء المعاني الشاردة المفضضة، المعاني التي ُتعرض كأنها تتلون بمشهد بلا خاتمة، كنهاية صاخبة لبداية بلا ترفيه أو مجد أو تخمينٍ عابر لوقائع وأحداث وأفكار عالقة في الهواء كريشة أسقطتها ندفة غبار.
لغة (ماء البارحة) لا تحتاج إلى بُعد خيالي أو بلاغي أو تقني، لغة متكشفة مباشرة تسعى إلى فتح معابر بين المعنى ودلالته، بين الكلمة وما يرادفها أو ما يعاندها من معان أخرى، كأن الشاعر يكتب ليحكي أو يسرد دون الاستعانة بكمال اللغة أو ثقلها المعجمي، يخلّص الكلام من عاديته، يفضحه أو يعرّيه ويفرده بين يديك صافياً كصفاء حياته البسيطة (كالماء).
شعرية (ماء البارحة ) عراءٌ منبسطٌ على سيرة ذاتية يستحضرها الشاعر كرغبات معذّبة في خلق مدينته (القامشلي) وأصدقاء ينطقون باسمه لمجاذبة ظلال ربع قرن من الضياع في هواء هولندا وثلج ألمانيا اللاهبة، أوراق شاعر اختلطت بماء حياته التي عكرتها الريح، بنبرته الكسيحة كظلال مكسوة بظلال عابرة، نبرات شهوانية مسموعة لصدى يخفق ويصمت بأمر من الصوت نفسه، النبرة التي تظهر وتختفي كعظام الريح :
جاؤوا من بلاد بعيدة تحدثوا عن قراصنة وحروب عن بحار سرقت ونساء في حانات نحاسية عن حياة لن نتخيلها أبدا وبلاد لا تشبه البلاد جاؤوا وحتى الآن واقفون أمام باب الغياب يرتجفون من برد الآخرين.
يتخذ مروان علي من نثرية القصيدة كأنها سياقات لخطابات صحفية أو اعلانية، فالسرد المتنافر يهب بين رئات النصوص، يولد حكاية أو دعابة شاردة أو تخمينا عابرا لصورة عابرة، سياقات تنكمش وتتمدد كرقائق الحلم حينما يصبح الحلم شبهة أو مفردة ملتهبة تلخّص رجفة الكون ورتابة الواقع ويباسه الذي يسحق ويحتبس كظلال متقرحة:
غدا لدي مواعيد هامة علي الذهاب أولا إلى مكتب العمل لإعادة تسجيل إسمي في قائمة الباحثين عن عمل كي لا تنقطع المساعدة الشهرية ثم الذهاب إلى المحامية الإسبانية الجميلة
ترتيب أمور إقامتي وأشياء أخرى وكذلك مراجعة طبيب الأسنان لفحص ضرس منخور حول حياتي إلى جحيم علي الذهاب إلى الفراش باكرا كي لا تضيع مني الحلقة الأخيرة من سنوات الضياع.
تسترخي نصوص (ماء البارحة) على ومضات سريعة هادرة مثل برق يلمع بين هشاشة الغيم، فتختفي (الصورة) من ضربات ( الكلام ) وما يلحقها من مفردات (مفتوحة) على مصراعيها، مفردات تئن من وضوحها وفضاحتها التي تشبه وضوح وفضاحة المعنى المتموج، المعنى المتقرّح العصي على البلاغات والبيانات والنقش اللاهب للغة، لغة مروان علي منزلقة، سريعة، مستسلمة لفلتان القص وفوضى الحوار وفض الرسائل الخاصة جدا ورعونة المعيشة أو ما تستدعي الحياة في استنطاقها واشتعالها شعريا:
وحيدا دائما بعيدا أمام أخطاء الماء الماء سرنا الذي يعرفه الجميع حيث تحت سماء أمستردام جرس وهمي قذفته بحجر فردد اسمك. كتاب (ماء البارحة) مجدولة على ثلاث زوايا ‘ربما عطرك’، ‘يا للرقة… شمس وبحر وقراصنة يتهيأون لمديح الماء’ (الزاوية الثالثة هي نص مشترك كتبه الشعراء: قاسم حداد، لينا الطيبي، صادق الصائغ، مروان علي). مستحق بالذكر أن مروان علي من مواليد القامشلي السورية . نشر نصوصه ومقالاته في العديد من الصحف والدوريات العربية، وحاز جائزة مهرجان ‘دنيا’ الهولندي للشعر عام 1997، كما تُرجمت نصوصه إلى لغات عدّة.

(ماء البارحة) شعر
مروان علي
عن دار الغاوون بيروت 2009
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى