قضية فلسطينموفق نيربية

فلسطين في القلب… مباشرةً!

موفق نيربية
حين قالت غولدا مائير إن فلسطين أرض بلا شعب، ويجب أن تكون لشعب بلا وطن، أخذناها من دون تردد على أنها وحشية المشروع الصهيوني وعنصريته وتبريراته الوقحة لقيام إسرائيل على حساب تهجير الشعب الفلسطيني وتشريده في المنافي والمخيمات.
في الأعوام الأخيرة، العامين الأخيرين خصوصاً، عادت تلك الكلمات ترنّ بصوتٍ خفيض في آذاننا، مع ما يحدث بين الفلسطينيين، ويقدم للعالم عرضاً مجانياً يساهم في إثبات أنهم لا يستطيعون بناء دولةٍ خاصة بهم. وإذا قام كاتبٌ ما بالخوض في الموضوع، يصبح هدفاً سائغاً لمناضلي الموضوعات السهلة المبسّطة المفروغ منها، مثل الاغتصاب الصهيوني، والعدوانية الإسرائيلية، والإيمان بالانتصار القادم «ولو بعد ألف عام».
والمسألة تكاد تكون استعصاءً خالصاً، تتكرّر مظاهره كلّ عام أو أقل. وهو استعصاء من الجهة الإسرائيلية أولاً، لكنه كذلك أيضاً من الجهتين الفلسطينية والعربية، ولا يبدو أن هنالك حياةً لمن تنادي، سريرياً لمن يلازم سريره، وفي المكاتب لمن يلتصق بكرسيه، وفي الساحات لمن لا يستطيع استنشاق الهواء إلاّ إذا كان مشبعاً برائحة البارود وعبقه. وفي الجهة الإسرائيلية، المسترخية في جبروتها واعتمادها على كفالة الغرب لأمنها وتفوقها، لا يبدو أن عقدة الأمن تتطور انتخابياً بشكلٍ يساعد على تشجيع الروح السلمية وعقلية التسوية في الجانبين، وهي تثبت تكراراً أن لليمين المتطرف المتخلّف فيها قدرة دائمة على تحمية الوضع وتقديم الأسباب الجديدة لمن يؤمن بأن الصراع وجودي، لا يمكن حلّه إلاّ بالمغامرة بالوجود نفسه في السياق أو الخاتمة. كما أن لدى من يحمل شارات اليسار أو الليبرالية أو التسوية من الشراسة التاريخية ما يجعله في مقدمة من يعتدي ويتمادى، أو يتردد في تقديم التنازلات التي لا بدّ منها لمن يريد وجوده وأمنه في النهاية. أسوأ الأشياء سوء التوقيت والتواقت مع الحالة في الجانب الفلسطيني أو العربي.
أما الفلسطينيون أهل القضية، فالاستعصاء في طرفهم يكاد يصبح مزمناً وعصيّاً على التفكيك، وهو ينطلق نظرياً من الحيرة بين التوجّه الراديكالي على أساس استرداد الأرض المغتصبة كلّها من البحر إلى النهر، أو القناعة بما يمكن إنقاذه منها واستخلاصه من أيدي الاحتلال لبناء دولة مستقلة عليه. الاتجاه الأول يبقى في البحر، والثاني على سرير النهر.
لا يستطيع الفلسطينيون فكاكاً من الشبكة العربية، ولا اطمئناناً إلى قدرتهم على صياغة وتنفيذ «القرار الوطني المستقل». فقضيتهم بالفعل سورية وأردنية وسعودية ومصرية ولبنانية، ما لم تكن عربية من دون تخصيص وبالتساوي الافتراضي.
ولا يستطيعون أساساً إمداد سلطتهم المصنوعة على عَجَلٍ إلا من الخارج الذي يحسُب ما يُقدِّم ويطلب مقابله مباشرةً أو مداورة، ولا كذلك «ثورتَهم» التي أصبحت أخيراً إسلامية تحمل راياتٍ لا تحتمل إلاّ اللون الواحد، ولا تخفق بالريح بمقدار ما تثير هي من العواصف. كلا الطرفين المشدودين بحاجةٍ إلى الخارج، ويرتبطان به، ولا يبدو أن لديهما طموحاً للاستقلال عنه، حتى لو كان هذا الاستقلال نسبياً، وقابلاً للفعل كما للانفعال. وها هما، في أفضل الظروف الممكنة التي لا يمكن لأحدٍ أن يعتب عليهما فيها، يعجزان في اللحظة الأخيرة عن التوصّل إلى تسوية تبدو بديهية وواضحة المعالم ولا مناص منها، وينتظران إشارةً- أحدهما أكثر من الآخر حتماً- من أنظمة المنطقة، تربط ما بين مصالح عابرة وصغيرة، منها ما له علاقة بعقد مؤتمر القمة وظروفه مثلاً، وبين خيار العبور إلى منصة الحدّ الأدنى اللازمة في المرحلة الراهنة والمقبلة.
لم تنفع سابقاً رسائل مكماهون إلى الشريف حسين، ولا تشجيع هتلر- بالطبع- للشيخ الحسيني، ولا تعهدات روزفلت للملك عبد العزيز، في ضمان خاتمةٍ سعيدة أو معقولة للقضية الفلسطينية-اليهودية. ولم تنفعها أيضاً حماسة الأنظمة العربية في الأربعينيات والخمسينيات، مع ما تبع ذلك من تسهيلٍ لتعزيز الكيان الإسرائيلي الجديد بالهجرة اليهودية المشبوهة أو الغبية من «الكيانات» العربية القريبة. لم يكن لينفع شيء إلاّ تنكّب طريق النهضة الحقيقية في البنى الاجتماعية السياسية العربية، الجديدة بدورها. لم ينفع تحوّل فلسطين إلى أيقونةٍ قومية مقدّسة تخدم استمرارَ واستقرارَ الاستبداد الشرقي العربي المتأخّر عن زمان كوكبنا، وها هي تتحوّل إلى أيقونةٍ إسلامية مغمّسة بالدم والتراب، أو «سنجق» لنوع مختلف من المتصوفة يخرجون من معتزلاتهم التي يحسبونها ثغوراً قديمة، ليغيروا على العدوّ جُزافاً من غير برنامج، إلاّ ما رأوه في الرؤيا أو المنام… والمنام غاية بذاتها.
ناشدناهم الوحدة والانتباه والتقوى، ولا جدوى. وقد يكونون خير ما يمكن… ولا حول ولا قوة بنا، فالرجاء إتلاف هذه المقالة بعد قراءتها!
* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى