صفحات العالم

السودان في مهب اللاعقلانية العربية

null
محمود سويد
بتاريخ 4 آذار 2009 أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى (بمثابة محكمة البداية) في المحكمة الجنائية الدولية برئاسة القاضية أكوا كوينيهيا أمراً بالقبض على عمر البشير رئيس دولة السودان والقائد العام للقوات المسلحة السودانية منذ أن عينه مجلس قيادة الثورة للخلاص الوطني في هذا المنصب في 6 تشرين الأول 1993 وأعيد انتخابه بعد ذلك مرات عدة، وذلك كمرتكب غير مباشر أو شريك غير مباشر في التهم التالية:
-1  تعمد توجيه هجمات ضد سكان مدنيين أو أفراد مدنيين لا يشاركون في الأعمال الحربية،  باعتبار ذلك جريمة حرب.
-2  النهب باعتباره جريمة حرب.
-3  القتل باعتباره جريمة ضد الإنسانية.
-4 الإبادة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية.
-5  النقل القسري باعتباره جريمة ضد الإنسانية.
-6  التعذيب باعتباره جريمة ضد الإنسانية.
-7 الاغتصاب باعتباره جريمة ضد الإنسانية.
ارتُكبت هذه الجرائم في النزاع المسلح الناشب في دارفور، من آذار 2003 إلى 14 تموز 2008 على الأقل، بين حكومة السودان وعدة جماعات مسلحة منظمة، ولا سيما حركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة. وقد عمدت حكومة السودان إلى تعبئة ميليشيا الجنجويد وقادتها بعد ذلك مع القوات السودانية المسلحة وقوات الشرطة السودانية وجهاز المخابرات والأمن الوطني ولجنة المساعدة الإنسانية، في حملات في مختلف أنحاء دارفور، لمكافحة تمرد جماعات مسلحة معارضة. وشملت هذه الحملات مئات الآلاف من السكان المدنيين الذين ارتُكبت ضدهم الجرائم المذكورة أعلاه (مقتطف من نص رسمي صادر عن المحكمة باللغة العربية).
ما أن صدر قرار المحكمة الجنائية الدولية (على مستوى محكمة البداية) حتى عم الاستنفار العربي لنصرة الرئيس السوداني عمر البشير العالم العربي، رؤساء وقادة رأي وسياسة، ومجتمعاً مدنياً بأحزابه ومنظماته وجماهيره. وشكل ذلك مرة أخرى – لا نعرف رقمها – دلالة باهرة على غياب العقلانية والحكمة وأصول الحكم الدولتية ونظام عمل المؤسسات، وتكرار نمط كسول وعشوائي في ردات الفعل العربية، على كل المستويات، وفي كل الظروف، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الغزو الأميركي للعراق والعجز العربي عن اتخاذ موقف موحد لحماية العراق.
ثلاثمئة ألف قتيل في بضع سنوات، وملايين المهجرين الذين أحرقت بيوتهم وهدمت وسبيت نساؤهم، ويقيمون في بؤس المخيمات وجوعها وحرّها وبردها، لا يستحقون التفكير في أسباب ما آلت إليه حالهم. إنهم بشر أولاً وقبل أن يكونواً عرباً أو سوداً أفارقة. وحقوق الإنسان تعلو على أية حقوق دينية أو قومية أو إثنية أو غيرها بالمطلق. وإنهم سودانيون رئيسهم وقائد قواتهم المسلحة الجنرال عمر البشير، ويقود المنطق البسيط إلى افتراض أن يكون مسؤولاـ ربما أو أن شريكاً في المسؤولية عما يجري في دارفور منذ نشوء الصراع الدامي فيها قبل 16 عاماً من حقبة حكمه البالغة حتى الآن عشرين عاماً (أمر المحكمة أعلاه يشمل أقل من خمس سنوات).
لم يكلف البشير نفسه بالرد الهادئ والحجة الموثّقة على: مَن هو المسؤول عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في إقليم دارفور غربي السودان؟ هذا واجبه إذا كان يحترم شعبه والرأي العام العربي، والمجتمع الدولي. لم نقرأ شيئاً من هذا، بل شاهدنا رئيس السودان باللباس العسكري أو التقليدي الشعبي يصرخ ويلوّح بعصاه، ويرقص أحياناً، ويقذف الشتائم وسط جماهير حاشدة،تفديه ـ طبعاً وكالمعتاد ـ بالروح والدم. “لصوص وجواسيس…” “كذابون ومجرمون”، “القرار لا يساوي الحبر الذي كتب به”، “ليبلّوه ويشربوا ماءه”. ولاحقاً “… هذه المرة سنبلّعه لهم ناشف ولن نعطيهم فرصة لبلّه”، “محكمة الجنايات الدولية وقضاتها ومدعيها وكل من يدعمها تحت جزمتي هذه”.
وللحذاء، منذ أطلقه الشاب العراقي منتظر الزيدي في وجه الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني، طعم عربي خاص فهو  يزيد من اهتياج الجماهير وانتشائها ويبعث في النفوس الحماسة المتدفقة مع مشاعر الكرامة والعزة القومية. وتتأسس حول فكرة الحذاء وطاقاته التعبيرية أساطير تفرز شيئاً فشيئاً شعارات الأمة العربية والإسلامية ورموز مسيرتها نحو المستقبل. وليس حذاء المنتظر وجزمة البشير سوى طلائع الأحذية الرموز في الزحف العربي المظفر حتى النصر!
من السهل أن نفهم لماذا يهب الرؤساء العرب للدفاع عن زميلهم الرئيس السوداني، فأكثرهم مُدان بمثل تلك التهم من دون محكمة أو محاكمة، وشعوبهم تعرف ما يقترفون كل يوم بحقوقها في العمل والعلم والاستشفاء وحرية التعبير عن الرأي بكل أشكالها.
ونفهم لماذا تهب الجماهير السودانية لتفدي “القائد” البشير بالدم والروح، فالدور المرسوم للجماهير العربية أن تهب وتهدأ ثم تهب وتهدأ ثم … إلى أبد الآبدين.
ونفهم لماذا تدس إسرائيل مخابراتها في أية أزمة تعانيها دولة عربية لأن تدمير الدول العربية وتمزيق وحدة كل شعب من شعوبها هو هدف صهيوني سامٍ، لن توفره الأجهزة الإسرائيلية والصهيونية متى لاحت “بشائره” وما أكثرها في هذه الحقبة العربية – الإسلامية البائسة.
وبحسب وزارة الخارجية الإسرائيلية (موقعها على الانترنت) تسلل إلى إسرائيل في السنوات القليلة الماضية “الآلاف من اللاجئين الأفارقة … العديد منهم من منطقة دارفور في غرب السودان …”. ووافقت الحكومة الإسرائيلية، أخيراً، على منح 500 من لاجئي دارفور حق الإقامة الدائمة. وذكرت صحف إسرائيلية (“هآرتس”، “يديعوت أحرونوت”) أن عدد اللاجئين من دارفور يبلغ 600 شخص قررت حكومة إيهود أولمرت منحهم حق اللجوء وتصاريح العمل.
يتم هذا في غفلة عن العين العربية التي لم تعد ترى، منذ عقود، مختلف أوجه النشاط الإسرائيلي في أفريقيا كلها، وليس في جنوب السودان وغربه فقط.
ومن السهل أن نفهم لماذا يقف بعض الدول (الصين مثلاً) إلى جانب البشير، لأن النفط أغلى من الإنسان في دولة ألوف الملايين التي رفعت ذات يوم شعار حقوق الإنسان فوق ما عداه.
لكن ما لا أفهمه صراحةً حماسة المنظمات الشعبية العربية لنصرة البشير دون أن تقول كلمة واحدة عن شعب دارفور المنكوب. فأية صدقية تبقى لـ “البرلمانات” العربية والإسلامية التي ما كادت تنهي “جهادها” المقدس لنصرة القدس وفلسطين في طهران، بخطب أطلقتها حناجر مسلحة بأدوات التدمير الأكثر فتكاً، حتى حطت بعثتها المؤلفة من 52 شخصية بارزة في الخرطوم وتحلقت حول البشير ومحضته دعمها ومساندتها بوكالتها “الشرعية جداً” عن شعوبها!
وماذا يبقى من صدقيــة دول وأحـزاب ومنظمـات نحّت جانبـاً رايات الدفاع عن “المظلومين” و “المحرومين” التي طالما رفعتها رمزاً أبدياً لمكافحة الاستغلال والاستعمار ونصرة المقهورين، وسارعت إلى إعلان دعمها للرئيس السوداني بحماسة واندفاع، دون أية مساءلة عن جرائم متهم بها ضد جماعات من شعبه. فكأن دفاعها عن المظلومين يشمل فقط مَن يستظل رايات الثورة الإسلامية حصراً ويعمل بهدي مبادئها وشعاراتها. والدليل على ذلك أيضاً رعايتها لقوى ومقاومات أحادية الولاء، في حين أن المقاومة التي تلائم مجتمعاتنا وتشبهها ينبغي أن تجمع في صفوفها علمانيين ومتدينين وأن تكون المساعدات التي تتلقاها غير مشروطة.
طردت حكومة البشير بعثات إنسانية تشارك في إغاثة نحو خمسة ملايين إنسان يقيمون في المخيمات من أهالي دارفور. وما هَمّ أن يحتاج الأطفال إلى الحليب، وأن تجف أثداء الأمهات من فقدان الماء والغذاء، وتختفي المواد الأولية الأساسية للعيش.  وقبل المأساة الدارفورية وخلالها شُنت وتُشن “حرب إلغاء” لا تزال مستمرة لـ “تنظيف” العراق من المسيحيين (ليس من جانب الأميركيين ولا منظمات الإغاثة الدولية) فلا أدعياء نصرة المظلومين رفعوا الصوت، ولا “الجماهير” العربية هبت. لأن لا أحد معني بأن يضغط على الزر. والمسيحيون العراقيون العرب يجوبون شتى أصقاع الأرض بحثاً عن مأوى (“الحياة”، 20 آذار 2009)
أية مشاعر “إنسانية” يدّعي هذا الذي يغضب ويتظاهر انتصاراً لشعب غزة الذي يستحق كل الدعم والتأييد، ولا ينتصر لملايين المضطهدين في دارفور مثلاً أو آلاف المقتلعين المسيحيين أو الذين يجري اقتلاعهم من العراق، أو أي نموذج آخر للظلم سواء أكان ينال من مسلمين وعرب أو غير مسلمين وعرب من أي شعب من شعوب العالم بكل ما يضم من إثنيات وأديان وبدون أديان؟
لم تنشأ قضية دارفور عندما صدر قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير باعتباره المسؤول الأعلى عن تصرفات الميليشيات التي شكلها نظامه (الجنجويد) والتي ترتكب القسم الأكبر من الانتهاكات، والقائد الأعلى للجيش السوداني الموجود في دارفور.  ولم يصدر الحكم إلاّ بعد استنفاد محاولات التسوية والوساطات لوقف العنف في دارفور، وإنقاذ البشير من حكم العدالة الدولية، وتجنيب السودان ووحدة أرضه وشعبه التمزق والضياع. لكن الرئيس المتهم رفض هذه الوساطات ومنها الوساطة الفرنسية التي كانت تحظى بدعم دولي. وتم تبادل الوفود بين باريس والخرطوم، ثم التقى ساركوزي بالبشير في الدوحة (قطر) في تشرين الثاني 2008. وطلبت باريس مثول أحمد هارون وزير الشؤون الإنسانية السابق، وعلي كوشيب (المعتبر زعيم ميليشيا الجنجويد) أمام محكمة سودانية بحضور ممثلين عن هيئات قضائية دولية، وتسهيل نشر قوة دولية في دارفور، وتطبيع العلاقة مع تشاد، واستمرار الوساطات المختلفة بين السلطة المركزية في الخرطوم والحركات الدارفورية. (جريدة “الشرق الأوسط”، 6/3/2009، ص 3).
وقبل ذلك طالب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو إياه الخرطوم بتسليم أحمد هارون وعلي كوشيب إلى المحكمة، وطالب، بعد ذلك باعتقال ثلاثة من قادة الحركات المسلحة في دارفور بتهمة ارتكاب جرائم حرب (أعمال قتل ونهب في مخيم للاجئين). وكانت هناك وساطات أخرى لم يستجب لها البشير، ما أدى إلى صدور قرار المحكمة الجنائية.
يطرح إسلاميون وقوميون وغيرهم جرائم إسرائيل المتمادية ضد الفلسطينيين المعفية من المحاسبة، ما دامت محمية أميركياً. وجرائم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ضد الشعب العراقي، كمبرر لموقفهم الداعم للبشير. وهو منطق عجيب يدعم جريمة (إذا أثبت التحقيق وجودها) بذريعة جرائم أخرى معفية – بغطرسة القوة – من العقاب.
ليس المطلوب من القادة والهيئات الشعبية، سواء أكانت أحزاباً أو مقاومة أو منظمات اجتماعية في العالمين العربي والإسلامي، إدانة البشير وهدر دمه. ولا نفعل ذلك بالتأكيد فالمتهم بريء حتى يدان، بل نطلب أن تسود في مواجهة مثل هذه الحالات، الحكمة والعقل والمنطق، فتشكل مثلاً لجنة تحقيق نزيهة وموثوقة تزور الخرطوم ودارفور وتحدد بتجرد غير قابل للطعن الصواب والخطأ في قرار المحكمة الدولية. يضاف إلى هذا أن موقفاً عربياً يتسم بالاستقامة يقوّي إزاء العالم كله مطالبتنا بمحاكمة مقترفي الجرائم من القادة الإسرائيليين.
فمن الثابت أن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبت في دارفور. وإلاّ لماذا يبادر الرئيس البشير نفسه وتنشط أجهزته في التحقيق مع أحمد هارون (علي كوشيب فار) وتعتزم استدعاء 176 مشتبهاً بتورطهم في جرائم في إقليم دارفور. (“الحياة” 16 آذار 2009).
ذات مرة واجه العرب حدثاً مماثلاً في العراق. كان الغزو الأميركي لإنهاء حكم صدام قد صار مؤكداً. وكان مؤتمر قمة عربية على وشك الانعقاد (شرم الشيخ ـ الأول من آذار 2003). دعا بدوي عربي حكيم القمة إلى إرسال وفد من الملوك والرؤساء إلى صدام ودعوته إلى التنحي، لإنقاذ العراق. وأوفد رسولاً خاصاً إلى صدام ليوجه إليه الدعوة نفسها. لكن: لا القادة العرب استجابوا، ولا صدام المتطوّس آنذاك أذعن. فكان ما كان من مأساة العراق.
كان ذلك الحكيم العربي العاقل والبعيد النظر يدعى زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في حينه. رحمه الله. وحمى السودان من مصير “عراقي” محقق ما دام العقل والمنطق (فكيف بالحكمة) لا يجدان موطئ قدم في هذا العالم العربي – الإسلامي السعيد.

(كاتب سياسي لبناني)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى