بدر الدين شننصفحات سورية

السؤال الجدي في المشهد المعارض

null

بدر الدين شنن

قبل بضع سنوات ، عندما أتيح هامش نسبي للحراك السياسي المستقل عن السلطة أو المعارض لها ، تحت ضغط تفاقم الأزمة البنيوية العامة المزمنة وامتناعها عن الحل بالوسائل القمعية المعتادة ، انتقلت الديمقراطية من مجال ” الحلم ” إلى مجال الممكن ، ووضعت بحماس في جدول أعمال الحراك الثقافي والسياسي المعارض اليومي .
وساد الاعتقاد المبسط المتداول آنئذ ، على خلفية صورة الظروف والشروط السياسية – الاجتماعية الفوتوغرافية ، بما يشبه الاجماع ، أي بتجاهل كلي لميزان القوى وللمصالح الاجتماعية الطبقية القائمة ، أن شعار الديمقراطية وحده يكفي لتفعيل طاقات وقوى و” تحالفات ” تتجاوز الطبقات والأيديولوجيات ، لانتصارها وتجسيدها نظاماً بديلاً للاستبداد المزمن ، وأن الديمقراطية بذاتها هي الحل السحري لكل العقد السياسية والأزمات الاجتماعية . وكان البناء على أن النخب الثقافية – السياسية من ” الطبقة الوسطى ” ودعم الخارج السياسي – الحقوقي ، كفيلان بتحقيق الإصلاح في البلاد ، الذي تمثل في حينه بدعوات المعارضة المشروطة للنظام ، برفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية من الحقل السياسي ” لفتح الحوار بين الطرفين وتحقيق المصالحة الوطنية والمشاركة في السلطة ” .

مابعد الاحتلال الأميركي للعراق ، ووضع مشروع الشرق الأوسط الصهيو – أميركي قيد التطبيق ، وانسحاب الجيش السوري من لبنان واغتيال ” الحريري ” ، ودخول جوكر لجنة التحقيق الدولية في قضية الحريري في لعبة المتغيرات الاقليمية ، التي تشمل الوجود السوري ضمن إطار ا ستهدافاتها ، وما بعد تفاقم الوضع المعاشي للطبقات الشعبية وانحداره المريع إلى مادون خط الفقر ، وتوسع قاعدة البطالة ، وانفلات موجات ارتفاع الأسعار الجنونية ، والمتابعة الحثيثة لتطبيق اقتصاد السوق والخصخصة لمؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية ، ورفع الدعم الحكومي عن عدد من المواد المعيشية والمحروقات ، الأمر الذي عدل إلى حد كبير الظروف والشروط السياسية والاجتماعية ، حيث تقدمت المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية لتصطفا إلى جانب الديمقراطية أو لتندمجا فيها ، وتطلب من المعارضة أن تدخل تعديلاً جاداً في بنيتها وخطابها يتناسب وما حدث من تداعيات مركبة محلية وإقليمية ، لتعزيز ا ستقطاباتها الشعبية وتوسيعها ، اي الانتقال من البناء السياسي – النخبوي إلى البناء السياسي الاجتماعي ، من التمحور الأحادي حول الديمقراطية ، الذي منح الخارج دوراً أكبر من دور الداخل في التغيير ، إلى المحور الوطني الديمقراطي الاجتماعي ، الذي يعيد الاعتبار لدور الداخل ، ويعيد مهام التغيير لحاملها الاجتماعي الداخلي ، ويرفع ويقوي دور المعارضة ..

لكن هذا لم يحصل . بل حصل إمعان في الاعتماد على الخارج ومنه المعادي ، وتجاوز غير عادل وغير عقلاني لخطاياه وجرائمه المستديمة بحق شعوب المنطقة ، وإمعان ظالم في تجاهل الجانب الاجتماعي الطبقي الأكثر بؤساً في تاريخ الشعب السوري ، الذي يشكل لوحده عند شعوب أخرى حافزاً لقيام معارضات وانتفاضات تصل أحياناً إلى مستوى إ سقاط أنظمة وعهود . ما يطرح جدياً السؤال ، هل مازالت المعارضة في صيغتها القديمة الراهنة ، المستعصية على الانتقال إلى ا ستحقاقات الظروف والشروط المستجدة ، قادرة على تحقيق برنامجها الديمقراطي المحدد بخطابها النخبوي السابق ؟ . ما جرى في اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق في أول العام الجاري ونتائجه وتداعياته المؤسفة ، يشترك بنصيب كبير في صياغة الإجابة على هذا السؤال ، كما يقدم الدليل على أن التعديل المطابق ليس بوارد ، في الحاضر على الأقل ، لدى المعارضة الراهنة ، التي تراهن أكثريتها المؤثرة على فعل تناقضات الخارج مع النظام أكثر من الرهان على تفعيل الداخل لإحداث التغيير المزمع في البلاد . وبذا غدت وحدة المعارضة وهماً .. وفي أحسن الأحوال مؤجلة إلى أن تأتي ظروف تتوفر فيها شروط سياسية واجتماعية مساعدة على التوحد . وغدا حضور اليسار في حقل المعارضة فكراً وسياسة وتنظيماً أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى ، للتعبير عن مصالح القوى الشعبية المطلبية الملحة وعن رؤاها وفهمها للتغيير الوطني الديمقراطي الاجتماعي ، والمشاركة الفعالة في بناء خطاب سياسي علمي معارض جديد ، يشمل كافة الأقواس الوطنية والديمقراطية والاجتماعية الطبقية .

بعبارة موجزة .. لم تعد الديمقراطية ( حاف ) وحدها شعاراً جاذباً للأكثرية الشعبية الساحقة الغارقة في بؤسها وفي الخوف على وطنها ومصيره ، وبين ظهرانيها أكثر من مليون شاهد عراقي على جدية هذا الخوف .. إن لم تتحول الديمقراطية إلى مفهوم عريض يستوعب همومها المعاشية وحرصها على تراب الوطن .

لقد أحدث تخلف المعارضة القديمة الراهنة عن اللحاق بمستوى ا ستحقاقات المرحلة الجديدة ، ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق وتفاقم البؤس الاجتماعي بدواعي أولوية الديمقراطية على ما عداها ، وا ستمرار النظام با ستخدام القمع والاعتقالات التعسفية لنشطاء الرأي بدعاوى الحرص على هيبة الدولة وعلى الوطن من أبنائه ، أحدث فراغاً خطيراً لافتاً في المشهد السياسي السوري ، هو ليس في مصلحة الوطن أو الديمقراطية أو الوضع الاجتماعي الطبقي ، إذ أنه يشمل بمخاطره سوريا كلها أرضاً وشعباً . وإذا كان من البديهي أن النظام يتحمل المسؤولية الأساسية في وصول البلاد إلى ما هي عليه من انقسام وضعف ، فإن من البديهي أيضاً أن المعارضة ببنيتها السياسية – النخبوي المصرة عليها ، عبر سيرورتها بإيجابياتها وسلبياتها تتحمل قسطها من المسؤولية أيضاً ، وذلك لعدم الارتقاء بطروحها إلى مستوى الفكر والخطاب السياسي وفقاً لاستحقاقات المراحل السياسية – الاجتماعية المتلاحقة ، ومن ثم الابداع في تطوير آلياتها العملية . ما معناه أن الحراك المعارض المبني على إمكانيات ورؤى الليبرالية – النخبوية فقط بات غير قادر على تحقيق التغيير الديمقراطي

المطلوب أن يعاد بناء الحراك المعارض على إمكانيات ورؤى قوى سياسية – اجتماعية لها آفاق ومصالح أوسع وذات مصلحة عضوية بهذا التغيير . وهي حسب الخريطة الاجتماعية السورية الطبقات الشعبية ، التي تضم الطبقة العاملة وفقراء المدن والريف والقوى الصناعية المنتجة ، وكل المثقفين المؤمنين بالحرية والكرامة والعدالة الإنسانية .. وهي القادرة على ملء الفراغ الحاصل في المشهد السياسي الخطير عبر قيادة معارضة تضع الوطن والديمقراطية والاجتماعي الطبقي بصورة جدلية في مركز اهتمامها في جدول أعمالها اليومي .

2008 / 1 / 15

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى