صفحات مختارة

المجتمع المدني بين الفهمين الماركسي والليبرالي

عبدالحسين شعبان
يمكن القول إن المجتمع المدني مرّ بأربع مراحل:
الأولى، بدأت من القرن الثامن عشر والتاسع عشر: أي مرحلة التأسيس والانطلاق.
الثانية، ويمكن وصفها بمرحلة الذبول، وشملت نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى الثلث الأخير منه، مع مرحلة وسيطة ما بين الحربين العالميتين.
الثالثة، وتشمل مرحلة أواسط القرن العشرين وبخاصة بعد تطويرات وإضاءات المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي: وتمثل هذه الفترة مرحلة الانتعاش والعودة الجديدة، خصوصاً باتساع وتعمق المفهوم، والدور الذي لعبته الأمم المتحدة على صعيد تشجيع مؤسسات المجتمع المدني منذ تأسيسها عام 1945 في مؤتمر سان فرانسيسكو.
الرابعة، هي المرحلة التي بدأت قبيل نهاية الحرب الباردة وخصوصاً في فترة الوفاق الدولي في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، والتي توّجت في أواسط الثمانينات وما بعدها وبخاصة في التسعينات، وذلك بعد انتهاء نظام القطبية الثنائية وتحوّل الصراع الإيديولوجي العالمي من شكل إلى شكل آخر، مع بروز قوة دولية مؤثرة ومهيمنة على العلاقات الدولية، ومؤشر صعود فكرة المجتمع المدني هو تمرد نقابة تضامن البولونية وبعض الأنشطة والتحركات ضد وحدانية الحزب والدولة البيروقراطية الاشتراكية.

في سياق الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي العالمي وسباق التسلح، غالت الدول بأهمية الأمن القومي، وازدادت سلطاتها واتّسع مجالها على حساب المجتمع المدني، سواء في الشرق أو في الغرب، إضافة إلى البلدان النامية أو ما يطلق عليها “العالم الثالث”. وقد برز خطاب المجتمع المدني في مطلع الثمانينات وبخاصة في دول أمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية فيما بعد، حيث شهدت بعض المؤسسات نمواً كبيراً.
لعل مفهوم المجتمع المدني يستمد أصوله من فلسفتين مختلفتين هما: الليبرالية والماركسية، لكن هناك مشتركات للمنظورين، فكلاهما يعتقد بوجود تمايز بين الدولة والمجتمع، فالليبرالية تعتقد أنه ينبغي على الدولة أن تبقى حيادية، إزاء الجماعات الاجتماعية المختلفة، وهي تتجاوب مع الإرادة العامة من خلال الانتخابات، وبالتالي فهي حَكَمٌ يفصل بين المصالح المتضاربة والمتنافسة للجماعات المختلفة.
مثل هذا المفهوم لقي رفضاً في البلدان النامية، ومنها عالمنا العربي، وبخاصة خلال “مرحلة التحرر الوطني” في الستينات، تأثراً بالنموذج الاشتراكي “الماركسي”، لكنه عاد كخيار للتحول من مجتمع تقليدي استبدادي “اشتراكي” شمولي، إلى مجتمع يتجه نحو الديمقراطية والتعددية في إطار اقتصاد السوق، خصوصاً في البلدان التي حاولت تقليد النموذج “الأصل” بنماذج “فرعية” ترافقت فيها القسوة والتسلط مع التخلّف.
إن الاقتراب أو الابتعاد من الحرية، هو الذي يعطي صفة الحركية أو الركود للمجتمع، فحيث تتمتع المجتمعات بالحرية، نجد منظمات مدنية طوعية حرة، نقابية أو حزبية ضاغطة. والعكس صحيح فالابتعاد عن الحرية يجعل المجتمعات المدنية سكونية أو راكدة.
وتعتبر الحرية من القيم الأساسية بالنسبة للمجتمع المدني مثلما هي استقلاليته عن السلطات، والأكثر من ذلك، فهي ضمانة لفاعليته، وتبقى العلاقة جدلية بين المجتمع المدني والحكومة، فكلّما كان المجتمع المدني قوياً ومؤثراً ازدادت إمكانيته للاحتجاج والاقتراح والدعوة إلى الإصلاح والتغيير. والمسألة طردية أي أن استجابة الحكومة ستكون أكبر والعكس صحيح. وحسب روسو، فالحرية هي تأمين الإمكانية لكل إنسان في أن يحصل على سعادته بطريقته الخاصة، وبحماية من الإرادة العامة وقوانينها.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن فكرة المجتمع المدني ولدت ومشكلتها معها، خصوصاً علاقته بالسياسة، ولعل أهمية ذلك تكمن في أن حل التناقضات بين الجماعات يأتي من خلال الضغط السلمي، التراكمي، التدرّجي، وليس بالسعي للاستحواذ على السلطة وقهر الآخر، مثلما هي وظيفة كل حزب سياسي يسعى للوصول إلى السلطة باستخدام وسائل شتى.
إن شرعية وجود المجتمع المدني مهمة من حيث وظيفتها الاعتراضية السلمية، ذلك أن توسّع فكرة المجتمع المدني، فتح باباً لدخول شركاء جدد في الحياة العامة لا يشكّلون خطراً على الأنظمة القائمة، لكنهم يرصدون ويراقبون ويحتجون ويعترضون ويقترحون بدائل عما هو قائم، لدرجة أن بعض أطراف الحكومات أو أقطابها أحياناً تراه يصفق لهم بحرارة في فنادق الدرجة الأولى، لأن الأمر بتراكمه أنشأ فهماً مشتركاً وإن لم يتبلور بعد، من أن المجتمع المدني هو موّجه في إطار ما هو قائم، ولا يريد التدخل في السياسة أو إحداث تغييرات بالقوة، لكنه لا يلين بالدعوة إلى الإصلاح والتغيير، ويعتقد البعض أن دوره أقرب إلى دور الهيئات الأهلية في المجالات التطوعية، من أعمال خيرية وتربوية ومهنية ونقابية وغير ذلك.
أما بخصوص فكرة وجود مجتمع مدني عربي، فهناك من يشكّك في وجوده، وإن وجِدَ فهو غير قادر على فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته على قرارات الدولة، كما هي حالة أوروبا الغربية والشرقية، أو حالة بعض أقطار شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية. بمعنى آخر حسب قول الدكتور باقر النجار “من الصعب أن تجد مجتمعاً مدنياً في المنطقة العربية مستقلاً عن الدولة وقادراً على التأثير فيها”، ولكنه يقبل بفكرة وجود منظمات غير حكومية أهلية مستقلة عن الدولة في بعض البلدان العربية مثل: مصر، المغرب، لبنان، الكويت والبحرين، في حين أن الأقطار الأخرى لا تبدو فيها هذه المنظمات موجودة وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة.
إن الهدف من مناقشة مفهوم المجتمع المدني هو إخراج المصطلح من التأييد والرضا واليقينية حد التقديس عند البعض، ومن السخط والتنديد والاتهام حد التدنيس عند البعض الآخر، وتحويله إلى أمر تاريخي  اجتماعي ديناميكي ومتحرك، يمثل الطاقة الكامنة لدى فئات اجتماعية ومهنية واسعة للإسهام في صنع المستقبل السياسي والمشاركة في رسم السياسات من خلال نقد الخطاب السائد بين السلطة والمعارضة أحياناً، عبر حقل ثالث، يمثل خياراً مجتمعياً لتفعيل المشاركة وضمان الحقوق الإنسانية وتأمين الحريات العامة والخاصة.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى