المثنى الشيخ عطية

الحلقة رقم 5 من: رواية سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
تابع: دومينو الحرب
أفتح عينيّ. أمدّ يدي من فتحة ضيقة في لحافي الأخضر إلى زر تشغيل الراديو القابع على الكومودينو بجانب سريري. أضغط وأعيد يدي إلى الدفء. تنطلق إشارة بث الأخبار من راديو مونتي كارلو: “هجوم جوي صاعق على بغداد تبثه شبكة “سي أن أن” إلى العالم فجر هذا اليوم، ويقول عنه مذيعها أنه أشبه بأسهم نارية فوق بغداد التي لم يصدر عنها أي صوت، والخبراء يقدّرون كمية القنابل التي هطلت على بغداد بضعف كمية القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما”. أغمض عيني. أدفن رأسي في الوسادة. الصوت لا يريد أن يتلاشى. أمد يدي إلى زر تشغيل الراديو وأضغط. يتوقف الصوت وأدفن رأسي في الوسادة أكثر. هلام. لا أرى سوى الهلام. هلام ينتشر دون صوت، ويكبر، يكبر ليفجّر رأسي. أحس أنني محموم، وثمة ما يدفعني للتقيؤ. أقوم مسرعاً باتجاه مغسلة الحمام. أفتح الماء، وأفتح فمي ليسيل منه اللعاب كما الماء. أوجه الماء بكفي إلى ماء لعابي على أرضية المغسلة. أشعر بقليل من الهدوء. أرشق الماء على وجهي، وأغلق الصنبور. أتناول المنشفة وأضغطها بهدوء على وجهي. أعود إلى الفراش. أستلقي على ظهري فوقه لاهثاً. أحاول التنفس بعمق لأسترد هدوئي. أنظر إلى الساعة. لقد تأخرت. أرتدي ثيابي. أضع ركوة القهوة على البوتاغاز في المطبخ وأشعل النار. أعود لارتداء جاكيتي الأسود وحذائي. أنظر إلى ركوة القهوة وهي تغلي. أطفئ النار وأتجه إلى الباب. أنظر إلى الصالة. إنها واسعة على هذا الأثاث. واسعة وباردة. أفتح الباب وأخرج. أمر بجانب سور الورد. ليس هناك ما يدفعني لقطف زهرة. روحي بحيرة ساكنة ولا حركة. أصل بناء المجلة. أصعد الدرجات الخمس وأقف أمام المصعد دون أن أضغط الزر. أقف ولا أعرف كم وقفت. يضغط عماد زر المصعد دون أن يحيّي أحدنا الآخر، دون أن ينظر أحدنا في وجه الآخر. أحس بوجومه وسكون روحه مثل بحيرة ساكنة ولا حركة. ليس هذا عماد. يصل المصعد إلى باب المجلة. نخرج منه أنا وعماد. أحس بوجوده ويحس بوجودي. يشعر كلانا بحاجة لمن يسنده. ننظر في عيني بعضنا. يفتح يده لي ونتعانق. نترك بعضنا دون أن ينظر أحدنا في وجه الآخر.

أدخل مكتبي، وأجلس. أمرّ بجانب روزا التي تنظر إلي وتخفض نظراتها دون أن أنظر إليها أو أحييها. أجلس على الكرسي الدوّار. أدور نصف دورة لأواجه ساعد المكتب على يساري. أفتح الدرج. أتناول ملفاً وأضعه على المكتب. أتناول قلماً وأدق بطرفه على الورقة دون أن أكتب. أدق دون أن يرتسم في الصفحة السوداء التي هي مخي أي خط. أدق وأنظر في اتجاه المجهول. أحس بيباس حلقي. أتناول فنجان القهوة الذي كانت نينا قد وضعته دون أن أنتبه. أرشف رشفة قوية. أنظر إلى الساعة، إنها تقارب العاشرة. عليّ أن أسمع الأخبار. لن أقف جامداً كما الأبله هكذا. أتصل بروزا. ترفع السماعة وتنظر إلي عبر الزجاج.
ـ أريد الراديو.. أقول وتعتذر.
ـ إنه يخص رئيسة التحرير.. تقول، وأقوم من مكتبي غاضباً. أدخل غرفة عائشة المجاورة لي. أنزع مأخذ الراديو وأحمله إلى مكتبي أمام نظرات روزا التي تبتسم بخفاء. تصريحات لقادة التحالف، لقد تم القضاء على معظم القوة العراقية، والعراق لا يرد. بغداد لا يصدر عنها أي صوت. أي إحباط هذا الذي يخيّم على الجميع. أغرق في حزني وأتابع. يدخل حسان. يتجه إلى مقعدي ماداً يده لي. أقوم من مقعدي، ونتعانق بهدوء لكي نسند بعضنا.  يجلس بمودة ويستمع. يبدو وجهه حزيناً ومصدوماً. يحك لحيته غير الحليقة بيده الصغيرة وهو ساهم. أشعر بالرثاء له. أشعر بالرثاء لكلينا. أنسى إساءته لي. أحس أنني أسأت له أنا أيضاً، وأنظر إلى عينيه نظرة اعتذار. أنظر إلى روزا التي تنظر هي الأخرى بقلق. تدخل عائشة المجلة بطولها الفارع وتتجه إلى مكتبها. يدخل محمد خلفها. يقوم حسان إلى مكتبه، وتنظر روزا إلى الراديو على مكتبي. أرفع السماعة، أضغط على رقم روزا وترفع السماعة بسرعة.
ـ قولي لعائشة أن الراديو عندي إذا سألت.. أقول لها وتعتذر لعدم تلبيتها طلبي بإحضار الراديو.
ـ أتفهم الأمر وأتحمل أنا مسؤوليته.. أقول لها وأقوم من مكتبي لمتابعة أمور المجلة.

أنظر إلى الساعة. إنها الخامسة. أدخل غرفة الإخراج. آخذ الصفحات المنجزة وأجلس في مكتبي لتدقيقها. الصمت يسود المكان ولا صوت. لا أحد يرغب بالكلام. لقد طال القصف القلوب والألسنة. إلى متى ستصمد قلوبهم ويصمد قلبي. لقد خرجوا للغداء دون أن يحسوا ببعضهم وعادوا دون أن يحسوا ببعضهم. أحس أن كل واحد منهم بحاجة إلى من يكلمه لكن لا أحد يقوم بالمبادرة.
أضع الصفحات المنجزة أمام عائشة وأجلس أمامها بجانب محمد. أتأمل وجهها المتعب الأسمر الجميل الذي استكان وهي تقلب الصفحات.
ـ أعتقد أن علينا اختيار غلاف العدد. نحن في منتصف يناير، ولم يبق لدينا أي وقت.. أقول وتسحب عائشة نفساً من سيجارتها.
_ هل لديك أسبرين يا محمد. أخبر نينا أن تحضر لي شاياً بالليمون.
يرفع محمد السماعة ويطلب الشاي. يسألني ماذا أشرب وأطلب القهوة.
ـ أمر لا يصدّق. عاصمة عربية تختفي هكذا. تتبخر ولا صوت. هل تصدّق هذا هاني.. تقول عائشة وأصمت.
ـ هل رأيت ذلك في التلفزيون أمس.. تقول. الصداع يقتلني ولا حل. تتألم عائشة. تعيد شعرها الأسود الجميل الذي انسدل إلى الخلف. أي شلال متعب.
ـ لدينا موضوع عن عيادات الجن في مصر. يمكنك مراجعتهم لمعرفة سبب اختفاء العاصمة. أقول مخففاً من ثقل الجو. تبتسم عائشة، ويضحك محمد لكسر ما بداخله من وجوم.
ـ لم يكفنا منع المجلة في مصر بسبب موضوع ختان البنات والوأد.. يقول محمد وتضحك عائشة.
ـ حسناً ماذا لديك من موضوعات رئيسية للغلاف؟.. تسألني وأصمت. يعود لي شرودي. ماذا لديّ. هل بقي لديّ شيء أي شيء!!.
ـ أين ذهبت البارحة. قال لي محمد أنك تعاركت مع الإنكليز في البار ومن ثم اختفيت. أين ذهبت؟!.. تسألني عائشة.
ـ أين ذهبت!؟ لست أدري فعلاً أين ذهبت. محمد يبالغ.. أقول وأحاول الخروج من حيرتي. لم تسأليني عن الراديو. دعيني أحضره لك.. أقول وأغادر إلى مكتبي. الصمت يلف المجلة. الساعة تتجاوز السادسة. الجميع غادر المكان. ألتقط جاكيتي وأخرج. ألتقي بروزا أمام المصعد.
ـ شكراً على انتظاري.. أقول لها وترد..
ـ عليك أن تشكر المصعد.
ندخل المصعد صامتين لا ننظر إلى بعضنا. نتجه إلى الباب. أقول لها وداعاً وتقول لي الوداع. أمشي وحيداً وأنظر أمامي في الشارع الطويل. أين ذهبت البارحة!؟. أذكر صوت البحر. تلتمع الأمواج الفضية برأسي وهي تتقدم. تلتمع برأسي صورة بقعة خضراء تدور في الفضاء وتتقدم. تتقدم مني وتتجلّى أمامي حديقة كاملة وأصاب بالدهشة. أرى حديقة أمي أمامي كاملة بنباتاتها وحيواناتها وقمرها. أرى طفلاً يطعم صيصانه الحب بين يديه الصغيرتين. أرى حديقة أمي وتدمع عيناي. تدمع عيناي عبر الشارع الطويل الذي ينشر ضياءه كما ضباب بين عيني. تدمع عيناي وأرى نورا خلل الدمع. لوكنت هنا نورا. أقول لها لو كنت هنا في هذا الموت. أقول لها كم أحتاجك في هذا الموت. أقول لها كم أحتاج لدفئك في هذا الموت البارد.

أفرغ ما تبقى من كأس البيرة في جوفي. أخرج قطعة الـ 10 باوند. أضعها أمام الساقية. تعيد لي بقية الحساب. أزر جاكيتي ثم أعود لفتحه وأنا أخرج. الجو دافئ. أتجه صوب البحر. أمشي بمحاذاة شاطئ البحر على يساري. أصل ساحة المشي في نهاية الكورنيش ساهماً أفكر بما يحدث. تقول الأخبار أن العراق امتص صدمة القصف الأول لكنه لم يعلن عن أي قتلى. ضعف القنبلة الذرية على بغداد ولا قتلى. النظام العراقي لم يعلن عن أي قتلى. هل هذا ما تريده أميركا. كم هو غبي أن لا تعلن عن قتلاك بعد قنبلة ذرية. ولكن ماذا سيحدث إن أعلنت عن قتلاك. ماذا لو خاف جنودك من ضخامة عدد القتلى وانهارت معنوياتهم. يا إلهي. إنها مصيدة لئيمة محكمة، والانهيار محسوم كما لو كان قطع دومينو تنتظر الدور. كم مخيف أن تتصرف قسراً كما يريد عدوك…
ـ هاي. أنظر أمامي وأرى روزا. أنت لا تعبّر أحداً. تقول بابتسامتها الساخرة الودودة.
ـ آسف أنني لم أرك. أقول وتعرّفني على الفتاة الجميلة التي ترافقها بثيابها الرياضية.
ـ هذه لونا. أختي. تقول وأمد يدي باسماً.
ـ أنت القمر!.. أقول وتضحك.
ـ هانيبال مدير التحرير.. تعرّفها علي وتمد يدها مرحبة بي.
ـ أنا أقرأ لك. أسلوبك صعب قليلاً، لكنه جميل.. أبتسم وأشكرها.
ـ إلى أين تتجهان!؟.. أسأل.
ـ كنا عائدتين من مشوار الرياضة، وأنت؟
ـ أنا لا أعرف. هل تعيدان المشوار؟.. أقول.
ـ حسناً.. تقول لونا برغبة وتنظر إليها روزا.
أمشي بجانب الفتاتين الناعمتين. أشم رائحة عطر ساحر أخاذ.
ـ آسفة بشأن الراديو. أنت لا تعرف عائشة بعد. ربما لا تبدي انزعاجها لكنها تكون غير ذلك.. تقول روزا، وأبدي دهشتي.
ـ تريدينني أن أحذر. أقول وتنتبه روزا. تتراجع بضحكة رنانة.
ـ أعرف أن عائشة تودك، وأعتقد أنك الأكثر قرباً منها.. تقول بسخريتها الودودة، وأصمت. تحس روزا أنني أفكر بما تقول. وتعتذر..
ـ أنا أمزح معك فقط.
ـ أستغرب أنك لم تنسي قصة الراديو بعد مضي يومين. أنت تبالغين في الدقة إلى درجة التردد.. أقول وتضحك ضحكة تعيد بها الثقة إلى نفسها، وأكمل. أعتقد أن لونا توافقني على ذلك. وتضحك لونا.
ـ أنت أيضاً اكتشفت ذلك.. تقول وأضحك
ـ اجتمعتما علي.. تقول روزا بطيبة. وأحاول أن أعيد لها ثقتها.
ـ أعرف أيضاً أن ثقتك بنفسك مخيفة.. أقول وتضحك روزا.
ـ والله أنت المخيف.. وأضحك أنا.
ـ ما هي الأخبار؟ تسألني قاطعة الحديث.
ـ القصف مستمر على بغداد. لكن العراق كما يبدو امتص الصدمة.
ـ هل تجلسان؟.. تقول وتجلس على الكرسي الطويل، ومعها لونا. أجلس وأنظر إلى الأشجار المضاءة بالنيون وضوء القمر.
ـ امتص الصدمة!؟ لماذا تكذبون على أنفسكم، أحس أنها مؤامرة يشترك بها الجميع. تقول ويفاجئني رد فعلها. أحاول التخفيف من وقع ذلك بالمزاح.
ـ سوف يصل اللبنانيون إلى تفسير حتى ضوء القمر هذا بمؤامرة على الأرض.. أقول وتطعنني روزا بسرعة.
ـ بفضلكم أنتم السوريون.. تقول وأصمت. أفكر بعدم الاستمرار بهذا الحوار، وأصمت. تلاحظ روزا حزني وتعتذر.
ـ لم أقصد أي جرح أنت تعلم.. تقول ضاحكة.
ـ نعم أعلم. لست متضايقاً لكنني أفكر بالذي أوصلك إلى هذا.. أقول وتضحك.
ـ فضلنا. نعم إنه فضلنا لكنه فضلكم أيضاً.. أقول ونضحك متصافيين. أسترخي في جلستي وأتأمل القمر الذي يغطيه السحاب.

أضغط جرس باب نصير. يفتح لي سِراج الباب. أهلاً عمو. يقول وأدخل. يستقبلني نصير فرحاً وخلفه أحلام مستبشرة، ويملأ قلبها أمل تحاول احتجازه كي لا يهرب.
ـ جئت بوقتك. العراق ما زال صامداً أمام القصف، وهدد أيضاً بقصف تل أبيب. يقول نصير دافعاً أمل قلبه في اتجاه تحقيق هذا الأمل. وأصمت أنا. أفكر بكلام روزا حول المؤامرة.
ـ سوف أعد لك كأسك ريثما يحين موعد الأخبار. يقول ويتجه إلى المطبخ.
ـ يا رب. دعه يفعلها. تقول أحلام راجية السماء. سوف يقلب هذا موازين الحرب. سوف تدخل إسرائيل الحرب وتصاب الدول العربية الداخلة في التحالف بالإحراج. تقول أحلام وأفكر. نعم ربما تصحو جثة هذا المارد الممدد من الماء إلى الماء. أفكر. هذا وحده الذي سيقلب ميزان القوى، لكن هل سيصحو المارد ويقوم.
ـ تفضل. يقول لي نصير مقدماً كأس الفودكا بالكريب فروت وناظراً إلى الساعة التي قاربت الثامنة. يضغط زر الراديو وتشتعل شارة أخبار مونتي كارلو. أمتص كأسي بهدوء وترقب. ينطلق صوت فريدة الشوباشي باعثاً بقلبي الأمل.
ـ “تطور دراماتيكي في سير الحرب. صواريخ سكود عراقية تنفجر في تل أبيب والذعر يسود إسرائيل”. يا إلهي ينفر الدمع من عيني بصمت. تقفز أحلام مثل فتاة صغيرة طائرة فوق أجنحة الجنون.
ـ هيييي هيي هيي ضربها ضربها.. تصرخ وتقفز وتطلق زغرودة طويلة مع انبساط السعادة على وجه نصير الذي ينظر إلي ويده على خده. تنطلق زغاريد أحلام وينفر من عيني الدمع. يقفز أولاد نصير مهللين: النصر النصر. ياإلهي. ينفر من عيني الدمع ويسيل بصمت..
يهدئ نصير زوجته والأولاد كي يواصل سماع الأخبار. “الحرائق التي ولّدها الانفجار ترتفع في سماء تل أبيب”.
ـ عمو لماذا تبكي. يقول لي الولد الصغير. سوف ننتصر عمو سننتصر. لماذا تبكي. أنتبه إلى نفسي. أشيح بوجهي عنه وأمسح دمعي.
ـ أنا لا أبكي عمو أنا لا أبكي. أقول له وينزل دمعي السجين سيلاً يتفجر من صخور الأحزان التي تراكمت في صدري. يا إلهي دع هذا يكون. فقط من أجل فرحة هذا الصغير. فقط من أجل زغرودة هذه المرأة الرائعة الوادعة. ياإلهي. دع هذا يكون فقط من أجل فرحة هذا الصغير.

أتأمل أصابع عائشة الطويلة وهي تقلّب صفحات المجلة المخرجة أمامها. أختلس النظر إلى وجهها الأسمر وعينيها الوحشيتين كي أعرف انطباعها غير أني لا أخرج بنتيجة. تأخذ سيجارتها من المنفضة. وتسحب نفساً طويلاً.
ـ ما رأيك يا محمد!؟. تقول موجهة كلامها إلى زوجها الهادئ كعادته.
ـ جيدة. لدينا مواد عدد جيدة. لكننا مازلنا محتارين بموضوع الغلاف. ناقشت الأمر مع هانيبال ونحن متفقان أننا لا نستطيع إصدار غلاف حيادي في هذا الجو المتوتر الذي ينسحب على الجميع. سوف نحاول التركيز كمجلة نسائية على قضية المرأة والحرب، ولدينا تحقيق جاهز مخرج عن المرأة اللبنانية والحرب، لكنه يصلح برأيي كموضوع مساند لموضوع الغلاف الذي يجب أن يتناول موضوع الحرب وانعكاساتها على الأسرة العراقية، والأطفال العراقيين. الأحداث تسير بسرعة.  منذ أيام أطلق العراق صواريخ سكود على تل أبيب، وإسرائيل تهدد بدخول الحرب، والحكومات العربية المتحالفة مع أمريكا ترجوها أن تهدّئ إسرائيل خوفاً من انفجار الشارع العربي.. لا أعرف ما الذي سنركز عليه اليوم ويفاجئنا بتغيره ونحن نطبع العدد. أعتقد أن علينا إيجاد موضوع إنساني فلم يعد ممكناً التنبؤ بشيء وإن كان واضحاً أمامنا. يصمت محمد وتنظر إلي عائشة. أغمغم في البداية ثم أسترسل.
ـ أعتقد أن الأمر هو كما أوضحه محمد لكن لاستكمال الصورة أكثر أعتقد أن هناك شراسة في القصف تستغل أي حركة يقوم بها العراق لزيادة التدمير، وليس صحيحاً أن العراق لم يتأثر. الإعلام الأمريكي وخلفه الإعلام العالمي يعملان كمسحوق غسيل لتنظيف دم هذه الجريمة. سوف تكون هناك انعكاسات على الشعب العراقي وعلى المرأة العراقية، والأطفال العراقيين.. أعتقد أنه يمكننا المراهنة خلافاً لما يقوله الطرفان على أن هناك تدميراً سيعيد العراق إلى القرن التاسع عشر فعلاً كما صرّح الأمريكيون. يمكننا استخدام موضوعات مساندة أخرى مثل موضوع استفتاء المثقفين حول الحرب. لدينا مقابلة مع ميشيل بوتييه عن وقوف المثقفين الأوروبيين ضد الحرب وضعت لها عنوان: ” لأننا لسنا كلاباً “. لا أعرف إن كان أعجبك.
أقول لعائشة التي تهز رأسها وتبتسم.
ـ نعم إنه مناسب. أعتقد أنكما محقان. من سيعد موضوع القصف والإعلام؟.. تقول وتنظر إلي ويضحك محمد.
ـ تكفيني افتتاحية العدد.. يقول. ويسقط في يدي. يرن جرس التلفون. ترفع عائشة السماعة.
ـ مكالمة لك هاني من فرنسا. أين تحب أن تتلقاها. تقول وتبتسم. خذها من مكتبك.
أقوم على مكتبي مسرعاً. وتقول لي عائشة:
ـ سلم لي على نورا. اسألها عن رسومات قصة العدد.
أرفع السماعة بسرعة. أشير لروزا بيدي. شكراً. تضع روزا السماعة وتبتسم.
ـ أهلاً نورا. كيفك. كيف طارق. متى تأتين.. أقول قبل أن تلتقط أنفاسها.
ـ لماذا تريدني أن آتي.. تقول ضاحكة، وأضحك.
ـ أنت قلت لي أنك حصلت على عمل هنا.. أقول مدارياً انسكابي.
ـ نعم. لكن لماذا تريدني أن آتي.. تقول حاشرة إياي في الزاوية.
ـ هل قلت أنني أريد أن تأتي.. لقد سألتك فقط متى تأتين.
ـ يعني أنك لا تريدني أن آتي.
ـ الله أكبر. ماذا تريديني أن أفعل. حسناً أنا أريدك أن تأتي لأنني أحتاجك. وسأصرخ. أنا أحتاجك نورا أحتاجك.. أقول بصوت عالٍ، وتضحك روزا. تقوم من مقعدها مسرعة، وتغلق باب مكتبي المفتوح لتكتم صوتي الذي ملأ المجلة.
ـ تفضلي. المجلة كلها تسمعني. وهم يخرجون من مكاتبهم ويحيونني. هل أنت مبسوطة.. أقول وتضحك.
ـ ما الذي قال لك أنني مبسوطة.
ـ يعني مبسوطة.. أقول وتصمت. يسود الصمت بيننا يبدو أننا تمادينا
قليلاً. أخشى أن أفقدها.
ـ نورا. أين أنت.
ـ نعم هاني أنا معك معك.. تقول.
ـ مشتاق لك. وسأموت إذا لم تأتي.. أقول وتصمت.
ـ أنت لا تشجعني بهذا على المجيء إلى قبرص. أنت تعلم. ربما سيتأخر حضوري إلى الربيع. مشاكلي مع يوسف لم تحلّ. إنه في عمّان الآن، وأخبرني أنه مصرّ على أخذ طارق كشرط للطلاق. لكننا اتفقنا على تأجيل هذا الأمر. أخبرته أنني أريد السفر إلى قبرص للعمل، ولكنه عارض نقل ابنه من باريس. إنه ينوي اللحاق بي إلى هنا إن أتيت. تقول وأفكر بيوسف. كيف استطاع أن يفقدها. كيف خانها. أعلم أنه يحبها حتى الموت، وسيفعل أي شيء لاسترجاعها. نحن الرجال أغبياء حقيقة. لكننا لا نستطيع أن نكون غير ذلك، والنساء يحببننا على هذه الصورة لكي يمتلكن الحرية التي سلبناهن. هل تنساق نورا إلى منطق النساء نفسه. هذه المرأة تعتز بحريتها وكيانها، إنها رسّامة وتعلم أنها مميزة. تحب الرجال المميزين، وقد انخرطت حتى الخطر بعالمنا. أعلم أنها تحب يوسف. وقد وضعته أمام خيارات صعبة على رجل. سوف لن أشك أنها هي التي دفعته بتصرفاتها للبحث عن حضن امرأة أخرى رغم أنها مستعدة أن تقتله على ذلك. ياللنساء ويالنا نحن الرجال. أي مأزق وضعنا أنفسنا فيه بهزيمتهن. وأنا، أنا الشقي بين جميع الرجال. لقد أحببت فتاة طفولتي، ورتبت الحياة لنا أن تكون لآخر. أعلم أنها تحبني، لكنني لا أستطيع تحديد ماهية هذا الحب. أفكر بيوسف. إنه رجل مميز وأحترمه، غير أني أحب المرأة التي يحب، وما ذنبي أنا، لم لا يكون هو الدخيل، فهي فتاة طفولتي.
ـ حسناً نورا. اهدئي. سنجد حلاً. كيف هي أحوالكم في باريس.
ـ الجميع قلقون هاني. لقد بدأ الفرنسيون بطرد بعض الذين وقفوا ضد الحرب، والأحوال المعيشية تتردّى. الكل متضايق وقلق على المستقبل.
ـ وأنت نورا. أنت. هل تحتاجين إلى شيء؟
ـ شكراً هاني. أحوالي جيدة ويوسف لا يقصّر من هذه الناحية..
ـ حسناً نورا. عائشة هنا تسلّم عليك. وتسأل عن الرسومات.
ـ لقد سلّمتها لسامح البارحة وأعتقد أنه أرسلها لكم. بالمناسبة هاني وضع سامح المادي سيء. أنت تعلم ذلك. لقد رفض العمل في الصحافة الخليجية ووقف ضد الحرب. ليس لديه دخل سوى دخل مراسلاته لجريدة القدس، ودخلكم. لكنه لم يستلم منكم شيئاً منذ مدة. تقول وتعتصر قلبي. ماذا جرى لعائشة!. كيف يتصرف هؤلاء المثقفون!.
ـ سأخبر عائشة بذلك. وسأتابع إرسال النقود بنفسي. أعتقد أن عائشة تشكو من التمويل كما أخبرني نصير. أنظر باتجاه روزا المتشاغلة بالضرب على آلتها الكاتبة. إنها تسخر من ثقتي بعائشة، وقد حاولت أن تحذرني مراراً دون أن تتورط بذلك.
ـ ماذا هاني. أين أنت.
ـ أنا معك نورا. سأدبر هذا الأمر.
ـ حسناً هاني إن هذا هو المهم الآن. سلم لي على الجميع.
أودع نورا، وأفكر بسامح. صديقي الجميل، الصحفي الذي لم يبخل على صديق بمساعدة، ولا على مجلة جادة متطورة بتحقيق. ماذا علي أن أفعل. أفكر أن الأمر يحتاج إلى بعض السياسة. أقرر أن أخبر محمد اليوم بوضع سامح أمام نصير بكل براءة، ولا أعتقد أنه سيتردد مع عائشة بإرسال النقود. أنا أعلم أن محمد وعائشة إنسانان جيدان وقد قال لي نصير الذي يعرف أحوالهما أنهما يعانيان من انقطاع التمويل، وليس هناك أي مورد من الإعلان، وأنهما وعداه خيراً مع مشروع مشاركته بطبع الكتب.. أعتدل على الكرسي. أضع يدي على المكتب وأطبق كفّيَ راحة لراحة واضعاً سبابتهما على فمي في حركة تأمل كما راهب. أنظر إلى روزا ساهماً وتنظر إلي ثم تزيح نظراتها عني إلى آلتها الكاتبة. أفكر بأنها خمّنت ما أريد القيام به. أغمض عيني. أغرق في لون أسود. أضغط بشفتي على أصابعي قليلاً وينقلب الأسود إلى لون البرتقال. يتكاثف اللون ويتبدد، يتبدد ليتجلّى أمامي وجه نورا. وجه شجرة المشمش إياه المنمّش بتويجات بيضاء. وجه شجرتي التي تحيطني بحنانها حتى التلاشي.

أشرب كأس الحليب بسرعة. أضع الكأس على طاولة المطبخ المستطيلة البيضاء. إنها كبيرة بالنسبة إليه. أنظر إلى ركوة القهوة في المجلى. أنظر إلى الساعة. ليس هناك وقت. لو كنت غسلتها في المساء، ولكن لا بأس. سأحتسي قهوتي في المكتب. إنها الثامنة إلا عشر دقائق. بطني تمغصني قليلاً. لقد شربت الحليب بسرعة. هيا. أنظر إلى المفتاح في الباب من الداخل. علي أن لا أنساه. أفتح الباب وأنظر إلى النافذة المشرقة بالشمس. إنه يوم مشرق. ولكن لماذا تستطيل الصالة هكذا. إنها كبيرة وباردة. الأثاث صغير عليها. كيف أكسوها بما يدفئ. أخرج وأغلق الباب خلفي. ياإلهي، قليلاً. أضع رجلي على الباب كي أمنع انطباقه ولكن دون جدوى. لقد نسيت المفتاح معلقاً في قفله من الداخل. ثلاثة باوند أخرى. سوف يجني الإطفاء ثروة من ذاكرتي المثقوبة. أضحك. علي أن أسرع. المصعد في الطابق التاسع. ستكون رحلة طويلة. أهبط الدرج بسرعة. إنه طابق واحد لا أكثر. تستقبلني الشمس في الشارع. إنها دافئة لكنني أشعر بالبرد. الطريق ليست طويلة. علي أن أسرع. أزهار البيوت المطلة من أسوارها تغريني بالتوقف وقطف زهرة. لا وقت، ولكن.. زهرة. زهرتان على الأقل. أقطف ثلاث زهرات. سوف أدفئ مزهريتي بالأصفر هذا اليوم. الثامنة وخمس دقائق. أنا على الوقت تقريباً أمام البناء. ألمح مدير شؤون الموظفين الذي أدعوه رجل الجليد في نهاية الشارع. إنه متأخر عن الموظفين. ألوح له بيدي. أنت شاطر في إصدار قرارات الالتزام بوقت الدوام ولكنك تتأخر. كان علي أن أتأخر لأشعره بخيبة كوني خارج سلطة قراراته. لكن ماذا أفعل. ليس لدي الوقت. أطلب المصعد.
يهبط ضوؤه أمامي. لن أنتظر الرجل المحنط. يا إلهي. إن رائحتها في الداخل. هذا أول دفء. سأنتظر قليلاً قبل أن أضغط الزر. مزيداً من رائحة الدفء، ولكنها تتسرب، والرجل الجليدي قادم. لا أريد اختلاط رائحته برائحتها. سأتنفسها خالصة بذاتها. أضغط زر المصعد. أسحب الرائحة معي. أدخل المجلة. إنه صوت مفتاحها. سأمر بجانبها مباشرة. صباح الخير. تجيبني مشرقة صباح الخير. أشم وأشكرها على الدفء. تستغرب ذلك ثم تضحك. تدخل مكتبها. أراقبها خفية لكنها تعرف أنني أراقبها. تنشغل بترتيب مكتبها محمرة الوجه من مراقبتي. تتجه إلى آلتها الكاتبة. تزيل غطاءها عنها، ثم تتجه إلى الفاكس. تأخذ الأوراق المرسلة وتقرأ. تنظر خفية باتجاهي عبر الزجاج. أرفع أزهاري من على المكتب. أضعها في المزهرية. أنظر باتجاه الفتاة التي تشعرني قصداً أنها تراني. أحييها بيدي. أنا أيضاً أراك. وتضحك.
“مهرجان الخليج. أسهم نارية وجثث”. هذا هو عنوان الغلاف. معرض أسلحة أميركي في اللحم العراقي الحي. أقول لعائشة وأنا أضع العنوان أمامها. لكن أين الموضوع. تسألني عائشة. إنه هنا في الرأس أقول لها.
لا أعرف إلا أنني أمتلك صورة الرئيس الأميركي يجمع مساعديه. “أون تايم”. يصب كأساً ويجلس. على الوقت بالضبط يرفع الريموت كونترول ويفتح التلفزيون على قناة السي أن أن. ويبدأ البث. أسهم نارية تتطاير في سماء بغداد. يقول المذيع. لم أر في حياتي مثل هذا المشهد. هذا بهيج. بهيج لكنه يعني ضعف القنبلة الذرية التي ألقيت فوق هيروشيما ولا قتيل. العراقيون لم يعلنوا عن أي قتيل. إنها الحرب النظيفة بالأسلحة الأكثر دقة ونظافة. بوش يخلع قفازاته البيضاء وينظر إلى مساعديه بابتسامة عريضة. ما رأيكم. هذا الذي برأسي الآن. هل تشعرين بالبرد. إنها دافئة، تقول لي عائشة. الصالون لدي بارد. إنه كبير. أفكر أن أفرش الأرضية. هل تريدين شيئاً الآن. علي أن أخرج باكراً لاستدعاء الإطفاء كي يفتحوا لي الباب. المفتاح مرة أخرى؟ تسألني عائشة وهي تضحك. لماذا لا تترك المفتاح لدى الإطفاء وتنهي المشكلة. إنهم جيرانك. كنت فعلت ولكن المفتاح هذه المرة في الباب من الداخل.
ـ كيف تبقين على عطر الورد فواحاً في مكتبك؟!.. أقول لروزا التي تنظر إلي من خلف مكتبها متوقعة مني هذا ومبدية استغرابها في الوقت نفسه.
ـ لم آت لأستدفئ بالعطر فقط. أحتاج إلى دليل في التسوق. اليوم سبت وقلت أنك لست مشغولة بعد الظهر. إذا لم تكوني مشغولة.
ـ لماذا لا تطلب من حسان. إنه صديقك الآن. انظر قبل أن يغادر مكتبه.. تقول روزا بتهكم. وأنظر إليها محاولاً سبر داخلها.
ـ حسناً أشكرك على النصيحة.. أقول وأنا أخرج.
ـ انتظر. إنني أمزح. تقول روزا. الساعة الثالثة عند كشك التلفون في الكانيكا.

أغرق مستمتعاً في زحام أسواق ليماسول.
ـ هل تحبين الزحام؟.
ـ أحياناً.
ـ أنا أحب زحام الأسواق الشعبية. أحب الاحتكاك بالبشر. أقول لروزا التي تضحك وهي تكشفني مختلساً النظر إلى أجساد السائحات الممشوقة المدوّخة.
ـ خاصة البشر الشقر!.. تقول ضاحكة. وأضحك.
ـ إنه مهرجان حقيقي. لكنني ما زلت أشعر بالبرد. لقد أتعبتك معي. آسف لأن ذوقي صعب.
ـ لا عليك. المهم أن تجد طلبك. دعنا ندخل هنا. تلك أنواع أخرى من البسط الشعبية. ما رأيك. أتأمل البسط. البائع يتحفز بانتظار إشارتي. أتخيل مدى انسجام البسط مع الأثاث. مع لون الجدران. مع أرضية صالون البيت الواسع البارد، ولا أصل إلى حل.
ـ هل لديك أنواعاً أخرى. أقصد ألواناً أخرى. زخارف أخرى. أسأل البائع الذي يقابلني بلا، هذا هو الموجود. تتأملني روزا وأنا أتلمس البساط.
ـ إنه لن يدفئ صالوني بهذا اللون. لقد أتعبتك. أقول لها معتذراً. سأتوقف عن البحث. دعيني أكفّر عن ذنبي بدعوتك إلى فنجان قهوة. هل تعرفين مقهى هنا.
تنظر إلي روزا. تشكرني.
ـ لاداعي لذلك. أنا أريدك فقط أن تحصل على طلبك. تقول وأرجوها أن تقبل.
ـ حسناً هناك مقهى قريب.. تقول روزا، وندخل إلى المقهى.
ـ أنت صعب الإرضاء فعلاً. لولم أعرف أنك تعرف ما تريد لقلت أنك متردد.. تقول روزا متأملة إياي وأنا أحتسي قهوتي.
ـ أنا أعرف ما أريد!؟ هل تظنين ذلك حقاً!؟
ـ نعم. ويعجبني أخذك للقرار. أذكر عندما جلست إلى مكتبك أول مرة ولاحظت أن الأقلام التي كانت على المكتب هي نفسها الأقلام التي استعملها سابقك، قمت من مكتبك وسفحتها أمامي قائلاً بأدب أرجو أن تضعي على المكتب أقلاماً جديدة كلياً. تقول وأنظر إليها بدهشة. نعم. قلتُ في البداية أنك صاحب بوزات، لكني تأكدت من صدقك عندما اختلفت مع عماد.
ـ هل هذا يعني أنني أعرف ما أريد!؟.. أقول وأتأمل وجهها المحرج من نظراتي. نعم أنا أعرف ما أريد أحياناً. لكن صدقيني روزا. أنا لم أنصب فخاً لإحضارك إلى هنا. كنت أبحث فعلاً عما يدفئ صالوني، واعتمدت على ذوقك. أقول لها وتنظر إلي محرجة. أدرك حماقة اعترافي.
ـ ليس هذا اعترافاً يقال لفتاة فأرجو أن تعذريني.. أقول.
ـ لا عليك، أنا أفهم هذا وأقدره، لو كنت عرفت أنك تنصب لي فخاً لما خرجت معك. تقول وتضحك. لكن هذا يزعجني قليلاً. نعم لماذا لا تنصب فخاً؟.. تقول وتتورد بالضحك، وأضحك من قلبي أضحك.
ـ أخشى أن لا تخرجي معي عندها.
ـ وما أدراك؟.. تقول ضاحكة ثم توقف المزاح. لا عليك. أنا راشدة، لكنك الوحيد الذي خرجت معه من المجلة. دعني أوضح لك. أعلم أننا راشدان لكن من في المجلة ليسوا كذلك. قد تقول أننا في ليماسول، في بلد حر، لكن صدقني إن كلاً منا يحمل قريته في داخله، ولهذا تراني حذرة. تقول وأنظر إليها أن تكمل.
ـ لن تستاء إذا طلبت منك أن لا نخرج معاً. لا تسئ فهمي. لقد خرجت معك لأنني أحسست بضرورة ذلك، أحسست بحاجة صديق إلى من يرافقه. أنا أعزك كصديق، وإن كنت سورياً!!.. تقول جملتها الأخيرة مداعبة لي وتضحك. سوف أدعوك لزيارتنا في البيت، وسوف أعرّفك على أمي وأختي.
أضحك مرتاحاً. أحس بالدفء. إن هذا المكان دافئ. إنه مكان جميل. أقول ذلك لروزا. هادئ وجميل. أتأمل المكان. أتملى صورة الطاولات الموزعة ببساطة. أتملى ألوان الشراشف الكارو بالأبيض والأزرق مع الكراسي البيضاء التي تشيع في المكان دفء جوّ يوناني بحري خالص. أين كان هذا غائباً. لمَ لم أكتشف كل هذا في جميع صولاتي وجولاتي في بارات ليماسول. لمَ لم أكتشف دفء هذه الجنة. يا لهذه المرأة التي تمنحني دفأها وصداقتها. أحتسي قهوتي باطمئنان. وأنظر إلى لطخة الأحمر الجميل على فنجان روزا بحيادية.
ـ لم تقل لي. لماذا اخترت بيتاً واسعاً للسكن. استوديو كان يكفيك ما دمت وحيداً. تقول وأنظر إليها. أفكر قليلاً. أحس بالارتياح أن أصارحها بأحلامي.
ـ لقد فكرت فيه على أنه بيت عائلة. لقد فكرت بالزواج.
ـ من نورا؟.
ـ نعم. وفكرت بهذا البيت أن يكون جنتنا الصغيرة. هذه غرفة نومنا وهذه غرفة ابنها طارق الذي سيكون ابني. لقد فكرت أن أستقر مع المرأة التي أحس بالدفء بين يديها. ليتك تعرفينها. الدفء الذي يشع مني أحياناً يشع عندما أفكر فيها، لقد مررت بما جعل حياتي قارة من الجليد، ودفؤها وحده هو من بقي يرافقني. لقد ملأتُ البيت بأحلام دفئها، بحنان وجودها، بضحكات ابنها. رائحة المطبخ، لن تصدّقي أنني أشم فيها رائحتها رغم أنني لا أطبخ. السرير. ياإلهي. لقد أحضرت معي من باريس لحافاً أخضر بلون الفستق الذي أحس أنه لونها. لقد اخترت أنعم ما وجدت في باريس كي أحس بوجودها قربي عندما أنام. لكنني لا أعرف ما الذي تغيّر. منذ فترة أحس بالبرودة. الصالون بالذات بدا لي كبيراً وبارداً. لم أعد أحس بالأمان، ولهذا تريني أبحث عن بساط شعبي لفرش الأرضية دون أن أهتدي إلى ما يشعرني بالدفء. أقول لروزا وأحس أنني أتمادى بتدفق عواطفي أمامها. هل يحق لي ذلك.
ـ هل يزعجك حديثي عن خصوصياتي.. أقول لها معتذراً.
ـ بالعكس. إنما لم تقل لي.. هل هي سورية… مثلك؟.. تقول مداعبة.
ـ بالمعنى السيء أم الجيد؟.. أقول مجارياً إياها في دعابتها.
ـ بالمعنيين.. تقول ضاحكة وتتابع.. أنت تعلم. لقد عانيت تجربة سيئة مع السوريين.
ـ أعرف أن من تعنين ساعدوكم. أنتم أحضرتم الوحش إلى بيوتكم!؟ أو أنتم فرحتم بإحضار الأمريكيين للوحش إلى بيوتكم!؟
ـ هذا ما بدا في البداية، لكن الوحش هدم بيوتنا على رؤوسنا!؟ تقول حزينة وغارقة في الذكرى.
ـ أنا آسف روزا.. أنت تعلمين أن شعبنا ليس له دخل بذلك.
ـ عندما يتهدم بيتك على رأسك لا تعود تميز بين جيد وعاطل.. لقد هدمت مدافعكم بيتنا. ولولم نختبئ أنا وأمي تحت السرير لمتنا.
ـ أنا آسف روزا.. لكنها ليست مدافعنا. إنها مدافع النظام الذي تعاملت معه عصابات طوائفكم. وأنت نفسك تعرفين ذلك وتتصرفين على أساس ذلك. معظم أصدقائك هم سوريون.
ـ من قال ذلك!؟
ـ لا أعرف! لكنك تدافعين عن حسان، وأعتبرك صديقتي.
ـ أنت تتوهم.. تقول ضاحكة ومداعبة ومؤكدة ذلك، وتتابع.. إنما لم تقل لي كيف التقيت بنورا!؟.. تقول وتعيدني إلى شرودي. أسترجع وجه الفتاة الصغيرة المذعورة هرباً وبيدها مجلاتي.
ـ إنها صديقة طفولتي. ابنة صديقة أمي التي تعرّفتْ عليها قبل أن أولد، في مدينة الرقة القريبة من مدينتنا. كانت أمي المغرمة بالحكايا والأساطير تزور أحد أولياء الله في الرقة واسمه أويس القرني عندما تأخر حملها بي، وشعرتْ بالتعب فراجعت الطبيب. وكان والد نورا. هم في الأصل ليسوا من الرقة. كانوا من مدينة حماة، والتقى الغرباء بالغرباء ونشأت صداقة متينة بين أمها وأمي… مع مرور الزمن أصبحت نورا صديقة خالتي التي تكبرها بسنتين، وكانت هي وخالتي تتآمران علي، وتسرقان مجلاتي… توفيت خالتي صبية في حادث أليم، وعاد أهل نورا إلى حماة. تفرقنا، ومضى الزمن… في الجامعة كنت مجنوناً وأعلنت في شطحة من شطحات جنوني  أنني مرتحل لأتزوج مصممة غلاف رأيت غلافها صدفة دون أعرفها، ولم أكن أعلم أنها هي نفسها نورا. التقيت بها، وعلمت أنها من أعلنتُ عنها لكنها كانت قد تزوجت.. ومضى الزمن… التقيت بها بعد ذلك في باريس. كانت علاقتها بزوجها على وشك الانتهاء، فقررت أن أعود إلى حياة فتاة طفولتي.
ـ واو.. إنها أشبه بفيلم هندي. تقول وأضحك.
ـ لواطلعت على التفاصيل الأسطورية لهذا الفيلم ستصابين بالدهشة. أنا أعمل على تسجيل أحداث وتطورات وعقد هذه العلاقة كرواية. وربما ستكونين أحد أبطالها. كتبت ووضعت الكثير من المخططات لبنيتها، لكنني أشعر بتجمد أحاسيسي. ليماسول بدأت تجمدني بالقلق.
ـ أنا أيضاً أحس أن ليماسول لم تعد كما كانت من قبل. أحس أنها أقل دفئاً من قبل.. لا أريد ان أحبطك، لكنني أحس أن تركك لباريس كان خطأ فادحاً. كان عليك أن تحتمل. لا أريد أن أحبطك لكنني أخشى أنك لن تجد البساط الذي تبحث عنه.
أنظر إلى نصير. جيئة وذهاباً يروح في الصالة متابعاً صوت فريدة الشوباشي المقاتل من إذاعة مونتي كارلو. الحرب البرية بدأت بعد أن أنهك القصف بغداد. الجيش الجمهوري العراقي الذي أوصل الإعلام الغربي قوته إلى الأسطورة يتراجع. البنتاغون يضرب ستاراً من الصمت على العمليات. لا أحد يعرف ما يحدث، ولا أحد يستطيع إحصاء عدد القتلى من الجانبين. أتأمل نصير ملفوفاً مثل اسطوانة بالروب ديشامبر الكارو. جميع الحلبيين يتشابهون في الشكل!.. أقول في نفسي دون أن أضحك هذه المرة. أتأمل لحيته الطويلة وشعره المنكوش من الخلف. تنظر أحلام إليه منتظرة أن يعقب على ما يحدث، أن يريحها بتعليق. أقرأ ما تفكر فيه. ها هي حربك البرية التي كنت تنتظرها لكي يلقن العراقيون أميركا الدرس قد بدأت، ولكن على أي أساس. يحس نصير بنا جميعاً ننظر إليه.
ـ لن يستطيع الأمريكان تحقيق انتصار في الحرب البرية. أعتقد أنهم يخافون من تكلفة القتلى. وأعتقد أنهم سيتوصلون إلى تسوية مع صدام. يقول مستمراً في تحليله الهادئ المطمئن. وتنفجر أحلام.
ـ يكفي نصير لقد فلقتني بتحليلاتك. أرجو منك أن تصمت، تصمت. تقول منفجرة بالبكاء وهي تغادر الصالة.
ينظر إلي نصير مغتصباً ابتسامة. أنظر إليه متأثراً من خيبة أحلام.
ـ سوف أضع آراء محللينك العسكريين في مؤخراتهم.. أقول له منفجراً بالغيظ. عليك أن تعود إلى الواقع. زوجتك آمنت حتى الموت بتفاؤلك الساذج: “لن تقع الحرب. الأمريكان يخشون من عدّ الجثث. لن يستمر القصف. هناك رأي عام عالمي. الحرب البرية سوف تجبر الأمريكان على التراجع. الحرب البرية وقعت. سوف تطلب أمريكا تسوية مع
العراق”!! أفق لنفسك يا نصير، وارحم زوجتك. ثمة من يقول أنهم دفنوا أكثر من مائتي ألف جندي عراقي معظمهم أحياء لا حول لهم ولا قوة بعد هذا القصف في الصحراء. لم يعد هناك جيش ليقاتل بعد هذا القصف.
ينظر نصير إلي مستغرباً. ويجلس أمامي على الكنبة المفردة. يتناول كأس الفودكا. يشرب قليلاً. يغصب نفسه على الابتسام.
ـ الشعراء والنساء يفكرون بقلوبهم. عليك أن ترى واقع القوى على الأرض.. يقول لي. وأفكر أنه لا فائدة ترجى. كيف أوضح له سذاجة تفاؤله. أحس أنه يدافع عن نفسه بهذا التفاؤل كي لا ينهار. أفهم فجأة طريقته في المقاومة. أتعاطف معه، ولكن هناك بشراً آخرين يؤذيهم هذا الأسلوب. كيف أتصرف مع نصير.
ـ اسمع يا نصير. كلنا نتألم بشكل أو بآخر. كلنا مصدومون ومفجوعون. أنا لا ألومك على طريقتك في مقاومة الانهيار ولكن علينا أن نكون واقعيين كي لا تنقلب المقاومة إلى تحطم للذات أمام مواجهة الحقيقة. أنا شاعر. نعم لكني أيضاً إعلامي وأفهم اتجاهات خطاب فريدة الشوباشي. أنا لا أعتبره تفاؤلاً ساذجاً. لكني أعتقد أنها تفهم الحقيقة، وهي توجه خطاب تماسك إلى الذات. تستنفر عناصر المقاومة في الذات من خلال مقابلاتها مع المحللين العسكريين. لكن أن تحوّل هذا أنت إلى عنتريات، فتلك مصيبة. انظر إلى رد فعل زوجتك على إيمانها بتحليلاتك. أقول وأنظر إليه راجياً أن يتفهم. يشيح بنظره عني ويسترخي على الكنبة.
ـ هل تريدني أن أتركك الآن. أقول له.
ـ لا لا . دع الأمر طبيعياً وقد يساعد وجودك أحلام. يقول. حسناً، لنشرب نخب مقاوماتنا.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أيها الكاتب المبدع

    انها رواية جميلة، وتستحق المتابعة، شكرا لك على نشرها، وشكرا لصفحات سورية التي عودتنا على الجديد دائما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى