صفحات ثقافية

الحداثة» لـبيتر غاي… الغرق في ماء الحياة

null

قال رامبو ذات مرة عن الفترة التي أعقبت كوميونة باريس «هذا زمن القتلة». مما لا شك فيه أن فكرة الانتهاك تشكِّل جوهر الحداثة، والأمثلة التي تؤيد ذلك كثيرة مثل قول أندريه بريتون إن «أبسط عمل سوريالي يتمثل في اندفاع الشخص نحو الشارع، حاملاً بيده مسدساً، ويطلق النار بشكلٍ عشوائي بين الحشود المتواجدة»؛ وتصوير «أوتو دي» لقاتل مهووس وهو يقطِّع أوصال امرأة، ويلقي بها هنا وهناك. إن تشويه الرمز والقيمة والتاريخ وحتى الذات كان أمراً في غاية الأهمية بالنسبة للحداثويين. صرخ نيتشه ذات مرة قائلاً «أنا ديناميت». وأيَّد لويس آراغون هذه المقولة بقوله إنه لايستطيع أن يتخيل شيئاً أجمل من كنيسة وبعض الديناميت.

في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان «الحداثة: إغواء الهرطقة من بودلير إلى بيكيت وما بعده» ينظر بيتر غاي إلى الحداثة باعتبارها تجمعاً مكوَّناً من بعض المفكرين والفنانين الذين يسعون نحو التحرر، وليس بوصفها إطاراً فكرياً واسعاً يتسم بكم هائل من القلق والسخرية. وفي الوقت الذي يحاول فيه الابتعاد عن وضع تعريف للحداثة، بسبب التناقضات الموجودة بين الحداثويين أنفسهم، إلا أنه لايستطيع أن ينظر إلى الغريزة الحداثوية إلا باعتبارها دافعاً إيجابياً من حيث الجوهر. وفي هذا الكتاب يسلِّم غاي جدلاً أن الليبرالية هي المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه الحداثة، بالرغم من أن وصول الحداثة إلى ذروتها، بين 1890 و1930، تزامن مع تأزم الليبرالية في الفكر الاجتماعي والسياسي. إلا أن غاي يصنِّف أبطاله بأسلوب تقليدي، حيث يضع الفنانين في الصدارة، يأتي بعدهم الأدباء، ثم الموسيقيين، بعد ذلك يضع المهندسين والمصممين، وأخيراً المسرحيين والسينمائيين. لكن المفارقة هي أن الحداثويين أنفسهم هم أول من سيسخر من هذا التصنيف، لأنهم كانوا يسعون إلى تدمير الفئات الثابتة والتعاريف الجاهزة، وإلى مزج الأنواع الفنية والأدبية بعضها ببعض لبث الطاقة والحياة بداخلها. على سبيل المثال كان كاندينسكي، الذي يُعتبر أول من جرَّب ممارسة الفن التجريدي الصرف، يعزف على البيانو والتشيلو ويكتب الشعر وينظِّر للعلاقة بين الألوان والموسيقى. كما كان الرسام كوكوشكا يكتب من أجل المسرح، لكن الكاتب المسرحي بول كورنفيلد يرى أن مسرحيات كوكوشكا ليست إلا تنويعاً على لوحاته، والعكس صحيح.

أسئلة الحرب

بالرغم من المتعة التي نشعر بها عندما نقرأ كتاب «الحداثة»، وبالرغم من تنوع الأعمال الحداثوية التي يقدمها لنا بأسلوب جذاب في هذا الكتاب، مثل أعمال بودلير وإنسور وبيكيت وبينتر، إلا أنه لابد من القول إن غاي يتعمد التعتيم على الجوانب المظلمة للحداثة، والإضاءة فقط على الجوانب المشرقة التي تحفل بالحياة. يرى العديد من النقاد أن غاي لم يكن موفَّقاً في اعتباره أن الحرب العالمية الثانية طرحت أسئلة وجودية أعمق من تلك التي طرحتها الحرب العالمية الأولى. فالحربان، برأي المؤرخين، كانتا كارثيتين بنفس القدر، وتشكلان جزءاً لا يتجزأ من الأزمة التي ألقت بظلالها على الحضارة الغربية. بل إن الأعمال الفنية والأدبية التي جاءت كرد فعل على ما سبَّبته الحرب العالمية الثانية اتسمت بقدر من الأصالة أقل بكثير مقارنةً بالأعمال التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى. فلم يكن أداء جون كايج للصمت الموسيقي، على سبيل المثال، إلا تنويعاً على الفكرة الأصلية التي جاء بها الرسام ماليفيتش قبل ذلك بجيل كامل. وعندما قام جيم داين برسم سيارة ومحوها ثم رسمها مرة أخرى، فإنه كان يكرِّر ما قام به بيكابيا على المسرح في العام 1920.

وأثناء حديثه عن تي إس إيليوت، يكتفي غاي بالإشارة إلى الطبيعة المتناقضة لكثير من العوامل التي أدت إلى انطلاق الحداثة، دون أن يصل إلى درجة الاعتراف بأنه ثمة علاقة عضوية بين الحداثة السياسية والحداثة الثقافية. بالرغم من أن هتلر لم يكن يقرأ كثيراً، إلا أنه أشار في إحدى المرات إلى مقطع من كتاب لإيرنست شيرتل حول موضوع السحر يقول فيه: «من لايحمل بداخله بذوراً شيطانية، لايمكن أن يلد عالماً جديداً»، وقد عبَّر بريتون ودجي وبونويل ودالي عن نفس الفكرة تقريباً في تلك الفترة. وليس سراً أن عدداً من أبرز الحداثويين كانوا معجبين بالعنف الذي يرافق الحروب لأنه يساعد على التخلص من سطوة الماضي. في إحدى المرات قال الشاعر الروسي المغرم بالبلشفية فلاديمير ماياكوفسكي: «أنا أكتب كلمة ‘العدم’ على كل شيء أُنجز من قبل».

الحداثة فقدت زخمها

ويرى غاي أن الحداثة فقدت زخمها وقدرتها على الإلهام بعد أن حظيت بقبول واسع النطاق. وكان هذا نتيجة حتمية بعد أن أصبحنا نشاهد الفن الحديث في أروقة السلطة وبعد أن دخل مسرح العبث إلى المناهج الجامعية. كما يرى أنه عندما يرحل غونتر غراس وغابرييل غارثيا ماركيز، فإن آخر ملامح الحداثة سترحل معهم. لكن بعد ذلك وفي خاتمة الكتاب، يقول غاي «لقد كان مشوار الحداثة طويلاً». إلا أنه لايشير على الإطلاق إلى فترة ما بعد الحداثة. إذا كنا نوافق على أن العديد من التجليات الثقافية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت تجليات اشتقاقية تحرِّكها الدوافع التجارية، فهذا يعني أن المزاج الذي كان سائداً في فترة ما بعد الحرب كان مختلفاً كلياً عن المزاج الذي كان موجوداً قبل بدايتها. فعندما لايعود الجديد جديداً، وعندما تتلاشى القدرة على توليد الشعور بالصدمة، حينذاك يمكن القول إن مشوار الحداثة انتهى في وقتٍ أبكر بكثير مما يعتقد غاي. إن نهاية الحرب في العام 1945، بكل ما تحمله من رموز مقابرية وجثث مكدَّسة وغيوم مشرومية، تصلح لأن تكون الفصل الأخير من الحداثة. في تلك اللحظة قال أدورنو، إن التاريخ تفوَّق على جميع أشكال التعبير الأدبي والفني. بل إن الأحداث كانت أقوى من الفن والتاريخ ومن جميع المحاولات الرامية لاستشراف المعنى، وربما لم يتبقَّ لنا إلا التسوق

الخميس, 13 مارس 2008

ترجمة: مالك عسَّاف
عن «لندن ريفيو أوف بوكس»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى