صفحات ثقافيةعلي جازو

عَمَلُ الشاعر

null
علي جازو
كلاهما، الغريزةُ والتكرارُ، مدافِعٌ عن نفسه.كلاهما عدوّ العطب والجمود. كلتا القوتين تسبقان الموت، حين يرتفع الأخير إلى مصاف رغبةٍ لا تُحتمَل. الغريزةُ مسحورة ومضغوطة بالإشباع الآني الحال. التكرارُ، محبوساً بلا زمنيّةِ وتدفّقِ آلية اكتفائه العصية. كلاهما، حالما يبلغ ما ندعوه – في شيوع باهت- بالإتمام أو الحدّ الأعلى للتحقق، يبدأ من جديد المسعى نفسه رغبةً وتكثيفاً في تثبيت الحسّ على الموضوع نفسه، ونيْل الانفعال المُعاد الغايةَ ذاتها. لا شيء يثبت، ولا شيء يُحاز! أنْ نكرِّرَ هو أن نبدأ. ونحن لا نكرِّرُ ما لا نعرف، ولا نشتهي ما نجهل. عبر تكرارنا الغضِّ لما خبرناه وامتلأنا به سابقاً، نتعرف عليه كما لو لأول مرة، تحت ضوء ندىً قاسٍ، ذلك أن البداية- صلبةً وجذابةً ومتخفيّةً- كلمةٌ لا تتبدّل، غير أن حاجتنا إلى حمْلِها، مشهداً بريئاً بلا حدود واكتمالاً بدئياً ناصعاً، تدفعُنا إلى تقبيل الجرح في عينه المغمضة، بالشفاه عينها التي ذاقتْ خساراتٍ باهرة، وقد غدت أشهى وأرق مغمورة بتألّق الكلمة مكرَّرةً على ابتكارٍ أمضى غزارةً وأشدّ انفعالاً. يستعير التكرارُ، في ليونة اقتدارٍ مسرفٍ، من الغريزة قوَّتَها الباذخة، وتستبدل الغريزةُ عن التكرار إحجامَهُ عن التغيّر ونظامَه ‘ الفارغ ‘ الصارم. القوَّةُ، حتى إنْ كانت عمياء قاسية، مشفوعة ومطاعة بالنظام المرفوع – خلَلَ تأمِّل التكرار كجوهرٍ صدٍّ- إلى مستوى مرهفٍ من الاستبطان، تدفعُ المكتومَ المكرَهَ إلى التفتّح،والمنسيَّ الراكدَ إلى التذكُّر، والخاملَ المعتقَلَ إلى التحمُّس والتوقُّد. لا نظامَ جاهزاً. النظام يُبنَى حينما تكون حاجةٌ إلى نظام. لا معنى مباحاً مشاعاً كوباء. المعنى يُسحَبُ و يُستَجَرُّ، أو بقول جاك دريدا ‘ أكبر مردود ممكن من المعنى’، عندما ينفلِتُ ويتوارى وينسحق ويندثر. ما لا يُرْجَأُ قط، ما لا يقبل بكْماً ولا تخثُّراً، قبْضَ ضرورةٍ كارتواء زهرةٍ سامَّةٍ فاتنةٍ، هو ما يحرِّضُ – تحت انجذابات التخيُّلِ الصّرْفِ- بناءَ قيامةٍ قصوى وإحلالِ غريزةٍ ليستِ العفَّةَ ولا الخطيئةَ، إنما تدارُكُ العفّةِ بنبْلها الطائش الشريف، وتهشيمُ الخطيئة بسخْفها الأرعن الخطَّاء. والمعنى الشعري- كم مرّةً ينبغي توسُّلُ الشِّعر،كم مرة ينبغي صوْنُه كتحفةٍ نادرة؟!،- بلا ضرورةِ استقراره على راديكالية غير مستقرة- مكلومٌ ومحميٌّ بمزيج هذه الاستعارة المزدوجة. يشير ‘ فيكو’ إلى أنَّ حسيَّة الخيال تلبي حاجاتِ الجهل الماسّة. هنا تمكن قراءة الغريزة من شغف حسيَّةِ خيالها، واعتبار التكرار-عدا كونه صوْناً أميناً لها- قوَّةً أصليّةً لا تعرف النفاد، قوَّةً تحكمُ التحوّلَ مثلما يحكمُ الجهلُ بالشيء سؤالَهُ الجوَّابَ. لا نودُّ النظرَ إلى المعنى الشعري بمنطق العلَّة والمعلول، المبنى والمعنى، السبب والنتيجة. لا نبحث عن الركون إلى سببية تعطبُ البحثَ، مفضيةً إلى نتيجة متوقعة سلفاً. إننا نرى داخل المعنى الشعري بزوغاً عاجلاً، مسرحاً خاصاً تعيّنه فرديّةٌ شخصيّةٌ،تستحقُّ الإعفاءَ من كل تسميةٍ باتة، حيث يكون العقلُ، محاصراً بحاجاته الإباحية فقط،أذكى وأرفعَ، أدقَّ وأرقَّ وأعمقَ إذ يؤسِّسُ معرفتَه كما يلبي صراخاً روحياً سامياً. نشير، بعد هذا الطواف المربِكِ، إلى أن التذكّرَ- مُصاغاً بنقائضَ كذهبِ الخيانة المرَّة- حيث فعاليةُ الشِّعر في ملاذها الوحيد ليست سوى تأويلٍ مضاعَفٍ للتكرار ثريٍّ. الحسّيّةُ الأثيريةُ بلا موضوعٍ سالبٍ، أي إثراءُ الغريزة- عبر وضعها كمادة موسيقية في سياق تأمّلٍ مصغٍ- إلى طيفٍ بالتركيز على الغريزة نفسها،لا حجبها أو تبديلها أو تعويضها، على فهم فرويد المختلط القار. طيفٌ ذهنيٌّ هي الغريزة فيما تكرارُها يكلّمُها بصوت نَغَميّ النبرة. ذلك أن الروحَ تُدرَكُ، وكلّ روحٍ إصغاءٌ فريدٌ لصمتٍ لا يتشابه، عندما تكون في الدرجة الدنيا- الدرجة الأقصى المبتدأة والمحاطة بغريزة واعية. أي أنها تتكرر في تكشّفٍ حامٍ عندما تدرِكُ كونها أرضيّة تماماً، سطحية تماماً في مستوى المرئي والمحسوس، على وتيرة احتفال سخيّ، منحازة ومبارَكةً بحلمٍ لا يكفّ عن استنجاد تكراره وائلاً موطناً يحميه – قبل أي خطر آخر- من الفوضى المحيطة المسعورة.

يقيمُ الشعريُّ، إنْ كانت إقامةٌ، في التّنحي لا التّصدي، في الإزاحة لا المرافقة، في اليتْمِ النابحِ لا العائلة الغول، في التقدّمِ المستتر الخفِرِ لا الوصولِ الرخيِّ المهذار، في الإصغاء الوقور النازف لا الصراخ المؤذي المفسد. يفترضُ التكرارُ عودةً منفردةً، فيها يكتنزُ ما مضى ولا يعود، ما لا يمكن أن يستعاد أبداً. يهتبلُ، من خيبة العودة، عودةً معكوسة إلى ما سيكون. يقدِّمُ فعْلُ التكرار ‘ حَدَثاً ‘ ممكناً لفعْلٍ يستحيل أن يوجد كما كان. يبدو التكرارُ مستحيلَ التحقق، وداخل هذه الاستحالة -المخمورة- يتجلى ويختبر عملُ الشاعر! هكذا – ليس الجديد فحسب- بل النادر بسماته ذات العرفان القاسي- مضمارُ التكرار السائل وعِراكُ الغريزة الشاق. الحفظ والوفاء، الشهادة على الغياب- إخلاصاً لما ينجز ولا يهنأ ولا يوارى ولا يموت ولا يحيا-،دونه لا يملكُ التكرارُ أي تعلِّقٍ بما يؤلَّفُ حين يعيدُ استحالَتَه غريزةً تأسرُ وجودَها. ربما وحده التكرار يتعلق بما سيحدث، مستعيناً ومراقباً ما حدث بالفعل. يبني التكرارُ بيتاً يجدر بالغائب، مكاناً معشوقاً لما ندعوه المستقبل. لا نريد الإيحاءَ بتمركزٍ ما، بانعكاسات الفكر الجامد ذي المبادئ الأولية،أو على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: (كلَّما اعتقدنا بمبدأ أولي كبير، فإننا لن ننتج سوى ثنائيات كبيرة وعقيمة). وإذا ما كنا مؤمنين،كما أسلف وأفلس وتساوى،في يتْمٍ شنيع، كلُّ إيمانٍ شامل، بأنَّ الخلقَ يتأتَّى من تناقضٍ قوي، فإننا نحصر إيماننا بجاهزية الخلق المعدية، بميكانيكيته الشديدة الخواء، في حين يستوجبُ الخلقُ الحيويّةَ التي لا تتألَّقُ ولا تتعاضَدُ ولا تتماسَكُ دون جذْرٍ من تنوّعٍ فعّال . بتأكيدنا على تداخل وتراكب الاستعارة المزدوجة (غريزة في التكرار،تكراراً في الغريزة- طهْراً كالعنف) نؤكّدُ على سلالة متنوعة هجينة صافية، على تضمين الأبهى والأرقى في الأبسط والأكثر ديمومة وزوالاً ، حيث لا تفترض الغريزةُ الإباحةَ قدر ما تصونُ الحياءَ، ولا يستولدُ التكرارُ النسْخَ قدر ما يستدعي تركيز الذهن على رهافة الاحساس البريء. إذا كان ثمة إيحاءٌ بتوجّهٍ ما، يمكن تحديده لاحقاً، فإنه يودُّ الإصماتَ والإنقاءَ والخلْعَ- إصماتَ ما يثرثر وخلع ما يرجو- يودُّ الأمومةَ الراعية، الاحتضانَ الدافئ العزيز، لأجلهما (يصير) التكرارُ جلاءَ الغريزة، والغريزةُ حصانةَ التكرار، و بهما- على عاتقهما يشرقُ عمل الشاعر. كنْ غريزةً، تكراراً، (بحراً لا ينتن).
ومن الانتعاش المبتكر غير المسبوق،من حسية تقارب منحى المتصوفة الغريب، يعثر الشعريُّ على انتماءٍ حرٍّ- انتماء ينسب إلى الغياب الأكثر كمالاً، الأعمق في لا تحدده، في تهرّبه المستمر وتسرّبه المستمر ومكابدته المستمرة. المعاناةُ حيرة تنأى عن كلّ تورُّثٍ وكلّ توريث . المعاناة معنى كلّ مكان، والمكان عينٌ في الشاعر،والشاعر صوتٌ في لا إقامةٍ ولا موطنٍ ذي حدود منجزة،كما أشار موريس بلانشو يوماً،في كتابه (الفضاء الأدبي): ‘ ينتمي الشاعرُ إلى لغة لا يتكلمها أحد، والتي لا تتجه إلى أحد، والتي لا تملك مركزاً، والتي لا تدل على شيء’. علامَ، إذن، يدلُّ التكرار، وممَّ تنبعُ الغريزة؟!
شاعر من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى