المثنى الشيخ عطية

الحلقة السادسة من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
ملكـوت

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة. أسمع صوت هدير مألوف. أسمع صوت هدير نهري وأراه. أراه قادماً بهديره في اتجاهي. أنظر إليه من مكاني المعتاد على الجسر. أنظر إلى مياهه الهدارة حول عمود البازلت الأسود تحتي كما هاوية تتحرك وتدعوني للولوج.. جرّني في هديرك الصاخب يا فرات. اسحبني إلى دفء حضنك. خذني إلى حضنك الهادئ يا فرات، هنيهة لا تنتظر بعدها. الفضني بعدها إلى ضفافك. بعثرني في بساتين ضفافك. أعدني إلى دفء ضفافك. أعدني إلى صنارة الولد الوحيد الذي كنته. إلى ديدان صيده المتداخلة في متاهات طميك. ديدان صيده التي تربك يديه أبداً خشية من أن تنقطع الدودة وهو يسحبها من الطين فيحزن. أعدني إلى بحيرة سمكاته الصغيرة التي أعدّها لها كي لا تموت بعيدة عنك سمكاته. أعدني إلى الولد الذي يزلزل جسدي الآن محاولاً رغم مقاومة جسدي لصخب ضحكاته الخروج. أعدني إلى الولد الشقي الذي لا أصدّق في كل مرة يخرج فيها من جثتي أنه أنت أيها الفرات الذي جئتك كعادتي أو كما تطلب أنت عادة محمّلاً بالتعب.

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. إنها هزيمة كاملة. أفكر أن علي أن أبدأ روايتي. أحس أن الوقت قد حان لكتابة روايتي. ألقي ما جمعت من معلومات وذكريات ومخططات خلف ظهري. أجلس على الطاولة أمام البحر. أطلب زجاجة بيرة. أصب البيرة وألاحق رغوتها وهي تتصاعد. أفرد أوراقي أمامي. أحدق في الصفحة البيضاء أمامي. من أين أبدأ وأين أنتهي. أستعيد المحور البنيوي الذي وضعته لروايتي في أن تكون نصاً مفتوحاً متدفقاً يكسر حواجز الزمن ليكشف علاقة تشابك اليومي بالميثيولوجي، الواقع بالحلم كي أبلور حياة شباب جيلي في لحظة حساسة من تاريخ بلدي، نصاً أشرك فيه قارئي بجراحات ما تشظى من حلمنا الأممي الكبير الذي يطيب لي أن أدعوه حلمي الأمومي الصغير، في محاولة مستورة لترميم النفس عبر الحلم. لقد رصدتُ أحلامي وتأكدتُ من أفكار باشلار وغالب هلسا حول المكان وأفكاري بأن الإنسان يلجأ في الحوادث الكبرى التي تهدد كيانه إلى حضن الأم. إنها هزيمة كاملة. لقد تأكد لي لجوء “متعب الهذال” في “تيه عبد الرحمن منيف” إلى حضن الصحراء أم العرب وغيابه فيه بعد تدمير الأمريكان لوادي العيون،  ولقد أرسلني تدمير الأمريكان لبغداد في منفاي إلى حضن أمي.  لقد ألقى بي طفلاً شممت رائحة أنفاسه في حديقة أمي.. ولكن من أين أبدأ وأين أنتهي. أستعيد الجملة الأولى التي لا أعرف متى تشكلت ولماذا جاءت على هذه الصورة وأبدأ برشقها على الصفحة البيضاء أمامي: “ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض، مرة أخرى أحلّق وحيداً في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي”…

قلت لمعاذ إنني أريد أن أرى فرات الرقة وحيداً، وقال محاولاً التخفيف عني: ابق معنا، إن فرات الدير هو فرات الرقة نفسه، وفكرت. كيف أتجاوز هذا الإحراج ولا أزعج أهله.. هذا أول أيام العيد ولا أريد أن أكون ضيفاً ثقيلاً.
ـ أريد الاختلاء بنفسي قليلاً.. قلت وفهمني معاذ.
ـ هل تعرف الطريق إليه؟.. قال ضاحكاً.
ـ لن أستطيع تضييعه.
أجبرتني أخت معاذ الصغيرة على تناول لقمة كعك مع الشاي. أحسست أنها تتعاطف مع حزني المغلف بمرحي، وزاد لطفها حسن حظي أن تقاليد الضيافة تمنعها عن سؤالي لماذا أقضي أول أيام العيد بينهم بعيداً عن أهلي…
الفرات نفسه، في كل مكان هو نفسه.. قال معاذ، ولكن قل لي أنت يا فرات هل أنت نفسك، وهل أنا نفسي.. عائلة معاذ المتماسكة تشعرني بضياعي.. فمعاذ يتيم الأب، لكن أمه وأخواته يعوضون هذا بتماسكهم، وأنا لدي أم وأب عصفت بحبهما رياح كبرياء خاوية جعلتني أقضي أول أيام العيد خارج دفء بيتي. ما الذي حدث لي أيها الفرات الذي أنت نفسك. قل لي.
رأيت وأنا واقف على الجسر فوق شاطئك ولداً وحيداً يرمي بصنارته في هذا اليوم. ياإلهي. ولدٌ وحيد صغير يرمي بصنارته وكأنما يرمي بأحزاني في بئر قاعك.
تركت الجسر. اتجهت إلى الولد وسلمت.
ـ هل تبيعني الصنارة أيها الولد؟.. قلت.
ـ أؤجرها لك فقط.. قال وهو يتملاّني بنظراته. وقبلت مبتسماً.
ـ أعود بعد ساعتين. الديدان في الأعلى حول الشجرة.. قال الولد.
صعدت إلى الأعلى. تناولت عوداً صلباً لأنبش به الطين حول الشجرة. الرائحة نفسها. يا إلهي. رائحة طميك. نبشت كي تغمرني الرائحة.
لملمت ديداني ووضعتها مع طميها في تنكة الولد ونزلت. جلست فوق الصخرة. سحبت دودة من الوحل. ستنقطع الدودة. أزحت الوحل حولها فخرجت عارية دونما حماية. هذه هي الحياة أيتها الكائنة، ولكنني أعتذر منك كما علّمني أبي.. قلت للدودة وأنا أشكها في الشص وتتلوّى. ألقيت بالصنارة بعيداً في قلب النهر. الضربة جيدة. سحبت خيطي كي تستقر الفلينة في الماء الهادئ وجلست أراقب. راقبت الفلينة الطافية على قلب الصمت.. الفلينة مركبة فضاء تمخر قلب الصمت بصمت، تمضي في الأسود والأسود يتكاثف، يتكاثف مثل سحاب يركض، يأخذني في دوامة صمتي، والفلينة مركبة فضاء تمخر قلب الصمت بصمت والأسود يتكاثف، هي ذي نقطة موتي، يلتمع البرق برأسي، أنهض من جثة هذا الجالس فوق الصخرة وأرى نفسي، ولداً يجلس فوق الصخرة، يرقب أن تخرج من قلب الصمت السمكة…

قال لي معاذ وهو يجلس بجانبي. أخيراً وجدتك. لم أستطع تركك وحيداً في همومك. هل آن الأوان أن تقول لي لماذا تجنبت أهلك في هذا العيد.
نظرت إلى معاذ. تأملت صفاء عينيه وأحسست بالصفاء.
ـ إنها أمي.. قلت له بهدوء وأنا أنظر إلى النهر، وصمتَ متأملاً النهر وتاركاً لي راحة أن أستمر في الحديث.. لقد علمت أنها هي من دمّر منذ ثلاث سنوات أول حب لي. قالت لي أختي بالأمس ونحن نستعيد ضاحكين شقاوات علاقاتي مع الفتيات في مراهقتي أن أمي هي التي ذهبت إلى بيت أهل هيام دون علمي وطلبت منهم أن يمسكوا ابنتهم عني. وذهلت من فعلة أمي. اصفر وجهي وتوقفت أنفاسي. أحست أختي أنها تورطت بإخباري. كانت تعتقد  أنني نسيت وتجاوزت ما حدث، وكنت كذلك.. كنت قد نسيت أو لم أعد أتساءل عن سبب اختفاء هيام المفاجئ عني، لم أعد أتساءل عن سبب تزويج أهلها الغريب لها على هذه الصورة السريعة،  لكن يبدو أنني لم أحتمل أن تقوم أمي بهذا، لم أستطع استيعاب كيف تستطيع من أعرف أنها وقفت حياتها لمواجهة ظلم الذكورية أن تظلم فتاة مثل هيام وأن تظلمني. ظهرت لي صور مشوشة عن خلافاتها مع والدي فوقفت أمامها، قلت لها إنني لن أسمح لها أن تدمّر حياتي كما دمرت حياة أبي، وأصابها الخرس. أحسست أن قلبها توقف وأنني أقتلها. كنت سأتراجع وأعتذر لها لكن كبريائي منعني، وما كان مني إلا أن أغادر لألتقي بك كي لا يطحنني حزني.
ـ ولم تفكر بما يطحنها الآن.. أعتذر هاني عن قسوتي. لا أريد أن أزيد ألمك لكن ربما أرادت والدتك حمايتك. لقد أخبرتَني أنك خضت معركة بالسكاكين مع شباب حارة البنت الذين أرادوا منعك عن المرور بالحارة لتحيتها. أنت تعلم خوف قلب الأم. ثم إن عليك أن تشكر أمك في النهاية.. فحب الجارة أو بنت الحارة غالباً ما يحجّر الإنسان عن تجربة ما هو أبعد.. قال معاذ ضاحكاً بطريقته الساخرة الممتعة.
ـ لم أفكر بما حدث أنه يمكن أن يكون على هذه البساطة. فكرت تحت تأثير غضبي فقط بمحاولات أمي لمنع أي فتاة من اللقاء بي وكأنها غريمتها، وتصرفت على هذا الأساس. لقد شوش تفكيري سيل من صور وذكريات عما حدث من تدمير لعلاقتها بوالدي.
ـ لكننا لن نعرف من كان سبب التدمير، ولن نتحول إلى جلادين، خاصة بالنسبة لأمهاتنا، وأنت بالذات من اخترت خط الانخراط في حركات تحرر المرأة لهذا السبب كما أعتقد.. قال معاذ ونظرت إليه حزيناً ومبدياً أسفي على تسرّعي.
ـ هل تريد القيام معي إلى البيت. قال عارضاً علي انتشالي من وحدتي.
ـ أعتقد أن علي أن أنتظر قليلاً لتصفية أفكاري. يمكنك الذهاب وسأتبعك بعد أن أعيد للولد صنارته.
نظرت إلى الفلينة الطافية على قلب الصمت. إنها تهتز، تتذبذب مختلجة بسرعة قبل أن تغرق وتطفو. أبديت استعدادي. قلت الطرف الآخر سيسحبها مرة ثانية. شعرت بالتوتر. الفلينة تهتز، تختلج وتغيب في الماء. علي أن أتصرف. سحبت الخيط سلاً كما علمني أبي لكي لا يقطع الشص فم السمكة، وهاهي ذي سمكتي خارج الماء. إنها صغيرة. أمسكتها وخلّصت فمها من الشص دون أن تتأذى. نظرت حولي إلى بحيرة سمك الولد.. لقد جفت من الماء ولم أنتبه. أفرغت التنكة من وحل الديدان بيدي الحرة، وملأتها بالماء. وضعت فيها سمكتي قبل أن تموت. رأيتها تتحرك في الماء وابتسمت مطمئناً. شككت دودة ثانية في الصنارة. وألقيتها بعيداً. سحبت الخيط لتستقر الفلينة في المياه الهادئة وجلست أراقب. راقبت الفلينة الطافية على قلب الصمت.. الفلينة مركبة فضاء تمخر قلب الصمت بصمت. تمضي في الأسود والأسود يتكاثف. يتكاثف مثل سحاب يركض. يأخذني في دوّامة صمتي، والفلينة مركبة فضاء تمخر قلب الصمت بصمت والأسود يتكاثف، هي ذي نقطة موتي،  كون آخر يتلاشى. يبرق آن يموت برأسي، أنهض من جثة هذا الجالس فوق الصخرة وأرى نفسي، ولداً يجلس فوق الصخرة، يرقب أن تخرج من قلب الصمت السمكة…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة. أسمع صوت هدير مألوف. أسمع صوت هدير نهري وأراه. أراه قادماً بهديره في اتجاهي. أنظر إليه من مكاني المعتاد على الجسر. أنظر إلى مياهه الهدارة حول عمود البازلت الأسود تحتي كما هاوية تتحرك وتدعوني للولوج.

ـ كيف هي صنارتك الجديدة؟.. قال أبي وهو يجلس بجانبي على الشاطئ بعد أن نزل الجرف.
ـ إنها جيدة. أشكرك ولكني لم أصطد شيئاً.. قلت.
ـ دعنا نرى. ماذا وضعت طعماً في الصنارة؟.. قال وسحبت صنارتي وأريته الطعم. لقد كان متآكلاً.
ـ إنها عجينة أعطتني إياها أمي.. قلت وضحك أبي بمودة.
ـ إنها جيدة.. قال. ولكنها تحتاج إلى مهارة كبيرة لتثبيتها وغش السمكات بها. دعنا نجرب شيئاً أسهل، مثل هذا.. نظرت إلى كتلة الوحل بيديه. قسمها فبانت بين نسيجها ديدان الأرض.
ـ انظر. نسحب واحدة ونشكها في الشص، إذا كانت كبيرة نقطعها كي تبتلع السمكة الشص معها. جرّب.
أخذت كتلة من الوحل. سحبت دودة وتركتها خشية من أن تنقطع. لاحظ هذا أبي. قال لي: فتت حولها الوحل. نعم هكذا.
ألقيت بصنارتي وجلسنا ننتظر.
ـ هذا أقرب للسلامة من صيد الغزال. هل أعجبك الغزال الذي أحضرته لك؟.. قال أبي وشعرت بالسعادة.
ـ نعم، لكني مازلت أخشى الاقتراب منه. مازال نفوراً ولا يأمن أحداً سوى أمي. . إنه يتبعها أينما ذهبت ويشمشمها.. قلت وضحك والدي.
ـ يشمشمها؟! نعم إن أمك تألفها الحيوانات وتأمن لها.. قال وران بيننا الصمت. كان هناك ما يجب قوله ونحن نهرب منه إلى مراقبة الفلينة فوق الماء. شعرت أن أبي حزين.
ـ انظر يا هاني، لا أريدك أن تظن أنني كنت قاسياً مع أمك، أنت تعرفني. أنا أحبكما.
لم أقل شيئاً. كان هناك الكثير مما لا يمكن قوله، لكنها المرة الأولى التي يصارحني فيها أبي وكأنه صديقي. كان هناك ما يثقل على قلبه فعلاً، وحالته وصلت إلى ما أخافني.
ـ أنت لا تظن أن لأبيك يداً في موت خالتك!؟.. قال أبي ودمعت
عيناي، تذكرت المشهد الذي لم يستطع كلانا التخلص منه.. فبعد أن ظننت أنني استعدت ضحكات أمي التي حجّرها موت خالتي مع قدوم الربيع، دخل أبي غرفة أمي. كانت أمي كما كنت أراها من مخبأي خلف الستارة ترتب الشراشف في فتحة الجدار المقابلة لي، بثوبها الأبيض الخفيف الذي تناغم مع سريان روح الربيع بداخلها. كنت أراقبها سعيداً واقترب أبي منها بهدوء. أحست أمي بالرجل الذي يقترب منها ونظرت إليه بمواربة وتوجس دون أن تنظر إليه. أمسك بها من كتفيها محاولاً ضمها، لكنها تملصت من يديه بعنف، ووقفت مواجهة إياه.
ـ أنت ووالدي قتلتما قدسية. قالت أمي موجهة إليه اتهامها كما طلقة في الصدر، وأصيب أبي بالوجوم. قال لها بحزن.
ـ اتق الله يا نوّارة. أختك قتلت نفسها. تسرّعت بالتصرف. ما كان أحد ليجبرها، وأنا لم أفعل شيئاً أكثر من أنني طلبتها لأخي من أبيك.
ـ كنت تعرف أنها لا تريد أخاك المعقد.
ـ معقّد لحاله. لكنه لم يفعل شيئاً سوى أنه أراد أن يتزوجها.
ـ وأنت طلبت يدها له. طلبت يد أختي لمطلاق يضرب زوجته.
ـ اتق الله يا نوّارة. كان هذا قدراً وأنا أتألم على قدسية ربما أكثر منك حتى.. قال أبي بانكسار ونفثت أمي حقدها سماً في وجهه.
ـ قدر!؟ وتجرؤ أن تقول هذا. لقد قلت لك أن لا تفعل ولم تطع.
ـ أطيع!!.. قال والدي منتفضاً وقد مس كبرياؤه. أطيع!! أنا خروف بيدك ؟!
ـ وأصغر من خروف الذي لا يعرف كيف يتصرف.. قالت أمي بتحدّ وجمدت أنا في مكاني وأنا أرى وجه أبي المتحجر من الغضب، ولم أستطع سوى الخروج من مخبأي عندما أمسك بيدها ورفع يده ليضربها كما ظننت، وفوجئ أبي بي.
ـ اترك أمي.. قلت ونظرنا إلى بعضنا دون أن أزيح نظراتي عن عينيه. تلك هي المرة الأولى التي أواجه فيها أبي.
انكسرت نظرة أبي عني. نظر إلى أمي ثم نظر إليّ وضحك بقهر. ترك ساعدها وخرج.
ضمتني أمي إلى صدرها وهي تبكي.
ـ لا تخف. لا تخف. قالت لي بحنان لكنني خفت من قسوتها وهي تقول: لا تخف راح يشوف، يشوف.
دمعت عيناي وحاولت أن أخفيهما بمراقبة الفلينة الطافية فوق قلب الصمت، ولاحظ هذا أبي.
ـ لست ألومك على ما فعلت. أنا أيضاً أريدك أن تدافع دائماً عن أمك، حتى مني. لا تزعل، لكن صدقني، ليس لي دخل بموت خالتك. أنا أخطأت إن كنت تريدني أن أعترف لك بهذا. لقد أخطأت بطلب يدها لأخي، لكنها تسرعت. كنت سأقف إلى جانبها لو أصرت على الرفض. لكن الأحداث تسارعت. هي لم تعلن عن شيء والأمر حدث بسرعة لم أكن أتوقعها. أنا نفسي لا أفهم كيف حدث هذا.
دمعت عيناي وأنا أتأمل في الماء وجه خالتي قدسية وهي على فراش الموت. لم تكن ميتة. كان وجهها يضوع بالندى ولم يستطع الموت أن يمسه. لقد احتفظت لي خالتي بسحر ابتسامتها. سحر تعبير وجهها وهي تنظر مأخوذة باتجاه “الحية” في العين. سحر تعبير وجهها الذي قبّلته أمي وهي تضع عقد “الحية” الذهبي على جيدها، وتقول دامعة العينين: أردته أن يكون في عرسك.
دمعت عيناي وأنا أتأمل في الماء وجه خالتي. كيف حدث هذا!! أيها الفرات الذي دون قلب؟! ما الذي فجّر قلب أمي الهادئ الحنون بركان قسوة، ورمى بأبي العاصف محبطاً في ثياب الدراويش، وألقى بالخليط العجيب الذي هو أنا دون أن أستطيع الهجوع لحظة واحدة في الأراضي الغريبة.

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة…

أرى سيارة أبي. إنها سيارة أبي، نقطة سوداء في مدى البادية الطليق. نقطة سوداء تشق جسد البادية الرحب الذي حدد خلفيته جبل الرحبة بقلعته المهدمة. نقطة سوداء تتعالى منها كلما كبرت باقترابها أصوات الفتيات المشتعلات بالغناء في خلفية السيارة المغلقة… أصوات الفتيات التي أدندن معها:

علروزانا علروزنا. كل الحلا فيها
وش عملت الروزانا. الله يجازيها…

أصوات الفتيات التي أستطيع أن أسمع بينها واضحاً صوت خالتي قدسية العذب وهي تقود المجموعة:

يارايحين على حلب. معكم حبيبي راح
كلمن حبيبه معه وأنا حبيبي راح
يامحملين العنب تحت العنب تفاح…

تتعالى أصوات الغناء. أرى أبي يكسر وجوم الصمت بحركة عنيفة مرفقة بلعنة يغلق بها راديو السيارة.
ـ لا يستطيع أحد  أن يأخذ حقاً أو باطلاً من هذه الشعارات.. قال أبي.
ـ وما دخلك أنت!؟ لم أعرف عنك اهتماماً بالسياسة. قالت أمي ضاحكة واستمرت تردد الغناء مع الفتيات القادم صوتهن من الخلف.
ـ عدم مشاركتي لا يعني أنني لا أهتم.
ـ تراك فقط تردد كلام ابن أخيك عبد الله.
ـ أنا لا أثق بالعسكر. أعرفهم. أعرف نتائج انقلاباتهم. ثم ما به كلام عبد الله. يكفي كلامه صدقاً أنهم عزلوه… قال أبي.
ـ أنا لا أعني عبد الله وإنما أعنيك أنت. أنت وقفت على الحياد.
ـ أنا غير محايد لكنني لا أثق بالبعثيين. لقد أحالوا أنبل ضباط الجيش إلى البيوت أو السجون. لو كان هناك طرف ثالث لوقفت معه.
ـ ولكن الناس شاركت في انقلاب آذار!؟.
ـ شاركت!؟. الناس لم تشارك. أرادت فقط أن تتخلص من حكم الانفصال، والبعثيون غشوهم ببعض الشعارات كما غشوا جميع القوى الوطنية.
ـ وأنت لم يستطيعوا غشك!!.. قالت أمي مناكدة إياه. ونظرت أنا إلى وجه أبي الذي لم يغضب. لم يكن أبي يغضب من انتقادات أمي ويضحك.
ـ انظري يانوارة. أنا أكثر اهتماماً بالسياسة من الجميع. قولي لي من من هؤلاء الشيوعيين والقوميين جرؤ أن يجعل العصمة بيد امرأته.
ـ أنت تأخذ الأمر “شغل زكرتيه” لكنك كنت مجبراً. وما كنت تزوجتك لو لم تفعل.
ـ والله كنت ستفعلين لولم أتدارك أنا الأمر وأقبل بشرطك.
ـ ها. عدت إلى تناقضاتك. تريد أن تقنعني أنك من أراد هذا. من يقدر على الرجال.
ـ النسوان.. قال أبي ضاحكاً وضحكت أمي، وغرزت أنا رأسي أكثر في صدرها.
ـ بالله اسمع، صوت قدسية.. قالت أمي مسحورة بسماع صوت أختها العذب. صارت صبية بسرعة.. قالت أمي ومرت بذاكرتي صورة وجه خالتي وهي تغني برقتها الآسرة:

يا محملين العنب، تحت العنب تفاح
كل من حبيبو معو وأنا حبيبي راح.

ـ بالمناسبة أريد أن أحدثك بأمر يخصها.. قال أبي مثيراً فضول أمي التي تعتبر قدسية مثل ابنتها واستمر أبي. أخي عبد الستار طلب مني أن أحدّث والدك بشأنها.
ـ بشأنها؟! ماذا يعني؟
ـ أخطبها له.
ـ عبد الستار؟ لم يمض على طلاقه شهران. من يتزوجه!؟ أنت تعرف أنه كان يضرب زوجته. ثم أنه كبير في السن.
ـ الكثيرات يقبلن به، لكنه حط عينه على قدسية. قال أبي وشعرت بدقات قلب أمي تتسارع، وخفت على خالتي.
ـ لكن قدسية صغيرة على الزواج.. قالت أمي.
ـ من هذه الناحية، لا، صار عمرها أربعة عشر سنة.
ـ ولو!! ثم إنها لا تريد عبد الستار.. قالت أمي حاسمة الأمر. وصمت أبي قليلاً، لكنه لم ييأس.
ـ وما يدريك أنها لا تريده.
ـ قلت لك. لا أحد يقبل بعبد الستار. كأنك تريدها له!؟
ـ لا . أنا محايد في هذا. هو طلب مني أن أقول لوالدك فقط.
ـ وقبلت!؟.
ـ لا تفهميني خطأ. قدسية مثل ابنتي وأنا أريد مصلحتها مثلك. لكن أخي أحرجني ووعدته أن أوصل رغبته إلى أبيك.
ـ دعه هو يطلبها بنفسه. أنت تعلم أن أبي يحبك. وسيعتبر هذا طلباً طالما تحدثت فيه. وأنت تعرف ظلم أبي. قد يوافق.. قالت أمي وهي تشعر بتهديد ما يحدث، وصمت أبي قليلاً وهو يحس بالإحراج.
ـ سأقول له فقط أن عبد الستار يريدها دون أن أطلبها له.
ـ وأنا أريدك أن لا تقول له شيئاً.
ـ تريديني! تريديني! ماذا أيضاً. أنا لست خروفاً بيدك. قال أبي محرجاً ومغتاظاً كي يخرج من مأزقه، وصمتت أمي لكن قلبها تحت رأسي كان يدق بسرعة، وتحركت أنا كي أخفف من حدة الجو. اعتدلت وتحركت إلى جانب أبي، ومددت يدي إلى المقود دون أن أصل إليه. رفعني أبي وأجلسني بحضنه.
ـ أنت في التاسعة. لقد كبرت. ستسوق كما وعدتك، لكن لا تدر المقود هكذا. دع يدك تحس به فقط وأنا أحركه.
وصلنا إلى العين. نزلت أنا أولاً قافزاً من السيارة ثم درت ببطء حول نفسي مأخوذاً وأنا أتأمل المكان.. هاهي ذي “عين علي”. بقعة حمراء في مدى اخضرار الروح. لطخة لون لم أعرف ولم أتساءل أبداً كيف انبثقت هنا بالضبط وسط عراء البادية كواحة تموج بالخضرة، كانزياح غريب عن مألوفية الأشياء، كانسجام غريب يبزغ هكذا  فجأة ليفرض انسجامه الخاص. سلمت مثل بقية الناس دون أن أفكر بتبرير للقدرة التي أرسلتها أو أفكر بتأويل لقوة تجسدها في البشر الذين يأتون للتبارك بمائها والاستشفاء. إنها عين علي، عين الإمام التي تجسّد ظهوره الحربي لهزيمة راكبة الجمل، لكني منذ أن تجلّت أمامي سيدة النبع بجرّتها المعشبة وهي تصب الماء أمام حارستها أضفتُ عليها سحرَ أن تكون عين أمي. عين حضن تشرّدي الأبدي في الأرض التي تلد أبناءها بالألم.
دخلت “ماما” إلى العين من طرفها المفتوح. رفعت ثوبها قليلاً عندما لامس قدميها الماء فأحسست أنا باستسلامها له.
أخذ الماء يعرّي ساقيها ويغمرهما بدفئه مع توغلهما فيه، وعندما وصل إلى منتهاهما تركت “ماما” ثوبها المنهك بين يديه ليستحيل هو الآخر ماء.
نظرت “ماما” إلى جدار العين بثبات. كنا مندهشين وخائفين أنا وخالتي ومجموعة الرحلة، وكان بابا وحيداً ينزّل الأغراض من السيارة بعيداً عنا.
اقتربت “ماما” من الجدار دون أن تزيح نظراتها عنها. كانت “الحية” رابضة عليه بتوجس تحول إلى ما يشبه الاستكانة مع نظرات “ماما” الثابتة واقترابها.. خضراء مرقطة ومنداة بين رذاذ الماء المتطاير في الضوء، متماهية في الألوان العشبية لجدار العين، ثابتة ومغلفة بجلال الرهبة.
كشفت “ماما” في ما يشبه الغياب بحركة بطيئة بطيئة لا تنتهي عن نهديها الأبيضين المستديرين الغائبين في النور والرذاذ.. نهديها الذين اتجها مكابرين ومأخوذين في اتجاه الحية واستحالا أمامي في ما يشبه الحلم إلى الأخضر المعشب للحظة واحدة قطعتها أقدام خالتي التي تجرني بيدها متوغلة ومستسلمة بين يدي الماء.
أخذت “ماما” بيدها حفنة وصبت الماء على النهدين اللذين بدآ بالاستكانة دون أن تحرك نظراتها عن “الحية” التي استدارت مطأطئة رأسها وزاحفة في تفاصيل الجدار.. قالت “ماما”:
ـ اقتربا أكثر ولا تخافا.
نظرت باندهاش إلى خالتي قدسية. كانت مأخوذة هي الأخرى أمام هذا الكائن الغريب المتماهي بذاته، ولا أعرف متى انحسر القميص عن نهديها الصغيرين المحمولين في محفة النور، المشرئبين في اتجاهه حيث يزحف ويغيب.. قالت “ماما” بهدوء:
ـ إنها حارسة العين. لا تؤذوها كي لا تؤذيكم.
نظرت فوقي، وفوجئت بعيني بابا تراقبان المشهد باندهاش وإعجاب، لكنه اندهاش أقرب إلى الذعر، قطعته أصوات المجموعة وهي تنزل بصخب إلى الماء..

الماء.. دوّرت الماء بيدي في حوض الاستحمام المستدير. صنعت دوامة حولي. إن غرفة أمي دافئة وأليفة مثل العين. أحسست بيدي أمي تمرران الصابون على جسدي وأنا ألعب بالدوامة التي أصنعها حولي.
ـ هيا قف الآن.. قالت أمي، ووقفت. مرت يدها الأليفة على بطني وأرادت أن تنزل إلى الأسفل. خفت.
ـ الليفة جديدة. إنها تشوكني هنا.. قلت وسمعت ضحكة أمي الصافية الرنانة.
ـ لا تخف. يجب أن تتنظف.. قالت أمي وصبت يدها الماء على جسدي. كان الماء دافئاً وأليفاً. برقت في رأسي صورة “حية” العين على الجدار وهي تطأطئ رأسها وتغيب خلل رذاذ الماء المتطاير في الضوء.
ـ هل للحية صغار أستطيع اللعب معها يا “ماما”.
ـ نعم للحية صغار لكن لدغة الحية قاتلة. احذر أن تلعب مع الحيات.
ـ وهل تشبه الحية صغارها يا “ماما”.
ـ نعم لكنهن بحجم أصغر.
ـ هل يشبه صغير الحية حمامتي يا “ماما”.. قلت بتردد وخجل. وفوجئت “ماما” بسؤالي. نظرت إلي مستغربة.
ـ هل تريد اللعب مع “الحية”؟.. قالت “ماما” فجأة وخفتُ.
ـ سأدعك تلعب معها الآن إذا لم تخف.. قالت “ماما” وخفتُ، لكني قلت مدافعاً عن شجاعتي.
ـ أنا لا أخاف.
ـ حسناً. تمالك نفسك. سوف أمد يدي خلفي وستراها بيدي.. قالت
“ماما”، ومدّت يدها فرأيت الحية. أصبت بالدهشة والذعر وأنا أرى عينيها. كانت حية العين نفسها الخضراء المرقطة المتماهية بألوان العين.
نظرت بتوجس وأنا أمسك بيدي أطراف الحوض في عينيها، وتحركت الحية مع يد “ماما” ببطء في اتجاهي. خفت وجاءني صوت “ماما” هادئاً مطمئناً: لا تخف. انظر. وأخذت الحية باتجاهها. مرّرتها زاحفة ومحيطة برقبتها، ومدّت الحية رأسها ناظرة إلي بألفة ورغبة في اللعب.
ـ الآن ستنزل معك لتلعب في الحوض.. قالت “ماما”. ونزلت الحية منسلّة تحت رغوة الصابون وصانعة دوامة محيطة بي. اقشعرّ جسدي وأنا أراها تصعد ظهري غير أن يد “ماما” سارعت بالمرور على كتفي وشعرت بالأمان. ضحكت بخوف ونظرت بمواربة وأنا أحس بها تظهر من خلف كتفي، لكنني شعرت بالأمان وأنا أرى رأسها يظهر مترافقاً مع يد “ماما”. وضعت يدي على رأسها فاستكانت. مسّدتُ بيدي عليها فانسلّت إلى الحوض لتصنع دوامة حولي تحت رغوة الصابون… أيّ أمان هذا الذي انبثق من قلب الرهبة محمولاً على يد “ماما” !!.. ضحكت، وأحسست بفم “ماما” يطبع قبلة حنان على كتفي من الخلف خلل البخار وأنا أرى كائن الرهبة الجليل يدور ويصنع دواماته حولي…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. أي هناءة كانت؟! أي هناءة تبددت؟! أي هناءة كانت تنبثق من قلب هذا الجمال. من قلب هذه الرهبة؟! هل يفسّر هذا قولي لمعاذ إنني أريد لموتي أن يكون عاصفاً. مرة واحدة. طعنة واحدة. بقرني ثور هائج يتقدم ببطء. ببطء يتقدم. يواجه المدى المفتوح لصدري. يركض. يلتمع البرق بصدري. ضربة واحدة. طعنة واحدة، وأقسى ما يكون…
لماذا ترتبط الهناءة معي دائماً بالهول!! ولماذا يرتبط الهول دائماً بالجمال!! لماذا يرتبط الجمال داخلي بالهناءة!؟ أيها الفرات الجميل الهادئ حتى الهول.. لماذا ؟!…

أفقت من نومي مذهولاً في بيت معاذ. ارتد رأسي إلى المخدة الناعمة، وهدأت أفكر بحلمي. لقد كنت أطير وحيداً بطائرة أحتلّ كامل مقدمتها وتكشف أمامي قبة كون أزرق بالكامل يغلفني. طائرة تطير وكأنها أنا بلا صوت في الأزرق السماوي الذي لا ينتهي…
شعرت بالأمان في حضن هذا الفضاء اللامتناهي الذي ما أن اكتمل فيه أماني حتى تلاشت الطائرة واستحلت أنا طائراً بأجنحة ضخمة تحلق في الأزرق. وحيداً أحلّق في الأزرق… لحظات وبانت الأرض أمامي في الأسفل. سهول لا تحدّ من الأخضر. كون لا متناه أخضر تتبدى فيه أمامي نقطة سوداء وحيدة في كون أخضر… شعرت بالغبطة وبدأت أقترب منها حيث تكبر أمامي وتعدو لتتبدى حصاناً أسود يركض وحيداً في الكون الأخضر. كان حصاناً أسود ووحيداً يعدو في الأخضر، وكنت أنا طائراً وحيداً لا أعرف لوني وأطير فوقه…
كانت مطاردة صامتة وأحسست أنه شعر بي. بدأ يزيد من عدوه وأنا أزيد من سرعة طيراني. اقتربت منه كثيراً وأحسست بحرارة أنفاسه نافرة ومعبرة عن ضيقه. كان يرمقني بنظرة شرسة مواربة، ولكن لم يكن من مهرب لكلينا. كنا أسيرين في هذا الأزرق اللامتناهي، ولم يكن من مهرب لكلينا: لا مهرب لكلينا.. قلت وقاربت ملامسته. كان الجذب معذباً ولكن لم يكن من مهرب. لا مست ظهر حصاني فانفتح وجه الأفق أمامنا. برتقالياً كاملاً كما النار… التصقت به وشدني فالتحمت به… كانت لحظة عذاب ومتعة لا توصف. التحمت به وشدني بعذاب ومتعة لا توصف. شدني واستحلت إليه، إليه استحلت، حصاناً أسود ووحيداً يعدو مغتبطاً في الأخضر باتجاه أفق مشتعل بالنار…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة…

دخلت حظيرة الجياد في بيت جدي. تجاوزت العجوز المرعب الجالس بدعة على كرسيه وهو يدخن أركيلته ويتأمل حماماته البيضاء وهي تهدل خلف بعضها وتفرش ذيولها كما المراوح وتطير قليلاً لتقلب قلبة أو اثنتين في الهواء وتحط وتهدل…
أيّ انسجام!؟.. قلت في نفسي وسلّمت عليه. كان جدي يحبني ولم أكن أخافه. كانت صورة الرجل المرعب الذي سمعت أمي مرة تقول أنه ذبح أقوى رجل في البلد كما يذبح خروفاً لأنه تحرّش بزوجة أخيه تتلاشى دائماً لتحل مكانها صورة جدّي الوديع كلما رأيته جالساً ينثر الحب لحماماته البيضاوات القلاّبات الوديعات. تجاوزت جدي بصمت ولم أقف كعادتي لمراقبة الحمامات.
دخلت حظيرة الجياد. كنت فرحاً للدرجة التي لا يمكن احتمالها، وأردت إشراك خالتي بفرحي، لكنه سرّ وعدت أمي أن لا أبوح به.
يا إلهي كم كان هذا رائعاً، أن تمسك الهول الذي يأتيك على شكل حية بكفيك وتراه ينحني أمامك ويستكين. مجبراً يستكين أمامك. أردت أن أشرك خالتي بمجدي، لكنه سرّ لا أستطيع البوح به وقلت، لا بأس سوف أجعلها تحس به فقط.
لمعت صورة خالتي في بقعة الضوء التي ألقيتها عليها من فرجة الباب، ونفر الحصان الذي كان مستكيناً في التصاق وجهه بصدرها.
هدّأت خالتي الحصان الأسود النافر ذي الغرة البيضاء. مسّدت بكفها على صفحة أنفه ومسّدت باليد الأخرى على رقبته فاستكان.
ـ إنه لا يحبني.. قلت لها وتقدمت منهما.
ـ بالعكس. إنه يحب من أحب. لكنه يغار منك قليلاً، أنت تشاكسه.
تقدمت منهما ووقفت مذهولاً بروعة هذا الانسجام الذي تفجره بقلبي رائحة الحظيرة النظيفة المختلطة برائحة التبن والعلف. بدت قدسية حزينة وهي تمسّد وجه الحصان وبدا هو حزيناً كذلك.
طبطبت بيدها على رقبته فانزاح عنها وبدأ يدور.
ـ جئتَ بوقتك.. قالت خالتي وأخرجت من صدرها رسالة.. هل تحفظ سرّنا كالعادة وتوصلها إلى صالح دون أن يراك أحد؟ قالت خالتي وقلقت عليها. سألتها ماذا حدث ولم تجبني.
ـ سأقول لك بوقتها. اذهب بسرعة الآن. أمك قادمة.
تجاوزتُ أمي دون أن أقف، لكنها لاحظت اندساس الرسالة في جيبي. لم توقفني ولم تسألني كعادتها إلى أين أنا ذاهب. أحسست أنها تعرف.
اتجه الحصان إلى أمي منذ أن رآها، ولم تخذل هي غبطته. مسّدت على صفحة أنفه ورقبته.
ـ كيف حاله معك!؟.. قالت أمي.
ـ طوّعته أخيراً، إنه لا يقرب غيري الآن.
ـ وأبوك!؟.. سألت أمي ومسّدت قدسية بيديها على الحصان الذي أصبح محاطاً بأمي وخالتي. كيف لا أحسده. ابتسمت قدسية وقالت باعتزاز.
ـ أبي!؟ أنت تعرفين. إنه يستكين له خوفاً منه. بينما يستكين لي حباً بي.
ـ انظري ماذا أحضرت لك.. قالت أمي مخرجة من جيبها عقداً من ذهب. أمسكت خالتي العقد بيدها مذهولة وذعرت من الدهشة.
ـ يا إلهي. ما أجمله. حية من ذهب. إنها تشبه حية العين. كم كنت أخاف الحية قبل لقائها.
ـ وجدته في سوق الصاغة. ذهب قديم لم يأبه به أحد. إنه لك. سألبسك إياه في يوم عرسك.. قالت أمي وذعرت خالتي.
ـ عرسي !؟.. قالت وطمأنتها أمي.
ـ لا تخافي يا قدسية. عرسك من الرجل الذي تختارين. اطمئني. أنا أعرف.
أطرقت خالتي برأسها خجلة.
ـ أين ذهب هاني الآن!؟.. قالت أمي. ربما علي أن أخبرك قبل أن يفاجئوك.
ـ أعرف يا نوارة. اليوم قالت لي أمي أن عبد الستار طلب يدي.
ـ ماذا!؟. قالت أمي قلقة واستمرت قدسية.
ـ عمي حمّاد كان عندنا البارحة واختلى بأبي.. قالت وبدا الضيق على وجه أمي.
ـ قلت له أن لا يفعل. دمدمت بينها وبين نفسها، وطمأنت أختها.
ـ لا تخافي. لا أحد يستطيع إجبارك.. قالت أمي وأجابتها أختها بأسى.
ـ أخشى أن أسقط في أيديهم. أنت تعرفين أبي.
ـ لا تهتمي. إنه يحبك في النهاية.
ـ أنا أخاف منه.
ـ لا تخشي منه. هو من جهة لا يحب أن يعارضه أحد، لكنه يحترم ويقدّر عزة النفس. ثم إنه يحبك. أنا لست قلقة من أبيك ولكن يقلقني موقف صالح. لماذا لا يتحرك ويخطبك!؟.
ـ يقول أنه خائف من مواجهة أبي بسبب فقره، وأهله رافضون وخائفون من أهلي.. قالت خالتي وقلقت أمي من تردد صالح. إنهم في النهاية سيتساءلون عن سبب رفض قدسية، لكنها طمأنتها. ضحكت وطلبت منها أن ترتدي العقد. وضعت أمي العقد في جيد خالتي.
ـ كم هو جميل عليك!؟ سألبسك إياه في عرسك.
ـ أخشى أنني لن أرى يوم عرسي.. قالت قدسية بأسى من يواجه الذبح. ونفر الحصان ناثراً التبن بقدميه…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد…

دفعت يد جدي الخشنة الثقيلة باب حظيرة الجياد، وأطلق الباب أنينه المعتاد. انسفح الضوء على وجه الصبية ذات العينين الواسعتين الحزينتين، وغطاها ظل الرجل الهائل الذي يتقدم بخطواته الثقيلة. جفل الحصان من نظرة الرجل إليه أن يبتعد، وابتعد عن وعاء التبن بيد الصبية، وأخذ يدور على نفسه. لقد جاءت لحظة المواجهة القاسية.
ـ انظري في عينيّ مباشرة. لا تزيغي بنظراتك.. قال جدي وانصاعت قدسية لأمره بهدوء.
“أنتَ طلبت ذلك”. قالت له عيناها. ونظرتْ بعينيها الحزينتين في عينيه ولم ترفعهما.
شعر جدي بالحرج. تكسّرت قسوته أمام الصخرة التي من ماء في عيني ابنته. أراد أن يزيح نظراته عنها لكن القاسي الذي ذبح إنساناً دون أن يرف له جفن لم يتعود التراجع. استعاد حجرية قلبه مستعيناً بصوته الثقيل وعكازه المرفوع.
ـ انظري إلي. قصة اختيار أختك لن تتكرر. ستتزوجين عبد الستار. وكتب الكتاب الخميس القادم. هذا نهائي، ولا أريدك أن تردّي.. قال ذلك واستدار بسرعة كي لا يهزم أمام حيادية عينيها. نظر إلى جدتي المنتظرة بترقب في الخارج.
ـ نظرات هذه البنت ستقتلني. أقنعيها أنت وإلا لن يكون خيراً.. قال جدي مقاوماً الطاحون الذي يهرس قلبه…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد…

ألقى القمر بضوئه على صفحة خدّ الصبية التي اتجهت متخفية بظلال الأشجار إلى سور البستان/ لن تفضحني الآن.. قالت قدسية موجهة نظراتها نحو القمر الذي استدعى بعض الغيمات لتغطية وجهه. وقفت تحت السور منتظرة بقلق. أصخت السمع ونقلت نظراتها في المكان. لا أحد. ضربت براحتها على السور ضربة، ضربتان وأطل الفتى المتخفي في الجهة المقابلة.
ـ هذا أنت صالح.. قالت ومدّت يدها التي احتضنتها يده ممتصة توترها اللاهث.
ـ ماذا حدث!؟ أنت ترتجفين.. قال لها.
تسارعت الأمور يا صالح. أصبحت خائفة. لقد حدد أبي موعد كتب الكتاب مع الخطبة يوم الخميس، وهو يعني ذلك. إنها ثلاثة أيام يا صالح. عليك أن تتحرك.. قالت قدسية وأصيب صالح بالوجوم.
ـ ماذا فعلتَ مع أهلك ؟.. سألته قدسية.
ـ إنهم غير مستعدين لتكاليف الزواج، وخائفون من غضب أبيك.. قال بأسى.
ـ وأنت!؟.. قالت قدسية وكأنها تريد أن تحسم أمر ما يقلقها.
ـ أنا لا أعرف. قدسية. أبوك مخيف. وليس بيدي شيء الآن.. قال. وسحبت قدسية يدها من يده. نظرت إليه نظرة عتب تحولت إلى نظرة حنان. غطت رأسها الذي انكشف واستدارت. صامتة استدارت. صامتة مشت دون أن تدري إلى أين. كانت قدسية صامتة ومكسورة. لم تأبه بالرجل الذي ناداها باسمها. لم تأبه بقبضة يده التي نزلت فوق الحائط بقوة، ولا بانهياره مسنداً ظهره على الحائط يبكي. لم تأبه بشيء. لم يعد يخصها شيء. صامتة مشت إلى حظيرة الجياد. صامتة مشت ومكسورة. صامتة أغلقت خلفها الباب.

انتفضتُ من نومي صارخاً: “ماما لقد هرب الحصان. لقد قطع حبله وهرب”.
ضمتني أمي إلى صدرها ممسدة على جبيني وشعري مرددة اسم الله:
“لا تخف. لا تخف. إنه منام”.. قالت وأنا لم أستطع الهروب من رؤياي. قلت وأنا لا أزال ألهث: “لقد رأيته. كان يدور في الحظيرة وينثر التبن بقدميه. شد الحبل برقبته وقطعه. كنت موجوداً وحاولت أن أمسك برسنه لكنني خفت. كانت عيناه جمرتين. جمرتين ماما، ويخرج منهما شرر النار. أمسكت بالرسن لكنه رفع قائمتيه الأماميتين وهو يصهل مبتعداً عني. سحب الحبل من يدي ونفر وابتعد. كان هائجاً ماما ومرعباً ولم أستطع الإمساك به. لم أستطع الإمساك به”.
ـ اهدأ الآن. إنه منام. خير إن شاء الله خير. إنه منام. منام فقط..    قالت أمي مكررة كلمة منام وكأنها تريد أن تطرد حقيقة تخافها.
هدأت قليلاً تحت تربيت يديها لكنني أحسست بقلق الكفين اللتين تربتان علي، ولم أستطع النوم.

حجبت غيمات نيسان المتناثرة وجه القمر. وخرست الضفادع ولا أدري لماذا عن النقيق. مشت قدسية صامتة باتجاه الحصان الذي كان ينتظر. كان وجهها حيادياً. لا حزن، لا فرح، لا دموع. فقط كانت عيناها بحيرتان صامتتان، وكان وجه الحصان حزيناً. مسّدت بيديها على صفحة أنفه واقترب هو منها أكثر يشمشمها.
ـ ها نحن مرة أخرى وحيدان أنا وأنت.. قالت قدسية له، واستكان هو بيديها. استكان الحصان بين يدي خالتي، ولا أعرف كم من السنوات استكان، ولا كم من السنوات سيستكين، لكنني أعرف أن جدي استيقظ عند الفجر ومضى إلى ساحة الدار الواسعة المفتوحة على البستان. مشى وئيداً نحو الحنفية. فتحها. رفع أكمام قميصه. تمتم باسم الله وبدأ الوضوء.
انصب الماء على اليدين الحجريتين الهائلتين، وانكشف وجه الموجودات.
كان الفجر ندياً ومنعشاً أكثر في البستان الذي تقع في طرفه البعيد حظيرة الجياد. ندياً ومنعشاً كان الفجر ودعا الفتاة التي قبّلت صفحة خدّ حصانها قبلتها الأخيرة إلى استنشاق دفئه.
فتحت قدسية الباب وظهرت. تملّت بعينيها وجه الحياة التي بدأت تستفيق حولها في غبش الفجر. فتحت يديها واستنشقت الفجر. كاملاً استنشقت الفجر والفجر أعطاها نفسه، تغلغل في خلاياها حتى الغرق. ربما أخطأ الفجر في استسلامه لها على هذه الصورة. ربما كان عليه أن لا يتغلغل إلى هذا الحد، لكن ما حدث حدث.
ألقت قدسية نظرة أخيرة وكاملة على البستان. أخذت البستان كاملاً في عينيها من بين غبش الفجر ودخلت.
نظرت إلى الفانوس المشتعل وهي تمضي إلى وتد الحصان. فكت الحبل عن الوتد: هيّا. هيّا.. قالت وهي تضرب الحصان الذي نفر. قاوم الحصان وأراد البقاء، لكنها أعادت الكرّة. ضربته بيدها الناعمة على كفله: هيّا. هيّا. صاحت به، وانطلق يعدو بجنون.
دخل الساحة. مرّ بجانب جدي الذي كان يرشق الماء على وجهه. صهل بجنون وأخذ يدور في الساحة وفهم جدي الأمر. قال بوجوم: لا. لا. صاح بكل كيانه: لا. وانطلق يعدو باتجاه الحظيرة. انطلق يعدو محاولاً الإمساك بقَدَر يجري ولا يتوقف. انطلق يعدو باتجاه الحظيرة التي بدأت تنفر منها النار.
اقتحم الباب ودخل. كان ثمة ما يتوهج بين الدخان. التقط أكياس الخيش المرمية في الزاوية وهجم باتجاه النار. لف ابنته التي ارتمت على الأرض وغطاها بالأكياس. كان جسدها يقاوم النار ويختلج. انطفأت النار. هدّأ ابنته بصوته. أنا هنا قدسية. اهدئي. يا ابنتي أنا هنا. اهدئي.
هدأ وجهها، وأصيب هو بالوجوم. لقد سكن الألم. إن هذا مخيف. كانت عيناه دامعتان وهو يطمئنها: انظري إلي. سأحملك إلى المستشفى. قاومي قدر ما تستطيعين. سأنقذك. أرجوك. لا تستسلمي أبداً. من أجلي قدسية. من أجلي يا ابنتي.
وضع كفه على جبهتها: اطمئني. اطمئني ، والصبية نظرت إليه. قالت له: “أنا آسفة يا أبي. أنا آسفة على ما فعلت”.
ـ اهدئي الآن، وسأجلب نقالة.. نظر حوله. لم يكن هناك لوح خشب. اتجه إلى باب الحظيرة. أمسك به وهزّه. كان الباب ثقيلاً. زأر مثل أسد جريح. تنفس بعمق، وانتزع الباب الذي هوى وهوى فوق الباب. صرخ بجدّتي التي قدمت تلهث أن تحضر بطانية تمدها عليه…
فتحت أمي الباب وخرجت راكضة دون أن تلتفت إلى أحد. وصلها الصهيل المتألم من بيت جدي القريب واضحاً دون لبس، وتبعناها أنا وأبي. رأيناها منحنية تمسّد جبين أختها مشجعة إياها، ورأينا جدي وجدتي يهيئان النقالة. اتجه أبي لمساعدة جدي واتجهت جدتي إلى ابنتها. حمل الرجلان خالتي على النقالة وصرخت جدتي من الألم. نظر إليها جدي بحزم فأخرسها. كانت تعرف ما تعني نظرته. كانت الوحيدة التي تعرف ما تعني نظرته…

وقفنا على باب الغرفة في المستشفى. امتلأ الممر بالأقارب. لم يستطع أحد الدخول إلى الغرفة. لقد
أمر جدي الجميع أن لا يفعل عندما دخل.
أمسك جدي يد ابنته التي هدأت على السرير الأبيض. قال لها:
كنت تعرفين أنني سألين ولن أجبرك. قالت له: نعم، وأنا آسفة يا أبي، أنا آسفة.
ـ أنا الذي يعتذر منك يا ابنتي. أنا الذي يعتذر.. قال لها وهو يبكي.
ـ لا أريد أن أراك تبكي يا أبي. أحبك أن تظل قوياً كما أنت.. قالت.
ـ حسناً يا ابنتي. حسناً. من تريدين أن يأتي لرؤيتك.
ـ أمي ونوارة فقط يا أبي. وهاني يا أبي هاني.
ـ حسنا. حسناً اهدئي. سأحضرهم.. قال وقبّل يدها.
دفعت أمي الباب دون أن تنتظره ووقفت. قال لها: ادخلي أنت وأمك وهاني فقط. نوارة قولي لها أن تعيش. أرجوك.
خرجت أنا بعد أن قبلت خدّ خالتي وقبلتني. قالت لي أمي أن أخرج لكي لا أرهقها أكثر. وقفت مع أبي وجدي في الممرّ ووصلتنا الصرخة. شقت صرخة الويل جسد الغرفة. أطلقت جدتي صرخة الويل، واتجه الجميع إلى الغرفة ما عدا جدي. بقي واقفاً واجماً. تعرّق. ثم شحب وجهه. أمسك بيده اليسرى ساعده الأيمن. كان يبدو متألماً ويقاوم الألم. انحنى قليلاً. قاوم. قاوم بكبرياء الرجل الذي عليه لكنه أخيراً استسلم. أنّ بصوت مخنوق وانهار دون حراك…
ركض الممرضون لإسعاف جدي، وأنا نظرت إلى الرجل الواقف في نهاية الممر. كان صالح واقفاً بوجوم. نظرت إليه ونظر إلي. ركضت نحوه. وصلت إليه وضربته. بيدي الاثنتين ضربته. وصلت يداي إلى بطنه. ضربته وضربته ووقف هو دون أن يتحرك. وقف دون أن يتحرك، وعندما شعر أنني تعبت أمسك برأسي يواسيني. أشحت عنه. واتجه هو إلى الزاوية وأخذ يبكي…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة…

سقط جدّي. سقط الهائل الذي كنت أظنه عصياً على السقوط طريح فراشه. سقط الهائل الذي أثار استغرابي سقوطه ولم أصدقه حتى الوقت الذي ردت فيه جدتي على تساؤلي وهي تغطيني بقولها: جدك. نعم لقد ذبح أقوى رجل في البلد. ذبح  البيك كما قالت لك أمك. ذبحه مثل خروف كما قالت، لكن الأمر ليس على هذه الصورة بالضبط. جدك الذي رأيته يخيف الجميع أتى إلي بعد قتله للرجل. كان واجماً وحزيناً. مددت له يدي ووضع رأسه في حضني وبكى. بكى كما لم يبك أحد في حياته. أجهش ببكاء مرّ. لقد كان جدك رجلاً قاسياً لكنه كان رجلاً رقيقاً في الوقت نفسه. جدك كان رقيقاً لكن قضايا الشرف لا ترحم.
سقط جدي. ثقل نطقه. التوى وجهه قليلاً وتوقفت يده اليمنى الضخمة المخيفة ورجله اليسرى التي كانت ثابتة مثل جذع شجرة عن الحركة…

ضربتُ الكرة برجلي على الجدار، وأعدت الركل مراراً. مراراً أخذت
أعيد ضرب الكرة على الجدار دون هدف.
خرجت أمي من البيت صباحاً بثياب الحزن السوداء. رابطة ومغطية شعرها بعصابة سوداء. رافلة بعباءة الحزن الديرية السوداء، وتركتُ كرتي وتبعتها.
دخلت أمي بيت جدي. كانت النسوة متحلقات يضربن بأكفهن على الصدور في ساحة البيت حول “الندّابة” التي بدأت تضرب صفحة صدرها المعرّاة بعنف وهي تنشد نشيد أبد الحزن على إيقاع “المعادة”. إيقاع حزن الديريات الذي يشبه ضربات صنجات قدر منفلت لا يرى.
تأملتْ أمي حلقة الندب. تأملت النساء المحلولات الشعر، المندلعات الصدر وهن يلطمن على الصدور ويخمشن الخدود بقسوة: “ها. ها. ها. خذ أيها الجسد حقك من العقوبة. خذ حقك من العقوبة وعاقب هذا العالم”.
طلبتْ أمي المقص، وناولوها إياه. نظرت النساء إليها بحزن، وصرخن صرخات الويل.. تلك هما جديلتا نوارة. أجمل جديلتين معروفتين لهن، وأجمل مرجوحتين لقلبي الطفل. شعر أمي المنسفح وهي تمشطه أمامي حتى الينابيع. جديلتا أمي  اللتين طالما لففتهما حول جيدها وأنا أدور وألعب. جديلتا أمي اللتين أسلمتا نفسيهما ليديها الحزينتين القاسيتين اللتين تحركتا بضربة واحدة جزتهما دون اعتذار.
صرخت النساء صرخات الويل. وهلهلت النساء هلهلات الفرح التي تطلق في موت الصبايا لزفّهن كعروسات لإله الموت.. تلك هما جديلتا نوارة. مثار حسد جميع نساء الحي. جديلتا نوارة اللتين دوختا رجال الحي قبل أن تسلما نفسيهما بمكابرة التعالي على القهر ليدي الرجل الذي هو أبي. جديلتا أمي اللتين حجبتا نفسيهما عن العالم وعني.

دخلت أمي غرفة خالتي المسجاة. خرجت مغسّلة الموت ودخلت أمي الغرفة. كانت الغرفة هادئة وانقطع صوت الندب. كان كل شيء عادياً وبسيطاً، لكن الصمت ألقى عليه ثوب الجلال. كان كل شيء عادياً.. الستائر الأربع التي تغطي خزائن الجدران الأربع مسدلة وثقيلة. الديوانة التي على شكل مثلث رابضة في مكانها وتحيط بطرفيها الفراش الممدود على الأرض بحركة حماية، والنور تحول في الزوايا إلى ظلال هاربة من بقعة الضوء الوحيدة التي سمحت بها النافذة المقابلة للفراش والتي أضاءت وجه الأميرة النائمة أمامي.
كانت خالتي نائمة!! هل هذا هو الموت!؟ قدسية احتفظت بجمالها. كانت نائمة فقط، ووجهها الذي لم تستطع النار أن تطاله كان يضوع بالندى، ويحتفظ لي بسحر تعبير انجذابها نفسه الذي جذبني إليها أمام ” الحية ” في العين.
تقدمت ” ماما “. تأملت ملياً وجه شقيقتها. أخرجت من جيبها عقداً من ذهب كان عقد الحية، ووضعته في جيد خالتي: كنت سأضعه في جيدك يوم عرسك.. قالت. وانحنت عليها. قبلتها من جبينها وبكت.
مددت يداي بالرزمة التي تحملان إلى أمي. انتبهت إلي غير مصدقة وحزينة ومتألمة. كابرت حزنها وأخذت المجلات من يدي ووضعتها بجانب خالتي النائمة أمامي.
_ أريد أن تأخذها معها جميعها.. قلت أنا ونظرتْ هي إلي بحنان فاختنقتُ بدمعي الذي استعصى على الخروج وأنا أتذكر ركلي لباب الغرفة التي اختبأت فيها قدسية وصديقتها نورا كي تقرآ مجلاتي التي منعت الجميع من لمسها.. اختنقت بالدمع وأنا أرى الفتاتين الناظرتين بذعر من محاولات كسري للباب والضاحكتين على فشلي وقهري. اختنقت بالدمع وأنا أقول لأمي: هل ستسامحني خالتي على منعها من قراءتها. اختنقت بالدمع وضمتني أمي إلى صدرها متألمة من مكابرة انكسارها وهي تجبر انكساري.
_ هي لم تزعل منك أصلاً على منعها كي تسامحك، لكنك فعلت خيراً بإحضارها. سوف تعينها مجلاتك في رحلتها.. قالت أمي وضمتني بقوة وأجهشت ببكاء مرّ…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة…

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى