صفحات ثقافية

لا وقت في بلادنا للوقت

null
أدونيس

– 1 –

تتقدم الأرجل أحياناً، فيما تتأخر الرؤوس.

كيف يقدر جسمٌ أن يوفق بين رأسهِ الثقيل وقدمه الخفيفة؟

– 2 –

«الرياءُ» ممحاةٌ تمحو «الرأي».

– 3 –

«الحاجة» طلبٌ لا ينتهي. كيف نحدّد ما لا ينتهي؟

وفي نشوء بعض الحاجات «أسرارٌ» يتعذر فهمها، وإن كانت «مكشوفةً».

لماذا الحاجةُ، مثلاً، الى «القتل»؟ سواءُ انبثقت من داخل «القاتل»، أو أُمليت عليه من خارج؟ خصوصاً أنها تبدو اليوم في العالم كله، وبخاصةٍ في العالم العربي الإسلامي كأنها ملحّةٌ و «محييةٌ» كمثل الحاجة الى الحب والعِلم، أو كمثل الحاجة الى الخبز والماء.

هل الإنسانُ «لغةٌ في القتلِ» – أعني هل هو «حاجةٌ بيانيةٌ للقتل»؟

– 4 –

سلطةٌ لا «ترى» إلا من يُعارضها.

ماذا ترى، إذاً؟

وقبل ذلك، هل تعرف سلطةٌ كهذه أن ترى؟

– 5 –

«مقهى الزوزو» في جبلة:

الشاطئ هنا اصغاءٌ متواصل الى كلام البحر.

غير أن البحر لا يقول إلا نفسه.

ومع ذلك يعبر الموجُ هنا بكامل جسده: فهو، في آنٍ، شاعرٌ وموسيقي، راقصٌ ومغنٍ، مهندسٌ ونحات. ما أبهج الجلوس في أحضان هذا الشاطئ.

لكن، ما أشدّ الالتباس الذي يغمره. انه التباسٌ يبدو فيه كأن الشيء هو الذي يُغيّر الإنسان. ويُغيره الى درجةٍ يبدو فيها الشيء، أحياناً، كأنه هو نفسه الإنسان.

– 6 –

من أين لبعضهم هذه «القدرة»:

لا يرى نفسه إلا «كاملاً».

في حضرة مثل هؤلاء، لا تقدر إلاّ أن تصرخ:

ما أجملكَ أيها «النقصُ»، وما أكملك.

– 7 –

التاريخ العربيّ، اليوم، كلامٌ يتعفّنُ في قفصٍ اسمه «المجد».

ركامٌ.

رواية مسلسلة، بليدة وخانقة.

هكذا، كلَّ صباحٍ،

يترك لك الليلُ، عند وسادتك، طبقاً فارغاً اسمه النهار.

– 8 –

حقاً، عندنا نحن العرب:

لا وقت للوقت.

– 9 –

«حصين البحر»، البلدة التي تنتمي الى جغرافية الإبداع الذي أسس له سعد الله ونّوس وحيدر حيدر، ويتابع هذا التأسيس أصدقاؤهما الكثيرون، شهادة عالية تنضاف الى شهاداتٍ سبقتها (جبلة، ومرمريتا، وتلك القرية – القصيدة التي «ابتكرها» الشاعر الصديق الراحل محمد عمران، وجُسّدت في مهرجان السنديان) -.

أقول هذه كلها شهاداتٌٌ على أن الفن، شعراً وغناءً، تصويراً وموسيقى ونحتاً، يقاوم تشيّؤ الإنسان، سواء تمثّل هذا التشيّؤ في التمذهب، سياسياً ودينياً، أو في الخضوع لآلة التقنية. ذلك أنه تحررٌ من كل نشاطٍ نفعي، أدائّي. وهو، الى ذلك، طاقة استبصارٍ ونقدٍ لا تنطفئ. بينما «العقلُ» قابلٌ لأن يُروَّض، ويُحول الى أداةٍ للقبول والرضوخ والتسويغ، تماهياً مع «فن» التسلطِ والهيمنة.

التحية لمنظمي الملتقى الفني الأول في «حصين البحر»، ولجميع الفنانين الذين شاركوا فيه. والتحية لأهل هذه البلدة الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم لهذا الملتقى، كأن الفنّ، بالنسبة اليهم بصيرةٌ لا يكتمل البصر إلا بها. فأن نُبصرَ حقاً هو كذلك أن نستبصر.

– 10 –

قضبانٌ حديديةٌ رفيعة تنتظمُ في شكلٍ اسطواني: انها شبكته. صغيرة، ويكاد قعرها أن يطفو على وجه الماء. وضعَ في القُعر خبزاً أعاد عجنه بماء البحر. طعمٌ – طعامٌ لسمكٍ يتوقع، كما يبدو، أن يكون عشاءً له ولأصحابه. قوّة الخبز بطحالب التقطها عن وجه الصخر.

أكمل تجهيز الشبكة. تأكد من استعدادها لاستضافة الأسماك المسافرة الجائعة. حملها على دولابٍ من المطّاط، وأخذ يُدحرجُها أمامه، سائراً بها الى أحضان البحر. اختار مكاناً قريباً الى الشاطئ. غاصَ. وجّد المكان الملائم، فاستودعه الشبكة. طفَا ثانيةً، فيما كان الدولاب يتأرجح بين يدي الموج. أخذ الدولاب وخرج الى الشاطئ هادئاً كما لو أنه يُصغي الى صمتِ القضبان الحديدية الناحلة.

كانت طيورٌ صغيرة ورمادية اللون (أهي دُوريّ البحر؟) قد اغتنمت فرصة نزوله الى الماء، تلتقط فُتات الخبز، وها هي تفِرّ خوفاً منه، عندما رأته خارجاً.

يجلس الآن مع رفيقه، منتظراً ضيوف الشبكة.

كان الموج يتابع قفزه بين الصخور، لابساً ثياباً شفافةً من الزبّد، مُلتحفاً هواء البحر. بعيداً، كانت كُتلٌ من الزّبد تتدحرج على سطح الموج في أشكال قواربَ وأجسامٍ وأشلاء.

مضت فترةٌ، كنت في أثنائها أتابع التغيّر في وجه النارجيلة في مقهى حسان، في تلك الزاوية الفقيرة من كورنيش بيروت، فيما أتابع التغيّر في وجه البحر.

نزل الصيّاد ثانيةً الى الماء يستكشفُ الشبكة. يغوصُ. يطفو. أخرج الشبكة حاملةً ضيوفَها الأسرى. كان العدد قليلاً، غير أنه كان كافياً لإقامة وليمةٍ صغيرة.

أسماكٌ صغيرة ترقد هادئةً على الصخر.

ترفّق، أيّها الصخر.

من جــديدٍ، يكرّر الصياد تجهيز الشبكة.

من جديدٍ، يفتح البحر ذراعيه حتى لأولئك الذين ينهبون أعماقه. يأخذ الآن صَنّارته الحمراء الطويلة. يُهيئ الطعم ويلقيها الى البحر. ينتظر. يأمل. لا شيء.

لا صراع. لا قلق. المجهول هنا ليس عدوّاً. انه صديقٌ مُحتمل.

نورسٌ أمامه يترنّح وحيداً.

للأفق قدمان طويلتان يبللهما الزبد.

يغيّر الصيّاد مكانه.

تلتقط صنارته سمكةً صغيرةً لا تكادُ تصلحُ لكي تكون لقمةً لنورسٍ جائع، تائه.

غرُبت الشّمس.

غَرُبَ جمر النّارجيلة.

كلّ شيءٍ يغيبُ في الموج.

الحياة     – 21/08/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى