صفحات الناس

نحن صغار فعلاً

null


عبد المنعم رمضان

نحن الذين مللنا من اليسار ومن اليمين، الذين مللنا من الثورة ومن الثورة المضادة، الذين مللنا من الحداثة ومما بعد الحداثة. نحن الذين نحب الشعر ونموت فيه، ونحب القصة والرواية ونسعى وراءهما من مخبأ إلى مخبأ، ومن بيت إلى بيت، ونعشق الأفلام ونراها كأننا نولد من جديد. نحن الذين نسمع الموسيقى والأغاني داخل عروقنا في صمت وفي صخب، ونسمع دقات أحذية النساء ولهاثهن في صمت وفي صخب،
ونشرب الشاي الساخن ونستمتع. ونشرب الماء البارد ونستمتع، ونجوع كأننا ثيران طليقة، ونشبع كأننا ثيران أكثر طلاقة، ثم نتجشأ ونشعر بالراحة ونستمتع، نحن الذين لا نجعل من مقالاتنا فخاخاً لاصطياد الضباب العابر قرب الفجر، أو خزائن لها مقابض من الذهب، أو صناديق حظ لمن يدفع أكثر. نحن الذين أصدقاؤنا يصارحوننا بآرائهم فنحبهم ونكرههم، وأعداؤنا يصارحوننا بآرائهم فنكرههم ونحبهم، أصدقاؤنا القليلون وأعداؤنا الأكثر. نحن الذين نعترف بذلك لأننا طبيعيون، ما زلنا نعلق على جدران بيوتنا صور الممثلين والممثلات: سعاد حسني وميرفت أمين ونجاة الصغيرة وفيروز وكيم نوفاك وجين فوندا وسمية الخشاب وأنجلينا جولي ومارلون براندو وجاك نيكلسون، وصورة المذيعين والمذيعات: درية شرف الدين، درية شرف الدين، ودرية شرف الدين وصور العصافير واليمام والبوم والغربان وكل مخلوقات الله، ونلبس بنطلونات الجينز الزرقاء، ونحب أن تلبسها البنات، ونلبس قمصاناً واسعة لها ألوان لا نعرف أسماءها، و «تي شيرتات» تشبه الفتيات العذراوات، و «تي شيرتات» أخرى تشبه الفتيات ذوات الخبرة.

نحن الذين كان شعرنا أسود وصبغناه فأصبح أبيض، وكانت قلوبنا بيضاء وصبغناها بكل الألوان. نحن الذين لا نذهب إلى جنازة الكلب الأبلق الراكض فوق التل، لأننا لا نحب الحيوانات الخام، ولا نذهب إلى عرس ابن آوى أو آنية حتشبسوت لأننا لا نحب الطيور الخام، نحن الذين ما زلنا نجلس على الأرصفة لنرى مؤخرات العابرات، ونضحك لنرى صدى ضحكاتنا، ونطوف في الشوارع، ونهيم وراء بخار أنفاسنا، وفي بعض الأوقات نهيم وراء سحابة يتيمة أو سحابة حامل، ونردد «رباعيات» صلاح جاهين، و «جلنار» ميشال طراد، و «خواتم» أنسي الحاج، وننتقم من الشيخ إمام بالنسيان، ومن عبدالحليم حافظ بعابد عازاريه. نحن الذين نحب بوضوح غامض، ونكره بوضوح غامض، ونشتم بوضوح غامض، ونمدح بوضوح غامض، ونتآمر بوضوح غامض، ونتسامر بوضوح غامض، ونموت بوضوح فقط، ونجلس في بيوتنا بعد كل هذه الأوضاع، ونغادرها بعدها، لا نحرم أنفسنا من أن نقول كل كلام يروقنا أن نقوله، من دون أن نخشى العواقب، نحن الذين لا نملك كلاماً سرياً لأن كلامنا العلني غير مراقب، لا نملك هواتف سرية لان هواتفنا العلنية غير مراقبة، لا نملك نساء سريات، لأن نساءنا اللواتي صاحبننا منذ بداية الرحلة، اللواتي قدّمن لنا المساعدات، اللواتي وقفن بجوارنا في صبر وإنكار ذات، وغفرن لنا خطايانا، لأنهن لسن عضوات في الجمعيات الثورية النسوية، لأنهن لسن ضحايا ولسن جلادات. نحن لسنا الذين مع أول شقة واسعة فكرنا في من تكون المرأة البديلة، ومع أول «فيلا» فكرنا في أن بديلة واحدة لا تكفي، ومع الأسفار قلنا لأنفسنا: امرأة لكل مدينة، ومع الخوف الدائم قلنا: امرأة تحت الجلد وأخرى تحت اللسان. نحن لسنا الذين ننوي أن نكتب عن أشعارهن ورواياتهن كأننا عشاق ماجنون وكأنهن معشوقات ماجنات. نحن الذين سندعو كل معارفنا إلى أعراسنا، ولن نخجل إذا جاءوا بغير «السموكنغ» وغير فستان السهرة، إذا جاءوا بملابسهم البسيطة، إذا جاءوا بكلامهم البسيط، لأننا لا نفكر في حضور الإنسان الأول على الأرض ولا الإنسان الأخير، لا نفكر في آدم ولا ساركوزي السابع عشر.

نحن الذين نفضل حريتنا بغيابهم، على وجاهتنا بحضورهم، نحن الذين نكره الزهو ولكننا نسعد إذا زارتنا النساء عاريات في أحلامنا ومناماتنا، نحن الذين نكره مكالمات ورسائل الأب الروحي، سلامات سلامات عندما نمرض، مبارك مبارك عندما نتعافى، نحن نعلم كم هي زائفة، نعلم أن موظفين لا يشبهوننا، ويدخنون سجائر طويلة مستوردة، أو «بايب» أسود، ويكتبون تلك الرسائل البالية، لن نضع رسائلهم على مكاتبنا، لن نعلقها في صالوناتنا، لن نتعالى بها على ضيوفنا، كأنها التتويج، كأنها زاد المعاد وبلوغ المراد، نحن الذين نكتب ما نحب، ونقرأ ما نحب، لأننا غير مطلوب منا أن نكتب لأحد، غير مطلوب منا أن نكتب عن أحد، غير مطلوب منا أن ندافع ونتمحك بخالدين سبقونا بدعوى أننا نشبههم، أو بدعوى أننا عبرناهم وتجاوزناهم. نحن صغار فعلاً، لا يفكر فينا «السوبرمانات» لكي يصنعوا منا الديكور اللازم، لا يشترينا بائعو الجنس البشري لكي يحسوا بقوتهم ويستمتعوا بخضوعنا.

نحن الذين ثقافاتنا ليست للزينة، ثقافاتنا قريبة من سلوكنا، وسلوكنا قريب من كلامنا، وكلامنا المضطرب المتلجلج ليس لتيسير الأمور وتسهيل الأحوال، إنه للبحث عن الزمن المفقود. نحن الذين نجلس في بيوتنا كأطفال، ونخرج إليكم كأننا أفيال، ويسمينا الناشطون بالعدميين لأننا لا نفعل ما يفعلونه كل الوقت، الانبهار بالسلطات جميعاً ومحاولات الاتصال بها والكتابة عما لا يعرفون، والنوم تحت سقف سميك، وكتابهم ليس كتاب الجفر ولا كتاب فاطمة. نحن الذين لا نسعى كل الوقت في سبيل أن نشتري ذمة أحد، ولا نسعى كل الوقت في سبيل أن ننحني لأحد، أو ينحني أمامنا أحد، لا نسعى كل الوقت لنفسد أحداً، أو يفسدنا أحد، لأننا ضعفاء، لأننا نحب ضعفنا.

نحن الذين لا يحضر ندواتنا محمد حسنين هيكل أو عمرو موسى أو محمد فائق، ولا يجلس على موائدنا فخري كريم، أو محمد دحلان أو فاروق حسني، نحن لا نشتم مرؤوسينا أمام الآخرين لأنها وضاعة أصل ولأننا باختصار ليس لنا مرؤوسون، ولا نمدح رؤساءنا في السر وفي العلن، لأننا أيضاً باختصار عرايا، وطموحاتنا فوق طاقة هؤلاء الرؤساء. نحن الذين لا نقلدهم في الأمر بالمرايا حتى نرى أنفسنا عند كل لفتة. نحن الذين ما زلنا نحلم، وأنتم تحتقرون الحلم، ما زلنا نموت ونحيا، وأنتم تحتقرون الموت والحياة، ما زلنا نخطط ونرسم في أعماقنا، وأنتم تخططون وترسمون علينا. نحن الذين لا نخاف من هواجسنا وظنوننا، نحن الذين نموت نموت وتحيا القضية الفلسطينية مع أنها سرقت أعمارنا وستسرق الباقي منها، وأجلت الأشياء الضرورية الأولى، ونحن الذين نموت نموت ويحيا الشعر المناضل، مع أنه سرق الشعر منا، وأجل الشعر الجميل الأول. نحن لا نحب الشعوب، ولا نحب أعداء الشعوب، لا نحب القوميات ولا نحب أعداء القوميات، لا نحب البطل ولا نحب المهزوم، نحن لسنا العسكر، ولسنا الجنرالات، لسنا النخبة، ولسنا الغوغاء. نحن الذين لا نتشدق طوال الوقت بأننا كبار كي نخفي صغارنا، لا نتشدق بأخلاقنا ومحبة الآخرين لنا كي نخفي الحقيقة عن أنفسنا وعن الآخرين، ولا نتشدق بأننا لسنا لصوصاً، وأن من نعمل لديهم ليسوا لصوصاً، فالذي سرق الحزب الشيوعي هو كارل ماركس نفسه، ونحن نعرف، والذي سرق المومياوات هما أحمس ورمسيس الثاني، ونحن نعرف، والذي سرق منا خيالاتنا هو خيالنا الذي نتبعه، ونحن نعرف، نحن الذين لم يستطع سحر البرجوازية الخفي أن يسخرنا، نحن لسنا أسوأ الفلاحين الذين بعدما يصعدون السلّم يجعلون معاونيهم الآن هم أبناء سادتهم السابقين، ابن الوزير السابق وابنة الزعيم السابق وأخت الأب الروحي السابق ليطمئنوا.

نحن الذين نستطيع أن ننظر في عيون زوجاتنا وأولادنا ومحبوباتنا وأصدقائنا وأعدائنا، أن ننظر في عيون الناس بقوة، وليس بوقاحة وفجور، عيوننا قوية، وعيونكم فاجرة، عيوننا سليمة، وعيونكم مكسورة. نحن الذين قد يحتجزوننا في المطارات، وفي الفنادق، وفي المطاعم، وفي الحوانيت، وعلى قارعة الطريق، قد نؤجل شراء كتاب لأننا أغلى من الكتب، قد نهرب من دفع فاتورة المشروبات في مقهى صغير، لأن المقهى صغير، نحن الذين كل شيء، نحن الذين لا شيء. نحن الذين نعترف بآبائنا البسطاء وأمهاتنا الطيبات، ونلعنهم، نحن أحياناً الطريق بلا رفيق، أو الرفيق بلا طريق، أو الرفيق والطريق بلا هدف، نحن الذين لم نملك خطوط البرج الصاعد، ولا مؤهلاته، كأن نكذب بأريحية، كأن تكون جلودنا سميكة وناعمة بأريحية، كأن لا نحس بأذى منهم أقوى بأريحية، كأن نؤذي الأضعف بأريحية، كأن نفخر بالأمصال واللقاحات والفياغرا التي نتناولها بأريحية، نحن ما زلنا بشرا، ما زلنا مسكونين بالتعب والحيرة والبحث والتساؤل، نحن لا نسافر كل يوم إلى جزيرة، أو إلى جائزة أو إلى وليمة، أو إلى عنقاء مغرب، هل تعرفون عنقاء مغرب؟

نحن الذين نسخر من الرطانة ولا نحرض صاحب صحيفة على شاعر نكرهه، نحن الذين نحب النور لكي نرى الآخرين، لا لكي يرانا الآخرون، نحب التلفزيون لنجلس أمامه لا لنجلس داخله. نحن الذين لا نجبر تلاميذنا على النوم المبكر والخنوع من أجل أن ينجحوا، ولا نجبر تلميذاتنا على عدم النوم، وعلى مصاحبتنا إلى أسرّتنا من أجل أن ينجحن، لأننا بلا تلاميذ وبلا تلميذات، نحن نحب نزار قباني وصلاح عبدالصبور ويحيى حقي وإبراهيم المازني ورنيه حبشي وفؤاد كنعان ومحمود المسعدي ولا نتكسب بهم، نحن من ثلاثة حــروف، الحقيقــة من حــرفين فــقط، وأنتــم مــن كــــل الحروف، نحن فاشلون في إصلاحكم، وأنتم ناجحون في إفسادنا، نحن الغالبية، وأنتم السادة، نحن الاستثناء، وأنتم القاعدة، نحــن الــخونة، وأنــتم الأمناء، نحن الخونة جداً، وأنتم الأمناء جداً، نحن عبدالمنعم رمضان الضائع، الصعلوك، اللقيط، المقيت، العاشق، المهجور، المهان، الجبان، الضعيف، المريض، المصاب بكل الشرور، ذو الأظافر والأنياب، نحن سقراط ، وأبو ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، والحسين، والست زينب، والحلاج، ويا نسيم الريح، وغيلان الدمشقي، ومحــمد النفــس الزكيــة وأبو العــلاء المعري، ويوسفنايا وعبدالله النديم وعبدالحــميد الديب وتروتسكي، ونبيلة ومها وناريمان وليليان وهادي العلوي وجميلة إسماعيل وجمال حمدان وصنع الله إبراهيــم ونصــر حــامد أبو زيد، ونحـــن صغــار فعلاً، وأنتم كبار إلى أقصــى حــد، نحــن الضــلال، وأنتم المبعوثون لهدايتنا المنذرون لنا، آمين، آمين.

الحياة – 23/04/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى