صفحات الناس

كُتّاب المقالة في سورية، والمشي على حبال مشدودة

null


الطاهر إبراهيم

تمتلئ صفحات الإنترنت بعشرات المقالات وربما بالمئات التي تتناول الشأن السوري. معظم هذه المقالات يتناول سورية وشأنها عن بعد أي من خارج الوطن. وأغلبها وقفها كتابها على ذكر مثالب النظام الحالي والسياسة التي ينتهجها. كما تفند هذه المقالات الواقع السياسي حيث يحتكر النظام العملَ الحكومي ومعظمَ النشاطات الأهلية كالنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، حيث يفترض أن تكون هذه أهلية صرفة.

لن نتكلم عن الصحافة السورية الرسمية، حيث طرقنا موضوعها في أكثر من مقال سابق. كما لن نتكلم عن المقالات التي تنشرها صحف عربية، وهي بضع صحف تنشر مقالات أسبوعية أو شهرية لكتاب سوريين لا تنشر لهم الصحف السورية. هؤلاء الكتاب الذين ينشر لهم يُعَدون على أصابع اليد الواحدة. إذ الكثير من الصحف العربية ترفض النشر لكتاب سوريين –مراعاة أو خوفا- لأنها لا تتدخل، حسب زعمها، في الشأن الداخلي للحكومات العربية.

استطرادا، فإن “حَكَمَ البابا” وهو كاتب سوري تخصص في شؤون التلفزيون والمسرح، اضطر إلى مغادر سورية إلى الإمارات العربية، بعد أن ضُيق عليه في معيشته وحريته. وعندما كتب منتقدا تضييق الرقابة على حرية الكتاب السوريين، نُبِه من قبل رقابة الدولة المضيفة، لمراعاة الضيافة عندما يكتب عن سورية. فكتب مقالا عن السقوف المرتفعة والسقوف المنخفضة في الكتابة، وخلص إلى نتيجة مفادها أنه ربما كان يكتب تحت الرقابة السورية مالا يستطيعه تحت الرقابة في الخارج. ثم ليغيب “حكم البابا” بعد ذلك، عن شاشة كتّاب المقالة ومسرحها.

ما يعنينا هنا، هو إلقاء الضوء على ما يعانيه بعض كتاب المقالة الذين يعيشون داخل سورية. فهم يكتبون وهم على حذر شديد، وكأنما يمشي أحدهم على حبل مشدود، لأن معظمهم نزلاء سابقون في معتقلات النظام السوري. كما أنهم لا يستطيعون كسر أقلامهم والسكوت مطلقا، إذ أن التوقف عن الكتابة، إنما يعني العيش على هامش الحياة. فهم، على كل حال، لا يريدون أن

تعيدهم الكتابةُ إلى السجن بعدما دخلوه سابقا من باب “السياسة”، وقضوا فيه ردحا من الزمن. لمن لا يعرف، فإن الخوف من العودة إلى السجن عند هؤلاء، هو أضعاف الخوف عند من لم يعتقل سابقا. صحيح أن أجهزة الأمن تتجنب اعتقال هؤلاء ثانية، لكن الصحيح أيضا أن اعتقال أعضاء الهيئة الإدارية المنتخبين في “إعلان دمشق” مؤخرا، لا يطمئن أحدا.

صحيح أننا مازلنا نقرأ لكتّاب –لكنهم قلة- يعيشون داخل سورية مقالاتٍ يتهيّب أن يكتب مثلها من هو خارج الوطن، خوفا من أن ينال أقرباءه من الأذى بسبب ما يكتب. لكن الصحيح أيضا أن كتابا كبارا –في داخل سورية- غابوا عن صفحات الإنترنت وصفحات الصحف التي كانت تنشر لهم، أو لم نعد نقرأ لهم بالمرة، بسبب الخوف من سطوة أجهزة الأمن.

وبسبب هذه السطوة الشديدة وجدنا كاتبا كبيرا مثل الأستاذ ياسين الحاج صالح نهج نهجا مختلفا في التعامل مع هذه السطوة. فهو يوثق ما لقيه هو وغيره في المعتقل، وما انعكس على حياتهم بعد إطلاق سراحهم، فأنتج لنا ملاحم من تاريخ المعتقلات وماجرى لهم بعده مثل “الطريق إلى تدمر” و”عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سورية”. كما نشرت له “الحياة” اللندنية مقالات، لجأ فيها إلى تحليل الواقع السوري بأسلوب رائع، لكن يكتنفه الغموض، لينأى بنفسه عن سطوة السلطة وبطشها. ما حدا بقراءٍ كثرٍ –إلا القراء النخبة- أن ينصرفوا عن مقالاته إلى مقالات سياسية، لكتاب يعيشون خارج سورية، أمنوا من خوف ما يجري في سورية، أو إلى مقالات “الساندويتش” التي يكتبها كتاب مبتدئون بلغة شبه عامية في مواقع الإنترنت.

ونحن إذ نقارن حال الثقافة في سورية بحالها في لبنان، كأنما نقارن صحراء قاحلة لا تنبت إلا نباتات صحراوية بمروج فيها من الأزهاروالورود من كل صنف ولون. ففي لبنان حيث يعيش أقل من خمسة ملايين لبناني نجد عشرات الصحف يكتب فيها المئات وربما الآلاف، ويقرأها مئات الآلاف. كما نتابع في لبنان عشرات القنوات الفضائية التي يطل علينا من شاشاتها مئات المعلقين، وتستقطب برامجها السياسية المنوعة ملايين اللبنانين وغير اللبنانيين.

أما في سورية –حيث عدد السكان أكثر من عشرين مليونا- لا يصدر إلا ثلاث صحف تملكها الدولة، ولا يوزع من هذه الصحف مجتمعةً، إلا خمسون ألف نسخة –حسب إحصائية نشرها إبراهيم حميدي في “الحياة” قبل عدة سنوات- يذهب معظمها إلى دوائر رسمية. ولا يكتب فيها إلا كتّاب موظفون غطى على نباهتهم الصحفية خوفُهم من قلم الرقيب، حتى غدت الكتابة عند أكثرهم وظيفة يعيشون من ورائها، لا فنّاً كما هو حال زملائهم في أصقاع المعمورة. ولا يقرأ هذه الصحف إلا من يريد تقطيع وقته بانتظار إقلاع الطائرة من مطار دمشق. لقد مضى على سورية عهد كان يصدر فيها أكثر من ثلاثمائة صحيفة يومية وأسبوعية، في عهد الاستقلال في الأربعينات والخمسينات، وقبلهما في عهد الاستعمار.

أما القنوات التلفزيونية في سورية فحدث عنها ولا حرج. فلا يترقب برامجها إلا الذين يتابعون المسلسلات التلفزيونية، وهي –بخلاف البرامج السياسية- تستقطب معظم المشاهدين السورين. أما من أراد الأخبار فإنه يتحول إلى “الجزيرة” و”العربية” أو القنوات اللبنانية. وبكلمة مختصرة يمكن أن نوجز وضع سورية الثقافي والإعلامي بأنها تعيش في أمية إعلامية، وضحالة ثقافية.

يبقى أن نقول أن هناك معارضون سياسيون داخل سورية حاولوا أن يسددوا ويقاربوا، وكأنهم يمشون ما بين قطرات المطر مخافة البلل. بعضهم القليل كتب كلاما واضحا مفهوما شرح فيه ما آل إليه الأمر في ظل غياب الحرية ومصادرة الكلمة. ولا مصلحة في ذكر الأسماء. وعلى كل حال، هم ذيلوا ما كتبوا بأسمائهم الحقيقية، بل وبشهرتهم السياسية التي اشتهروا بها، وليس بأسماء مستعارة كما يفعل كثيرون غيرهم خارج سورية. وكأنهم يقولون: “لا يقطع الرأسَ إلا الذي ركّبه“.

ونحن -إذ نشد على أيديهم- فإننا لنقول لهم كما قال الله تعالى: “فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا” .. ولن يغلب عسْرٌ يُسْرَيْن، كما عقّب بذلك على الآيتين الحديثُ النبويُّ الشريف.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى