ذاكرة الصفحاتصبحي حديدي

من ذاكرة الصفحات:لقاء البيانوني ـ خدّام: طيران فوق عشّ الوقواق؟

null
صبحي حديدي
لم يكن لقاء بروكسيل الأخير، بين المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية علي صدر الدين البيانوني ونائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام، مفاجأة للذين كانوا علي علم بنداءات الإستغاثة (الخفية السرّية، في تسعة أعشارها) التي كان خدّام يطلقها صوب أطراف في المعارضة السورية هنا وهناك، كي تضمّه إلي صفوفها، لكي لا نقول: كي تنضمّ المعارضة إليه! المفاجأة الوحيدة ربما، هي أن تلبّي الجماعة نداء الإستغاثة في التوقيت الخاطيء تماماً، وضمن ما يشبه القفزة العمياء في الفراغ السياسي الذي يمثّله خدّام، الآن بالذات واكثر من أيّ وقت مضي.
وليس سرّاً أنّ نداءات الإستغاثة تلك انطلقت، أو بالأحري تسارعت وتواترت، بعد أن أدرك خدّام طبيعة المأزق الذي انتهت إليه مغامرته، وكيف اضمحلت الدراما تدريجياً، وانحسر التشويق سريعا. ولقد تفاقم المأزق بسبب أربعة عوامل، بين أخري اقلّ أهمية ربما:
1 ـ أنّ هذا الرجل لا يستطيع البتة أن ينفكّ أو يتهرّب من تاريخ شخصي مشين بغيض (ولا أتردد شخصياً في القول: دامٍ وفاشيّ)، انطوي علي المشاركة المباشرة والفاعلة في كلّ ما ارتكبه نظام حافظ الأسد من جرائم بحقّ سورية، منذ 1970 وحتي خروج خدّام من السلطة صيف العام الماضي في أعقاب المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث. ولهذا فإنّ قبوله في صفوف المعارضة، دعْ جانباً تنصيبه زعيماً لفريق بعثيّ معارض بأيّ معني، هو تنازل طوعي إنتحاري عن خطاب سياسي قالت به المعارضة طيلة ربع قرن، ونهض أوّل ما نهض علي إدانة ما يمثله أضراب خدّام من سياسة واجتماع وأخلاق. وغنيّ عن القول ان هذا الموقف من خدّام كان، كذلك، يعكس مزاج الشارع السوري العريض الذي يعرف، وكان يختبر كلّ يوم، موبقات آل خدّام إسوة بموبقات آل الأسد وآل مخلوف وآل طلاس وآل شاليش وآل مشارقة وآل الأحمر.
2 ـ أنّ سخاء المملكة العربية السعودية في فتح منابرها الإعلامية المقروءة والمرئية والفضائية أمام الدراما الخدّامية في فصلها الأوّل، أواخر العام الماضي، ثمّ شحّ المملكة المباغت وإغلاق جميع المنابر في وجهه بما يشبه الإنقلاب رأساً علي عقب، ترك النائب السابق في عرائَيْن: عراء الإعلام السعودي الذي تلقي أوامر (اتضح أنها صارمة حازمة!) بالتزام صمت القبور تجاه أنشطة وتصريحات ولقاءات الرجل؛ وعراء انكشاف التغطية السياسية السعودية علي نحو معاكس تماماً لما لاح علي السطح في الفصل الأوّل، حين بدا منطقياً تماماً أنّ خدّام يتمتع بغطاء سياسي سعودي، وإلا فكيف نفسّر إغداق الإعلام السعودي كلّ تلك الساعات في تغطية تصريحاته المبكرة المباغتة الدراماتيكية بالفعل.
3 ـ أنّ مرور الأيام، وانقضاء أكثر من شهر بعد تلك التصريحات الأولي، برهن علي أنّ انشقاق خدّام ـ إذا جاز بالفعل توصيفه هكذا ـ حالة معزولة وفردية وشخصية، وليس خطوة ابتدائية تمهد الطريق أمام خطوات أخري لا تقلّ أهمية ومغزي. لم يتضح، حتي الساعة، أنّ النائب انشقّ علي خلفية مخطط أوسع يتضمن، مثلاً، انشقاق شخصيات أخري والتحاقها بالنائب، من داخل سورية أو حتي من الخارج؛ أو الإعلان عن جيب انشقاقي من نوع ما ينبثق من صفوف حزب البعث، أو حتي من وزير حالي أو سابق، أو مدير عام حاليّ أو سابق في مؤسسة حكومية أو شركة كبري في القطاع العام؛ أو، قبل هذا وذاك، لمّ شمل بعض الشخصيات التي كانت نافذة تماماً في السنوات الأخيرة من حكم الأسد الأب، واستُبعدت لدرء ما قد تمثّله من أخطار علي توريث بشار الأسد (حكمت الشهابي رئيس الأركان الأسبق، علي دوبا رئيس الإستخبارات العسكرية الأسبق، محمد سلمان وزير الإعلام الأسبق، علي حيدر قائد الوحدات الخاصة الأسبق…).
4 ـ هذه العوامل الثلاثة السابقة تكاتفت لكي تفضي إلي العامل الرابع: أنّ خدّام أخذ يعيش عزلة قاتلة في المستوي الإعلامي بعد أن أفرغ كلّ ما في جعبته، بل زاد واستزاد وبالغ واستخفّ في إطلاق التصريحات التي لم يكن يُراد منها إلا مغازلة المانشيت واختلاق الإثارة؛ وأنّ هذه العزلة الإعلامية ترجمت شرطها في عزلة سياسية حتي من جانب بعض الأوساط السياسية السورية والعربية والغربية التي اعتادت ارتياد مجالسه في البدء، ثمّ انفضت عنه لأسباب لا تخفي، وبعد أن باتت أقاصيصه عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري كلاماً مكروراً معاداً. ومن اللافت أنّ انفضاض السامر جري لسبب آخر هو تركيز خدّام علي هذا الملفّ الأخير بصفة شبه حصرية، والنيل بين حين وآخر من رئاسة بشار الأسد، والإمتناع التامّ (لأسباب لا تحتاج إلي بيان!) عن المساس بالتاريخ الأسود لـ الحركة التصحيحية منذ عام 1970.
فإذا صحّ هذا التوصيف لمأزق خدّام، جزئياً أو كلياً، فما الذي دفع الإخوان المسلمين في سورية إلي هذا اللقاء الذي يرقي بالفعل إلي مستوي التحالف؟ وما مصلحة الإخوان في انتشال خدّام من مأزقه الراهن؟ وما ميزان الربح والخسارة في خطوة كهذه، أي مَن يربح ماذا من الآخر: الإخوان أم خدّام؟ وهل يمكن للقاء بروكسيل أن يشكّل أيّ إطار عمل ملموس في المستقبل القريب، بين جماعة الإخوان من جهة، وفرد واحد وحيد هو عبد الحليم خدّام من جهة ثانية؟ وفي مسألة التوقيت، هل يعقل أنّ قيادة الجماعة فاتها أن تلحظ المغزي الإنسانيّ المأساوي والسياسيّ القاتل لعقد لقاء بروكسيل في هذه الأيام بالذات، أي في أسبوع الذكري الرابعة والعشرين لمجزرة حماة؟ أليس مدهشاً أن يلتقي البيانوني مع خدّام يومَيْ 7 و8 شباط (فبراير)، حين جري في مدينة حماة ـ ولكن قبل 24 سنة ـ تنفيذ مجازر جماعية في حيّ الدباغة، وشارع أبي الفداء، وجنوب الملعب، وسوق الشجرة، وشارع العلمين، وحيّ الوادي، وحيّ المحطة، وحيّ الباشورة، وسوق المرابط، وسوق الصاغة، وحيّ باب القبلي، والمدينة، والجراجمة؟
صحيح أنّ خدّام لم يكن في أيّ يوم قائد سرايا الدفاع أو قائد الوحدات الخاصة التي نفّذت المجازر، ولكن… ألم يكن يشغل موقع النائب الأوّل لرئيس الجمهورية، حافظ الأسد؟ وبأيّ معني يمكن القول إنّ يديه ليستا ملطخّتين بدماء السوريين، ليس في حماة وحدها بل في أيّ وكلّ مجزرة ارتكبتها أجهزة الاسد الأب، أمنية كانت أم عسكرية أم بعثية حزبية أم منظمات جماهيرية؟ هذه الطائفة الأخيرة من الأسئلة لا تستهدف تخوين الإخوان علي أيّ نحو، كما أنها لا تسعي إلي أن تكون إخوانية أكثر من الإخوان في تقدير سوء التوقيت، ولكنّها في الآن ذاته لا تتنازل عن حقّ المواطن السوري في أن تكون غيرته علي التوقيت (أي غيرته علي ذكري مجزرة حماة) ليست أقلّ من غيرة الإخوان أبداً، لكي لا نقول أكثر منهم أيضاً!
في عبارة أخري، ليس المرء ـ المواطن السوريّ في هذه الحال ـ مضطرّاً إلي أن يكون عضواً في الجماعة كي يشعر بالأسي العميق لاختيار هذا التوقيت، بل لعلّ من الخير أن يكون المرء ذاته علمانياً تماماً وغير متأسلم علي أيّ نحو، وسورياً ديمقراطياً وطنياً ببساطة، كي يقول لقيادة الإخوان: بئس التوقيت أيها السادة! وبئس اللقاء كذلك، لأنّ قيادتكم ـ بلسان المراقب العام نفسه ـ كانت قد اشترطت علي خدّام الإعتذار عن ماضيه في السلطة، أي عن جرائمه في تعبير أوضح، قبل اعتباره معارضاً؟ ألم يعرب البيانوني، في سلسلة تصريحات أوضحها تلك التي أدلي بها لصحيفة فايننشيال تايمز ، عن عدم قناعته بتصريحات خدام المعلنة حول هدفه لنشر الديمقراطية في سورية ، وأنّ عليه أن يوضح موقفه من النظام سابقا، ويبيّن سبب سكوته، وبقائه حليفاً لهذا النظام قرابة 40 عاماً ؟
واضح، بالطبع، أنّ خدّام لم يلبّ أيّاً من المطالب التي ساقتها الجماعة كاشتراطات مسبقة كي تتحاور معه، وبالتالي فإنّ ميزان الربح والخسارة يشير إلي أنّ خدّام هو الذي يخرج رابحاً من لقاء بروكسيل، ليس أكثر من جماعة الإخوان بالمعني السياسيّ (لأنه كان الأكثر عزلة والأشدّ مأزقاً) فحسب، بل أكثر منهم بمعني تنازل الإخوان الطوعي والمجاني عن شرط اعتذار خدّام، وإسقاطهم الشكّ في صدق نوايا الرجل الديمقراطية، فضلاً بالطبع عن الجانب الأخلاقي في قبولهم بأنّ يتمّ اللقاء في أسبوع مجزرة حماة. وفي جانب آخر، لا يبدو البيان المشترك (الأقرب إلي إعلان نوايا في الواقع) وكأنه ترجيح بأيّ معني لهذه أو تلك من النقاط الأساسية في خطّ الإخوان السياسي والفكري بصدد مستقبل سورية، وذلك رغم العبارات الفضفاضة والإشارة إلي وجود رؤية مشتركة .
لقد حصل خدّام علي اعتراف الجماعة به كشخص فرد معارض أوّلاً، الأمر الذي تضمّن كذلك قبوله في برنامج التغيير الوطني، وضمّه من قبيل الأمر الواقع إلي أطراف إعلان دمشق حتي إذا بدا الأمر بمثابة حضّ لتلك الأطراف علي العمل المشترك وعقد اللقاءات لتوحيدها والوصول إلي صيغة للعمل المشترك لإنقاذ سورية من المحنة التي تعانيها وحمايتها مما يهددها في الداخل من الإستبداد والفساد، وما يحيط بها في الخارج من أخطار وتحديات ، حسب نصّ إعلان بروكسيل كما نشره موقع أخبار الشرق . إنّ مجرّد التطرّق إلي إعلان دمشق في هذا النص يوحي بأنّ فريقاً واحداً موقعاً عليه، هو هنا جماعة الإخوان، امتلك الحقّ في ضمّ زيد أو عمرو إلي الإعلان، حتي دون الرجوع إلي أيّ من أطراف الإعلان الأخري، ودون أيّ تشاور أو تنسيق معها.
والحال أنّ قول الجماعة، في بعض تبرير لقاء البيانوني ـ خدّام، أنها دعت بشار الأسد نفسه إلي الإصلاح، هو مقارنة كسيحة (هل يعقل أنهم يقصدون القول: فلندعُ بشار الأسد نفسه للإنضمام إلي إعلان دمشق؟)، وذريعة جوفاء نافلة بفضيلة ما قاله خطاب الجماعة ذاتها في توصيف انشقاق خدّام. ومن المدهش أنّ توقّع الجماعة علي نصّ كهذا، مع رجل كان حتي أشهر معدودات في هرم سلطة الفساد والإستبداد، بل وتكاد تغسل يديه من أيّ جريمة حين تشاطره القول إنّ الخطر المحدق بسورية سببه السياسات المغامرة التي انتهجها النظام ولا يزال . فقط، لا غير؟ وكأنّ جرائم 35 سنة من عمر نظام حافظ الأسد اختُزلت إلي مجرّد السياسات المغامرة التي ينتهجها اليوم ابنه ووريثه! أليس هذا تبييض صفحة؟ وليس صفحة خدّام وحده، بل مجلدات نظام الحركة التصحيحية بأسره؟ وإذا كان خدّام يتنازل اليوم فيؤكد علي دور الإخوان المسلمين الوطني وأنهم جزء أساسي من المكونات السياسية للعمل الوطني في سورية ، أليس هذا هو نفسه خدّام صاحب نظرية تجنيب سورية مصير الجزأرة التي شهدتها الجزائر… علي يد الإسلاميين؟
في لقاء بروكسيل كان خدّام شبيهاً بطائر الوقواق الذي يضع بيضته في أعشاش الطيور الأخري لتحضنها بالنيابة عنه، ثم ترعاها حتي تفقس، فيتولي الفرخ الوليد أمر التخلّص بنفسه من الفراخ الشرعية كي ينعم وحده بالعشّ والغذاء. ولهذا فإنّ الطيران فوق عشّ الوقواق هو، منطقياً، طيران افتراضي فوق عشّ لا وجود له أصلاً، ومن العجيب أنّ جماعة الإخوان المسلمين رضيت أن تمنح خدّام فرصة الطيران هكذا، ومنحته العشّ، وكذلك انتظار فقس البيضة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى