صفحات سورية

الفالق السياسي في المنطقة العربية بعد الزلزال الأمريكي

null

ثائر دوري

كتب الطاهر إبراهيم ، الكاتب السوري المعروف بتعاطفه ( أو انتمائه) إلى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، مقالاً في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ الاثنين 26/ 5 بعنوان (( هل صحيح أن “الإخوان المسلمين” وقفوا مع “حزب الله”؟ ))

رداً على كاتب اسمه مشاري الذايدي كتب مقالاً تحت عنوان “لماذا وقف الإخوان المسلمون في مصر والأردن مع حزب الله؟” نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية في 20 أيار الجاري و”النهار” اللبنانية في 22 منه .

حاول الكاتب الطاهر إبراهيم تفنيد فكرة مشاري الذايدي ، الذي جزم أن الإخوان المسلمين وقفوا مع حزب الله أثناء ما جرى أخيراً في لبنان و حاول أن يجيب على سؤال : لماذا فعلوا ذلك ؟ فحسب الطاهر ابراهيم إن الإخوان المسلمين لم يقفوا مع حزب الله بل كانوا ضده ، لذلك يستشهد بموقف كل من أسعد هرموش القيادي في الجماعة الإسلامية اللبنانية ، و موقف عبد المجيد ذنيبات المراقب العام الأسبق لـ”الإخوان” في الأردن ، و أخيراً بموقف السيد صدر الدين البيانوني المراقب العام في سوريا. حتى هنا كل ما ذكره السيد الطاهر صحيح . لكنه أخطأ عندما استنتج ، استنادا إلى مواقف المذكورين سابقاً ، أن الإخوان المسلمين وقفوا ضد حزب الله . و هذا غير صحيح لأن حماس، مثلاً ، لم تقف ضد حزب الله ، و كذلك المرشد العام محمد مهدي عاكف ، رغم ما قيل عن اجتزاء تصريحه الخاص بتأييد حزب الله إلا أنه لم يقل عكس ذلك . و كذلك المراقب الحالي للإخوان المسلمين في الأردن السيد همام سعد لم يقل إنه ضد حزب الله ، بل يستشف من تصريحاته أنه يتفهم دوافع الحزب في خوض الصراع الأخير في بيروت ، و لم يُنقل أحد عن السيد همام سعد أنه يقف ضد حزب الله ( لهذا السبب ركز السيد الطاهر ابراهيم ، و من هم في صفه على تصريحات المراقب العام الأسبق ، و عضو مجلس الأعيان المعين من قبل الملك ، السيد عبد المجيد الذنيبات مع ملاحظة أن هذا التعيين تسبب بأزمة داخل الإخوان إذ طالب بعضهم بإحالته إلى محكمة حزبية ) . كما أن رسالة التأييد ، التي بعثتها قوى نقابية و سياسية أردنية إلى حزب الله ، ضمت شخصيات محسوبة على تيار الإخوان المسلمين و منهم أمين عام جبهة العمل الإسلامي السيد زكي بني ارشيد. و هذا يعني أن من الإخوان المسلمين من وقف مع حزب الله، و هناك من وقف ضده، و لا يغير من هذه الحقيقة إنكار السيد الطاهر. و هذا الوضع لا يقتصر على الإخوان المسلمين ، فقسم من القوميين وقف مع حزب الله ، و قسم وقف ضده، و كذلك الحال بالنسبة لليبراليين،و الماركسيين، و حتى داخل القوميين السوريين . دون الدخول بتفاصيل حول حجم كل طرف وقف مع أو ضد حزب الله . إذاً هناك انقسام حاد داخل كل تيار من التيارات السابقة ، و هو ليس بجديد. و لا يخص الاصطفاف مع حزب الله أو ضده، بل يُعمم على كل ما جرى و يجري في المنطقة منذ الغزو الأمريكي للعراق و قبله بقليل .

فالزلزال الأمريكي الذي أصاب المنطقة خلق فالقاً عميقاً اصطفت القوى السياسية و الفكرية على جانبيه ، فقسم وقف على الجانب الأمريكي من الفالق ، و قسم آخر إلى جانب قوى المقاومة ، و يوجد قسم ثالث حاول أن يضع إحدى رجليه على الجانب الأمريكي ، و الرجل الأخرى إلى جانب المقاومة ، لكن ذلك كان صعباً و اقترب من الاستحالة لأن الفالق عميق بحيث يستحيل وضع قدم هنا و قدم هناك دون أن يتمزق الجسد !

بدأ تَظهير الصورة في المنطقة بهذا الشكل منذ مؤتمر المعارضة العراقية سيء الصيت في لندن ، ثم المؤتمر الذي تلاه في منتجع صلاح الدين في كردستان العراق ، و صلاح الدين منهم براء، إذ تشكلت في جبهة عريضة مؤيدة للمشروع الأمريكي ، ضمت مختلف التيارات السياسية التي عرفتها الأمة في تاريخها الحديث ، فقد تحالفت تيارات من الإسلام السياسي ، بشقيه السني و الشيعي ، مع تيارات ليبرالية قديمة و جديدة ، مع شيوعيين ،وصولاً إلى قوميين . و ما إن اكتمل الغزو الأمريكي و نهضت المقاومة العراقية حتى ظهرت على الجانب الآخر للفالق جبهة مقاومة للمشروع الأمريكي تضم ، أيضاً ، مختلف التيارات السياسية و الفكرية للأمة ،فهناك الإسلام السياسي ، بشقيه السني و الشيعي ، و التيار قومي ، و الماركسي ، و الليبرالي القديم ، طبعاً بغض النظر عن حجم كل تيار على جانبي الفالق ، فقلة عدد أفراد تيار ما أو كثرته على أحد الجانبين لا ينفي هذه الحقيقة . و تكرر نفس الأمر في لبنان، و في سوريا، و في الأردن ، و في فلسطين ، وصولاً إلى أبعد نقطة عربية عن بؤر الصراع في المشرق . فما إن تستمع إلى شخص في مراكش ، أو صنعاء ، أو الجزائر ، أو موريتانيا يبدي رأيه بما يجري على ساحات الصراع في المشرق حتى تجد له موقعاً على أحد جانبي الفالق ، الذي نتج عن الزلزال الأمريكي العنيف . لكن أحياناً تُغبش الصورة قليلاً ، إما بسبب القنابل الدخانية الإعلامية الأمريكية ، أو بسبب الإرباك الناجم عن الطبيعة فائقة الضخامة للصراع الدائر في المنطقة ، أو بسبب تعقيدات المنطقة العربية و الإسلامية ، من مخلفات صراعات نهاية الدولة الراشدية و بداية الأموية ، وصولاً إلى تقسيمات سايكس بيكو ، و ما ينجم عن ذلك من انقسامات و انتماءات ضيقة: طائفية ، أو مناطقية ، أو قطرية ،أو حزبية . و هي انتماءات تفضل السباحة في السواقي الطينية الضحلة بدل أن تستحم في نهر الحضارة العربية الإسلامية الواسع الدفّاق . فينجم عن تغليب الانتماءات الضيقة أن تجد شخصاً أو حتى قوة سياسية يقف أو تقف مع المقاومة العراقية، لكن يتردد أو تتردد في دعم المقاومة اللبنانية، و بالعكس. فقد تجد من يدعم المقاومة اللبنانية و يقف ضد العراقية . و هذا ناجم ، بالإضافة إلى تعقيدات المنطقة ، و ضخامة الصراع ، عن اختلاف الأسباب التي وقف كل فريق بسببها في هذا الجانب أو ذاك من الصراع . و هي أسباب ربما لا تكون واضحة حتى في ذهن صاحبها ، و هذا حال جميع الأمم عندما تتعرض إلى غزو خارجي، فهناك من يقف إلى جانب الغزاة لأسباب نفعية بحتة ، و هؤلاء لحسن الحظ قلة ، و هناك من شوهه القمع و الظلم الذي تعرض له خلال سنين طويلة في وطنه ، فلم يعد قادراً على رؤية الخيط الأبيض من الخيط الأسود في وقت يتعمد المحتل عبر إعلامه أن يجعل مساحات اللون الرمادي واسعة . و هناك من فعل ذلك نتيجة أوهام سيطرت على عقله حول إنهاء الدكتاتورية و إقامة نظام ديمقراطي. و قسم لا يريد من الدنيا سوى أن يأكل و أن يشرب ، فهو يتبع كل غالب. و آخرون تجذرت ثقافة الهزيمة في نفوسهم فلم يعودوا يحتملون أن تنكسر آمالهم إن علقوها على نتيجة معركة جديدة لذلك احتموا بأستار اليأس ، فسلموا أن أمريكا قوة لا تقهر ، و بالتالي لا بد من الخضوع لها مرحلياً على الأقل . و آخرون تذرعوا بإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، و قسم اصطف بجانب الأمريكان لدوافع طائفية ، و بالنتيجة تبلورت جبهة واحدة متكاملة ذات خطاب يشترك بخطوطه العامة و إن اختلف بتفصيل هنا أو هناك . و على الجانب الآخر ، المقاوم ، يمكن أن نرى تعدد المشارب ، أيضاً، و إن كان أغلب من يتصدون للمشروع الأمريكي واعين لما يفعلون مستعدين للتضحية بكل غال و رخيص في سبيل حماية الأمة ، لكن هناك من يقاتل ، فقط ، لأنه وجد ظهره إلى الحائط ، إذ لم يترك الأمريكان له ، إما كفرد ، أو كعشيرة ، أو طائفة ، طريقاً للنجاة فقاتلهم . و هذا أمر لا ينتقص من جهد هؤلاء الناس ، فحركات التحرير في كل أنحاء الدنيا و عبر كل مراحل التاريخ ضمت مقاومين قاتلوا و ضحوا لدوافع شتى.

لا يمكنك أن تجد مهتماً بالشأن العام أو ناشطاً سياسياً إلا و يقف على أحد جانبي الفالق ، لكن الفالق هذه المرة ليس حزبياً ، و لا فكرياً ، كما كان يحدث في مناسبات سابقة فيصطف القوميون ، مثلاً ، ضد الماركسيين ، أو يتصارع القومي مع الإخواني ، فهذه المرة اخترق الفالق الأحزاب و التيارات الفكرية ، فتشكلت جبهتان متحاربتان ، كل واحدة منهما تضم مختلف المشارب الفكرية و السياسية ، لكن واحدة متحالفة مع المشروع الأمريكي و الأخرى مقاومة له ، كما ذكرنا .فصار فرد من حماس يرى نفسه أشد قرباً إلى قومي مقاوم في العراق منه إلى طارق الهاشمي أو محسن عبد الحميد، و صارت صور حسن نصر الله تُرفع في الأزهر . و على الجانب الآخر نرى نفس الصورة ، فطارق الهاشمي و عدنان الدليمي يفضلان الماركسي مجيد موسى ، أو الطائفي المالكي على الشيخ حارث الضاري !

الإخوان المسلمين لم و لن يكونوا استثناء ، فقد أصابهم ما أصاب العرب جميعاً فبعضهم أخذ جانب المقاومة و لهم حججهم ، و البعض الآخر كان في الجانب الآخر و لهم حججهم المعروفة ، أيضاً . و لم يفعل الطاهر إبراهيم سوى أن أقر بهذه الحقيقة و هو يحاول أن ينفي وقوف الإخوان مع حزب الله.

كان من المفترض بعد خمس سنوات و نيف من الغزو الأمريكي للعراق و ما جرى على أرض العراق و لشعبه أن الأوهام حول أمريكا و التحالف معها قد زالت ، فقد بات بديهياً أن أمريكا لا يمكن أن تبني ديمقراطية ، و لا يمكن أن تقيم حداثة ، و لا أن تزيل ظلماً ، لا يمكن لها سوى أن تكون آلهة موت و خراب و دمار ، و بالتالي يفترض بمن كان يعول عليها لإنجاز المهمات سابقة الذكر أن يعيد النظر بفكره و بموقعه ، هذا أولاً. أما ثانياً فقد أثبتت المقاومة العراقية ، ثم اللبنانية ، و الفلسطينية أن أمريكا و ربيبتها إسرائيل كائنان قابلان للهزيمة ، و بالتالي فإن العصر الأمريكي ليس قدراً ، فهاهي شعوب العالم من الصين إلى روسيا إلى أمريكا اللاتينية تندفع بعيداً عن مدار الولايات المتحدة بعد أن حررتها المقاومة العراقية من خوفها، و بعد انشغال الولايات المتحدة عنها بمعاركها على أرض مشرقنا العربي ، التي صار مؤكداً أنها لن تربحها . و أخيراً نُذّكر أنه قبل عام 2003 كان يُقال عن معارضي المشروع الأمريكي أنهم مدمنو هزائم ، لأنهم لا يتبنون إلا القضايا الخاسرة ، كما كانوا يقولون ، لكن منذ عام 2003 و حتى اليوم صارت هذه الصفة لصيقة بالمراهنين على المشروع الأمريكي و براكبي قطارها ، فقد راهنوا على حسم أمريكي سريع في العراق ، فخسروا ، و ما زالت الحرب مستمرة حتى اليوم بعد خمس سنوات و نيف لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية ، ثم راهنوا على سقوط المقاومة في فلسطين فحدث العكس ، و راهنوا على انهيار سوريا فلم يحدث ، و بعدها راهنوا على هزيمة حزب الله في حرب تموز ففشلت إسرائيل ، و أخيراً راهنوا على معسكر “الاعتدال” فخسر رموز هذا المعسكر في فلسطين و لبنان ، و يوشكون أن يفعلوا في العراق . لقد صاروا مدمنين على القضايا الخاسرة . ننصحهم ( كما كانوا يفعلون قبل سنوات مع المعسكر المقاوم ) أن يكتسبوا قليلاً من الروح البرغماتية الأمريكية ، التي تعرف متى تتوقف عن الرهانات الخاسرة ، فإن فعلوا يكونون قد استفادوا بشيء ما على الأقل من تحالفهم مع الولايات المتحدة . ننصحهم بالكف عن تبني القضايا الخاسرة . فقد أثبت الأحداث منذ عام 2003 و حتى اليوم في كل من العراق و سوريا و ايران و فلسطين أن من راهن على أمريكا أو أخذ جانبها قد خسر ، فلماذا تُصر يا الطاهر ابراهيم على المراهنة على الجواد الخاسر ! فقط تحلى ببعض البراغماتية .

قديماً قالت العرب” رب كلمة تقول لصاحبها دعني ” و أنا أكاد أسمع مقالك هذا يناديك دعني .

د. ثائر دوري: ( كلنا شركاء )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى