التفاوض السوري الإسرائيلي

المفاوضات السورية – الإسرائيلية: قضايا قديمة ووظيفة جديدة

null

وحيد عبد المجيد

يعرف كل من تابع مسار المفاوضات السورية – الإسرائيلية، منذ أن أُطلقت عقب مؤتمر مدريد للسلام 1991، أن الخلافات الباقية بين طرفيها لا تحتاج سوى إلى بضع جلسات قد لا تستغرق أكثر من أسابيع قليلة في حال قرر كل منهما أن الوقت حان لإنهاء الصراع ومبادلة الجولان بالسلام.

وعبر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عن هذا المعنى، عقب لقائه الرئيس السوري خلال زيارته الأخيرة إلى المنطقة قبل أسابيع قليلة، بقوله إن 85 في المئة من الخلافات بين سورية وإسرائيل حُلت. وربما يكون ما تم حله أكثر من هذه النسبة، خلال المسار التفاوضي الذي تميز بالجدية منذ جولته السادسة بعد تولي اسحق رابين الحكم، وخلال تسع جولات في الفترة بين تموز (يوليو) 1992 وشباط (فبراير) 1995، فضلاً عن لقاءات أخرى لم يُعلن عنها. وكانت القمة الأميركية – السورية (كلينتون – حافظ الأسد) بجنيف في كانون الثاني (يناير) 1994 بمثابة رافعة نقلت المفاوضات إلى مرحلة أكثر تقدماً. ولذلك دخلت جولتاها اللتان عُقدتا خلال العام نفسه، والجولة التي أعقبتهما في بداية العام التالي، في عمق قضايا الحدود والترتيبات الأمنية والمياه.

وقبل أن ينتصف عام 1995، تبلورت ملامح واضحة لتفاهم كان ممكناً أن يسمح بتوقيع اتفاق إطار، من نوع وأهمية ما أسفرت عنه مفاوضات كامب ديفيد المصرية – الإسرائيلية في أيلول (سبتمبر) 1978، ومهد لمعاهدة السلام بعد ستة شهور. وأودعت ملامح هذا التفاهم، الذي قام على انسحاب كامل في مقابل سلام كامل، لدى إدارة كلينتون إلى أن تكتمل رتوشه الأخيرة المتعلقة بوضع القسم الشمالي الشرقي في بحيرة طبريا، وبعض تفاصيل الترتيبات الأمنية.

ولم يكن صعباً إنهاء هاتين المسألتين، لو أن الوضع الداخلي كان مهيأ لتحقيق اختراق تاريخي، فكان هناك عرض من شركة كندية لتحويل بحيرة طبريا إلى منطقة استثمار كبرى تتولى هي التنسيق فيها لمصلحة الطرفين، كما كان خبراء أميركيون وضعوا أمام رئيس الوزراء الراحل اسحق رابين تصوراً لترتيب أمني ناجز يعتمد على الأقمار الاصطناعية عوضاً عن محطات المراقبة الأرضية، كما أن إقرار مبدأ التبادلية على صعيد المنطقة المنزوعة السلاح كان يتيح الوصول إلى حل للخلاف الذي ظهر على المدى الجغرافي لهذه المنطقة وأزعج الجانب السوري عندما أصر المفاوض الإسرائيلي على أن تشمل هذه المنطقة جزءاً من طريق الجولان – دمشق. وكان هناك ما يدل على أن اجتماع رئيسي أركان الدولتين في حزيران (يونيو) 1995، وهو الثاني من نوعه خلال ستة شهور، أحرز تقدماً لا بأس به على صعيد الترتيبات الأمنية. غير أن مرض الرئيس السوري الراحل كان مقلقاً لدوائر أمنية إسرائيلية نافذة، فضلاً عن أنه أعطى ذريعة للقوى السياسية المتشددة لممارسة ضغوط من أجل إرجاء التوصل إلى اتفاق مع سورية.

وعلى رغم عدم توافر معلومات كافية عن تفاصيل ما حدث حين أعيد إحياء هذا المسار في عهد إيهود باراك في نهاية 1999 وبداية 2000. فليس ثمة ما يدل على حصول تراجع عما كان قد أُحرز فيه تقدم. ولخص الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في مقابلة أجريت العام الماضي خبرته في رعاية المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية بقوله: «إن السلام بين طرفيها يمكن أن يتحقق خلال 35 دقيقة ما لم تقم إيران بعرقلته. وظهر أثر العامل الإيراني في مفاوضات 1999 بدرجة أكبر ووضوح أكثر من ذي قبل، خصوصاً من زاوية مطالبة إسرائيل بأن تضع دمشق حداً لعلاقاتها مع طهران.

غير أنه شتان بين أثر العامل الإقليمي حينئذ، وما أصبح عليه الآن. وهنا الفرق الجوهري بين المفاوضات الحالية التي ترعاها تركيا ومختلف الجولات السابقة في العقد الماضي. وهذا فرق يبدو نوعياً وليس كمياً، إذ اختلفت صورة الإقليم في الفترة الممتدة منذ الغزو الأميركي للعراق، وحدثت تحولات مهمة في التوازنات كما في أنماط العلاقات تحالفية هي أو صراعية، وتراجع الوزن النسبي للصراع العربي – الإسرائيلي في مجمله نتيجة تنامي صراعات أخرى خلقت بؤراً لأزمات ساخنة من إيران وبرنامجها النووي إلى العراق وملفه الدامي إلى لبنان والصراع على هويته ودوره في المنطقة.

ومن شأن هذه التحولات الواسعة أن تجعل المفاوضات السورية – الإسرائيلية ذات الرعاية التركية، وليست الأميركية هذه المرة، غيرها في الجولات السابقة، إلى حد قد يجيز استنتاج أنها تؤدي اليوم وظيفة مختلفة بالنسبة إلى طرفيها اللذين يبدو أن الوصول إلى اتفاق هو آخر أهداف كل منهما في الجولة الراهنة. فلا سورية مستعدة ولا إسرائيل جاهزة لدفع الثمن اللازم لمثل هذا الاتفاق، في لحظة يبدو كل منهما معنياً بالوضع الإقليمي بدرجة أكبر. وبغض النظر عما قصده وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر، قبل أيام، بقوله إن المفاوضات مع سورية يمكن أن تغير واقع الشرق الأوسط، يبدو أن كلاً منهما معني بتغيير تكتيكي في بعض التفاعلات الإقليمية أكثر مما هو مشغول بتغيير استراتيجي من النوع الذي يسفر عنه اتفاق للسلام.

فسورية ليست في وارد إعادة النظر في تحالفها شبه الاستراتيجي مع إيران والقوى الراديكالية في المنطقة، فهي لم تتخل عن إيران حين كان الوقوف معها ضد العراق أكثر تكلفة مما هو الآن. وبغض النظر عن حجم تكلفة هذا التحالف الآن، فهو يدر عوائد أعادت سورية إلى لبنان، وفرضت على إسرائيل أن تتفاوض معها مجدداً على رغم التحفظ الأميركي.

ولكن دمشق تريد هذه المفاوضات لتخفيف ضغوط واشنطن عليها في الحد الأدنى، وإنهاء هذه الضغوط في إطار تغيير في السياسة الأميركية ضدها في الحد الأقصى. فعلى رغم عدم فاعلية هذه السياسة، التي فشلت في عزل سورية ومحاصرتها في داخل حدودها، فهي تظل مصدر تهديد يعيد إنتاج نفسه في أشكال مختلفة. وآخرها حتى الآن التحرك لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وربما الضغط عليها، لتوسيع نطاق مهمتها، التي أعطت دمشق الاثنين الماضي موافقة عليها، لاختبار المكان الذي قصفت الطائرات الإسرائيلية في أيلول (سبتمبر) الماضي موقعاً فيه تقول واشنطن إنه كان مفاعلاً نووياً أُقيم بالتعاون مع كوريا الشمالية. وربما يكون وضع حد للتهديد المحتمل الذي قد ينتج من المحكمة الدولية في قضية اغتيال رفيق الحريري مقدماً، الآن لدى سورية، على استعادة الجولان.

وإذا كان تخفيف التوتر مع إسرائيل وإبعاد شبح الحرب الذي خيم على سماء البلدين، ضمن تداعيات حرب صيف 2006 ولم ينحسر نهائياً بعدها، هو مما تسعى إليه سورية، فهذا هدف أيضاً تريده حكومة تل أبيب، فالتجاوب الإسرائيلي مع الوساطة التركية هو قرار المؤسسة العسكرية – الأمنية والحزبين الرئيسيين في الائتلاف (كاديما – العمل)، وليس ملجأ لرئيسه من قضية فساد يستحيل الهرب منها إذا توفرت أركانها، وهناك تصريحات منشورة لأولمرت منذ أيار (مايو) 2007 على الأقل تفيد رغبته في التفاوض مع سورية واقتناعه بأن هذا هو الطريق إلى عزل إيران وإضعاف «حزب الله» (معاريف في 24/5/2007).

وهذا هو الهدف الإسرائيلي الرئيس من التفاوض مع سورية الآن. وتصل أهميته إلى الحد الذي قد يجيز المجازفة بطرح افتراض مفاده أن قطع علاقة سورية مع إيران و «حزب الله»، وحتى إضعافها بدرجة مطمئنة، يمكن أن يدفع المفاوض الإسرائيلي إلى إبداء مرونة غير مسبوقة في شأن الترتيبات الأمنية في الجولان. وعندما حذر زعيم «ليكود» بنيامين نتانياهو من أن الانسحاب من هذه الهضبة يعني وجود إيران فيها، كان يعبر عن أولوية التهديد الناجم عن التحالف بين دمشق وطهران ولكن بالطريقة التي تنسجم مع رفضه «الانتخابي» للمفاوضات مع سورية.

ويصل طموح المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في هذه المفاوضات إلى حد الرهان على إمكان تحييد سورية في حال ضربت واشنطن منشآت نووية إيرانية، ولا يخلو من مغزى أيضاً تزامن إعلان أولمرت وآخرين في إسرائيل اهتمامهم بالمسار السوري مع بدء تحرك الرئيس الأميركي في العام الماضي إحياء المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، ومن ثم الدعوة إلى مؤتمر دولي عُقد بعد ذلك بشهور في أنابوليس.

وإذا صح، في هذا السياق، افتراض أن أولمرت أراد الهرب من استحقاقات قضيتي القدس واللاجئين، فالصحيح بدرجة أقوى أن شريكه في الائتلاف ايهود باراك يريد الهرب من تكرار تجربة تفاوضية مع الفلسطينيين في عام 2000 يعتبرها مؤلمة وغير مجدية.

وهكذا، تبدو المفاوضات السورية – الإسرائيلية الآن كما لو أنها تؤدي لكل من طرفيها وظيفة جديدة غير حل الصراع بينهما، إنها الوظيفة الإقليمية لمفاوضات يريد كل من طرفيها أن يؤثر عبرها على تفاعلات المنطقة، بما يُبعد شبح حرب لا يرغبان فيها ويبدو تجنبها مقدماً لديهما على تحقيق السلام في الوقت الراهن.

الحياة – 08/06/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى