بدر الدين شننصفحات سورية

إشكالية إعادة تشكيل المعارضة

null
بدر الدين شنن
الجزء الأول
اللافت في الحالة السورية الراهنة ، أن الجدل المعبر عن الاختلاف والتعارض ، لم يعد قائماً بين النظام والمعارضة وحسب . وإنما انتقل إلى مكونات المعارضة ذاتها أيضاً .. فصائل وتجمعات وأفراداً .. والواضح من سياق هذا الجدل ، أن مرد ذلك لايعود في المضمون إلى ” مفاجأة ” تعليق معارضة جماعة الأخوان المسلمين للنظام ، فالجماعة كما يصرح قادتها أنهم منذ أواسط الثمانينات هم طلاب تفاوض وتصالح مع النظام . ولايعود جوهرياً أيضاً إلى انتفاء أو انخفاض دواعي الجدل الخلافي بين النظام والمعارضة من أجل تجاوز الاستبداد إلى الديمقراطية ، فالاستبداد بكل مقوماته مازال قائماً . ولايعود أيضاً إلى حدوث متغيرات على قدر كبير من الأهمية تشي بأن النظام قد يقدم الديمقراطية تكرمة لمواطنيه ” المعترين ” ، وجعلت المعارضة في حال تسمح لها بترف الانقسام حول الاقتسام ، فالمعارضة ما زالت محاصرة وملاحقة بأجهزة الأمن والمحاكم والسجون ، والنظام مازال جشعاً غير وارد لديه مثل هذا الكرم الديمقراطي . كما لايعود بالضبط أيضاً .. وأيضاً .. إلى تبدل في شروط سياسية ا ستثنائية تكتنف البلاد في اللحظة السياسية الراهنة ، فالشروط السياسية الاستثنائية .. أو الساخنة .. أو الحلقات الساخنة .. في سيرورة الكيان السوري ، المتفصل مع الكيانات الأخرى في المنطقة ، التي تتعرض مجتمعة بنسب مختلفة إلى ذات الشروط والحلقات ، وخاصة في فلسطين ولبنان ثم انضم العراق إلى هذه الخصوصية ، هي من السمات الدائمة للحالة السورية منذ الاستقلال إلى الآن ، وتدخل ضمن هذه الشروط والحلقات المخططات الاستعمارية ، والحروب الإسرائيلية المتواصلة على البلدان العربية منذ 1948 وصولاً إلى محرقة غزة الأخيرة 2009 ، والحروب الأميركية في الخليج ، والحروب بين الأخوة الأعداء في لبنان وغير لبنان .
وإذا كان مرد الجدل الذاتي المعارض لاهذا ولاذاك ، فإنه يعزز ويبرر الاعتقاد أنه انعكاس لأزمة مزمنة مركبة لدى المعارضة ، قبل أن تكون أزمة ناتجة عن تنقل جاعة الأخوان المسلمين من جبهة إلى جبهة ومن تموضع إلى تموضع . كما يعبر عن الابتعاد عن مضمون هذه الأزمة الحقيقي ، ويدفع اتجاهات البحث عن حل خارج مضمارها ، حيث لن يكون الحصاد إلاّ مازرع في الأرض من بذار عناصر الأزمة ذاتها . ما جعل من قرار تعليق معارضة الجماعة للنظام قضية المعارضة الكبرى ، وجعله محور نقاش ، ليس حول صوابية خلفيته أو خطأها ، وإنما حالة التفاوض أو التهادن مع النظام ، وتحميله جماعة الأخوان مسؤولية ضعف المعارضة إجمالاً . .
أي أن هذا الجدل إنما يعود ، كما تدل الوقائع اليومية المتوالية إلى وصول الحراك المعارض إلى حالة انسداد مقلقة لاتشجع على متابعة الطريق السابقة ، أو على ا ستمرار القناعة بجدوى جل أ شكال المعارضة التي مورست في المرحلة الطويلة المريرة الممتدة نحو نصف قرن ، التي انبنت في بداياتها على العداوات العنفية التناحرية الدموية ( كسر عظم ) ، والتي تخللتها لاحقاً طروحات طائفية بشعة ، ثم أعيد بناؤها ، بعد فشل حرب العنف والعنف المضاد في أوائل الثمانينات في القرن الماضي بين النظام والطليعة المقاتلة من الأخوان المسلمين ، على خلفية سياسية مطلبية لاكتساب نصيب من كعكة السلطة ، من خلال طروحات التصالح والتشارك .. مع تجاهل مصلحي طبقي متعمد في المرحلة الأولى العنفية ومن ثم في المرحلة السياسية المطلبية اللاحقة الممتدة إلى الوقت الراهن . أي تجاهل العملية الاجتماعية السياسية وتمايزاتها الطبقية المتوحشة الجارية في البلاد ، التي أدت ، عبر ا ستغلال السلطة والدولة ، إلى إثراء الطبقة السياسية الحاكمة وشركائها بشكل فاحش وبزمن قياسي ، وأدت إلى إفقار متزايد بشع لملايين المواطنين ، الذين يزدادون عدداً وانحداراً نحو قيعان البؤس ، وأدت تالياً إلى تلاشي العدالة الاجتماعية . الأمر الذي غيب أو طمس لدى معظم فصائل المعارضة الدلالة الاقتصادية الاجتماعية على أن النظام لم يفشل سياسياً وحسب ، وإنما فشل اقتصادياً أيضاً ، ما يعني أن البلاد ليست بحاجة إلى الاصلاح بإطار النظام ، وإنما بحاجة إلى نظام اجتماعي سياسي بديل مغاير .. نظام يوفر مقومات التنمية الاجتماعية الاقتصادية لمصلحة المجتمع . وما يعني أن البلاد بحاجة لمعارضة مطابقة لاستحقاقات إيجاد هذا النظام البديل .
وهكذا فإن الحالة السورية تواجه ا ستحقاقين متلازمين في آن .. ا ستحقاق إعادة تشكيل الرؤية السياسية المعارضة ، بحيث يكون التصالح والتشارك مع النظام احتمالاً مشروطاً بمقدمات دمقرطة الد ستور وإلغاء حالة الطواريء والأحكام العرفية التي تشكل عتبة النظام البديل ، وليس إلتزاماً مسبقاً من قبل المعارضة تحت سقف القمع .. وا ستحقاق إعادة تشكيل المعارضة ، بحيث تعبر عن القيم الوطنية الديمقراطية وتلازمها معاً واحتضانها قيم تنمية بشرية واقتصادية منفتحة على العدالة الاجتماعية ، وبحيث تعبر عن الطبقات الاجتماعية في البلاد ، وخاصة الطبقات الشعبية .. وليس عن المطامح والنزوات الفئوية والنخبوية والفردية .. بشكل يطابق متطلبات بناء النظام البديل .
وهنا .. وحسب التجربة التاريخية للمعارضة .. تكتسب إعادة تشكيل المعارضة الأولوية في الاستحقاقات المطروحة أمام المعارضة , وهذا يحيل إلى مسألة كبيرة الأهمية في هذا الصدد ، وهي أزمة الطبقة السياسية في البلاد ، لاسيما خواء البناء الفكري لهذه الطبقة داخل النظام وخارجه ، الذي يتجلى في عدم ا ستيعاب تطورات العصر ، وعدم رؤية آفاق المستقبل الاجتماعية والاقتصادية ومنعكساتها السياسية عالمياً ومحلياً ، والاتكاء على تدوير الأيام والامكانات المتاحة في بناء اقتصاد واجتماع وسياسة ..
بإيجاز .. إن العلة الأساس في مآلات المعارضة البائسة إنما تكمن في بنية الطبقة السياسية عامة وفي بنية الطرف المعارض فيها خاصة .. تكمن في تشوه هذه البنية بابتعادها أغلب الوقت عن التعبير عن حركة المجتمع وعن متطلبات المتغيرات الاجتماعية الاقتصادية ، والجري وراء توفير مقومات الحفاظ على السلطة بالنسبة لأهل الحكم .. أو الجري وراء التشارك مع أهل السلطة بالنسبة لجل المعارضة .. وما تنقل جماعة الأخوان المسلمين من جبهة إلى جبهة .. وتبديل أو إلغاء المرجعيات والأسماء عند قوى أخرى .. وتموجات التجمعات والتشكيلات السياسية بين وقت وآخر ، مثلما حدث في إعلان دمشق بعد اجتماع مجلسه الوطني الأول .. ومراوحة التجمع الوطني الديمقراطي في حال مستدامة لم تزهر ولم تثمر نحو ثلاثين عاماً .. إلاّ التعبير الملموس عن هذه العلة .. والاستحقاق الملح لإعادة تشكيل المعارضة .
الجزء الثاني
إن تجربة نحو نصف قرن من المعارضة القائمة على الحق الطبيعي في الاختلاف ، وعلى الحق المشروع في التحرر من الاستبداد وملحقاته التعسفية ، لايمكن اعتبارها ، لأنها لم تحقق نتائجها المتوخاة ، حرثاً في البحر .. وإنما ينبغي البحث في هذه التجربة .. في العام والخاص المتعلق بها .. في الأسباب الموضوعية الخارجة عن اليد .. وفي الأسباب الذاتية الناتجة عن مستويات الوعي أو الرغبات الإرادوية التي تحكمت بسيرورتها ، وفي صوابية أو خطأ الخيارات ، التي قاتلت من أجلها .. والتي مثلت مجتمعة هذا الحرث المرهق ، الذي يتعين التعاطي معه نقدياً ، لعل ذلك يساعد على إعادة تشكيل المعارضة بالاستناد ، إلى خلفية سياسية اجتماعية متجانسة ، وإلى فضاء طبقة سياسية مطابقة لهذه الخلفية ، وإلى معطيات العلم وقوانين التطور الاجتماعية الموضوعية وا ستحقاقات الحرية والعدالة الاجتماعية .
ونأمل أن يسهم ، ماجاء في مقالنا الأول وفي مقالنا الثاني هذا ، إيجابيا في هذا السياق .
لقد خلصنا في الجزء الأول من هذا المقال تحت هذا العنوان إلى ” إن العلة الأساس في مآلات المعارضة البائسة ، إنما تكمن في بنية الطبقة السياسية عامة ، وفي بنية الطرف المعارض فيها خاصة ” . والسؤال : ماهي عوامل هذه العلة ؟
في عهد الاستقلال الممتد من 17 نيسان 1946 حتى انقلاب 8 آذار 1963 ، كانت الطبقة السياسية السورية تتألف من ممثلي ملاك الأراضي ( الاقطاع ) وأسياد الأسواق التجارية في المدن الكبرى ، وأصحاب المعامل والشركات الصناعية ، ومن ممثلي الأوساط العشائرية في الريف والبادية ، وممثلي أقليات قومية لها حضورها في النسيج الوطني والاجتماعي . وإلى جانب ذلك كان هناك إلى حد ما ممثلون للعمال والفلاحين وفقراء المدن . وكانت تعبر عنها مجموعة من الأحزاب السياسية والشخصيات المستقلة ، كان أبرزها ( الحزب الوطني ، وحزب الشعب ، والحزب الاجتماعي القومي السوري ، والحزب الشيوعي ، وحزب البعث العربي الاشتراكي ) .
كانت الطبقة السياسية في ذاك العهد تنقسم ، حسب مصادر ونوعية الثروة والمصالح .. زراعية .. صناعية .. عقارية . وحسب تجمعات هذه المصالح كان يجري تداول الأدوار والمواقع بين طرفي السلطة والعارضة . وكان يجري ذلك على الأغلب عبر صناديق الاقتراع . حيث جرت ثلاث دورات انتخابية برلمانية ديمقراطية 1947 و1951 و 1954 . ويتميز برلمان 1954 – 1958 أنه مثل أوسع أطياف الطبقة السياسية المعبرة عن الطبقات الاجتماعية دون ا ستثناء ، إذ ا شتمل ذاك البرلمان على نائب للحزب الشيوعي . وكان يمكن في انتخابات برلمانية تالية أن يحقق الشيوعيون تمثيلاً برلمانياً واسعاً جداً ، وذلك لدورهم الوطني البارز ولتبنيهم بقوة مطالب الجماهير الشعبية وخاصة العمال والفلاحين . وكانت ( الطبقة السياسية ) تنقسم أيضاً إلى يمين ( رجعي ) ويسار ( تقدمي ) حسب وجهة النظر السياسية .. مع أو ضد .. سلباً أو إيجاباً .. المتعلقة بحماية الاستقلال الوطني من المخططات والأحلاف الاستعمارية ، التي كانت ناشطة في تلك الأيام ، وخاصة حلف بغداد والهلال الخصيب . أو المتعلقة بخيارات وبناء الاقتصاد الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية .. أو المتعلقة بالحريات العامة وسيادة القانون .
وكانت معادلة داخل / خارج في العملية السياسية تعتمد الوطنية المطلقة . أي تحريم وتجريم التعاون .. أو التكامل .. أو التقاطع مع الخارج الذي كان قبل سنوات محتلاً للوطن ثم انتقل بعد الاستقلال إلى التآمر والتخطيط للعودة إلى السيطرة على البلاد ، . وكل من كان يتجاهل هذا التحريم والتجريم وتراوده نفسه على تجاوز ضفة الوطنية إلى ضفة التعاون مع الخارج المتآمر على الوطن ، كان يخسر مصداقيته السياسية وشرفه الوطني ، وربما يفقد حريته سجناً أو يفقد حياته إعداماً تحت سقف القانون والقضاء .
وكان ثمة عقد اجماعي ، نابع من الد ستور ناظم لتداول السلطة .. قائم على رعاية المصالح الاجتماعية السياسية المشتركة .. ونابذ للتناقض التناحري بين من في السلطة ومن في المعارضة . أي أن تداول السلطة لايلغي الآخر أو يسوغ إقصائه تعسفياً .. سياسياً أو جسدياً خارج سيادة القانون وسلطة القضاء وموازين العدالة . بمعنى أن تحقق عملية ” نفي النفي ” أي إحلال فريق سياسي محل فريق آخر في العملية السياسية .. في لعبة تداول السلطة الد ستورية ، إنما تتحقق من خلال آليات القانون والديمقراطية .. من خلال معادلة وحدة مصالح المجتمع القيمية والاختلاف حول أشكال تجلياتها الملموسة .
وفي الحراك السياسي الداخلي عامة ، كانت السمات السياسية شبه ثابتة على هذا الفصيل أو ذاك دون حرج . فاليسار يسار .. واليمين يمين .. بناء على ممارسات وطروحات تتعلق بالقضايا المفصلية الأساس السياسية والاجتماعية قبل أي سمات أو تسميات أخرى . وهذا ماكان يسهل الشفافية السياسية والتحالفات ورسم السياسات .. ويسهل الخيارات الشعبية .
بيد أن بنية الطبقة السياسية السورية تعرضت في عهد الوحدة السورية المصرية 1958 – 1960 ، جراء تطبيق الإصلاح الزراعي وتأميم المعامل الكبيرة ونشوء القطاع العام ، تعرضت إلى تبدل نوعي هام . وقد فشلت البورجوازية السورية وملاك الأراضي في عهد الانفصال 1960 – 1963 في إلغاء التأميم والإصلاح الزراعي وإعادة البنية الاجتماعية السياسية إلى سابق عهدها ، إذ انقض انقلابيو 8آذار 1963 على السلطة ، وأعادوا التأميم والإصلاح الزراعي . وأعادوا العملية التحويلية الاجتماعية السياسية إلى دورتها التي بدأتها في تموز 1960 ، وبات ملايين السوريين من العمال والفلاحين وفي قطاعات اجتماعية أخرى يفكرون ، بحكم واقعهم الاجتماعي الجديد ، يفكرون بطريقة اجتماعية سياسية أخرى مرتبطة بالملكية العامة والتعاونية . وعم انعكاس الواقع الجديد على نسبة كبيرة من الطبقة السياسية فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل .
وكاد هذا المسار ، أن يتوسع ويترسخ في عهد 23 شباط ، لولا عملية القطع التي أحدثتها هزيمة حزيران 1967 ، التي أفضت إلى قيام ” الحركة التصحيحية ” بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد 1970 ، حيث وضع هذا المسار قيد التراجع ، ووضع إطاراً سياسياً ( الجبهة الوطنية التقدمية ) ا ستوعب فيه كل ماكان يعرف لليسار من مكونات تقريباً ، وحرض منذئذ نوازع مكونات السلطة ذات الجذور الريفية والبوروازية الصغيرة إلى الارتقاء في السلم الاجتماعي .. إلى الثراء والتحكم الاقتصادي . ما أدى إلى التحول الجديد في البنية الاجتماعية السياسية وفي تكوين الطبقة السياسية . حيث تحول ” اليسار السياسي ” الحاكم إلى اليمين الاجتماعي الغانم . وتحول ” اليسار المعارض ” إلى ” يمين مغامر ” . وخلال الفترة بين تصفية القديم وقيام الجديد الاجتماعي الاقتصادي ، سوف يكون البناء الاجتماعي العام وتشكيل الطبقة السياسية زئبقياً مشوهاً .. والقرار السياسي هو المرجح .. والخيار المشحون بالرغبة في التغيير في معادلة سلطة / معارضة ، هو خيار سياسي خاضع لمعايير وشروط السياسة البراغماتية ، التي تمتد اذرعها ونزواتها إلى كل الاتجاهات في الداخل والخارج .
بمعنى ، أنه منذ انقلاب 8 آذار 1963 تبدلت بنية الطبقة السياسية .. انقلبت لتتطابق مع شعارات وأهداف الانقلاب وممارساته . لم يعد هناك من تعايش بين اليمين واليسار التقليديين .. قفز ” اليسار بلباس حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة . وانتقل ذاك اليمين إلى التهميش والإقصاء .. وما لبث أن تشكل اليمين الجديد في رحم حزب البعث الحاكم نفسه وا ستدعى انقلاباً آخر لإقصائه وإلحاقه باليمين التقليدي . ثم ا ستقرت خلطة ” يسار يمين ” السلطة غلى صيغة الشرعية الد ستورية تحت عباءة ” الحزب القائد ” من جانب ، ومن جانب آخر ا ستقرت تشكيلة المعارضة على المنتمين إلى يسار منشق عن ” يسار السلطة ” وعلى قوى تحاول أن تتحرر من أطر اليمين التقليدي . وهذا ما وسم الطبقة السياسية الجديدة بسمات أو صيغة جديدة ، ماأدى إلى قيام معادلة ( سلطويين / معارضين ) خالية من طعم ورائحة المضمون السياسي التقليدي في حراك ( سلطة / معارضة ) .
بكلام آخر ، إن ثمة خلفية طبقية اجتماعية سياسية مشتركة بين النظام ومكونات المعارضة ” التقليدية ” الراهنة ، لعبت وماتزال دوراً معوقاً هاماً في عدم توفير مقومات حراك جذري معارض قادر على تقديم نظام بديل مغاير . وحيث أن هذه المكونات تتقاسم مع قوى النظام هذه الخلفية .. وتتقاسم معه الأطر العامة لمشاريع المستقبل الطبقية أيضاً ، فإن الصراع فيما بينها ينحصر إلى حد كبير في من وكيف ومتى يمتلك السلطة , ويمتلك القرار في بناء النظام السياسي الاقتصادي وفي الفرز الطبقي الاجتماعي ، من أجل امتلاك أقنية أكثر سيولة في توزيع الثروة الوطنية لصالح مالك السلطة والقرار من بين الفئات المالكة لمفاتيح الاقتصاد أو تطمح لامتلاكها . أي أنها تشترك في منظومة اجتماعية اقتصادية واحدة ، كما تشترك في الحرص على ترسيخ هذه المنظومة ودفعها باستمرار إلى مستويات أكثر تماسكاً وربحاً .. وأكثر انسجاماً مع النظام الاقتصادي السياسي الرأ سمالي الدولي من طرف ، ومن طرف آخر أن معظمها ينتمي إلى ماض مغدور .. مقسوم ” قسمة ضيزى ” حيث تولى بعضها الانقضاض على السلطة با سم ” اليسار ” والجماهير الكادحة ، من أجل تحقيق ” أهداف الشعب العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية ” ، وبعضها لم يبق له سوى أن يتولى ، على خلفية الصراع حول الزعامة دور ” اليسار ” بعد إعادة ترتيب الأولويات في الأهداف والمرجعيات ، ثم انضم إلى اليمين المستبطن قبر حملة هذه الأهداف .
وهكذا ، نتيجة هذا الفرز السياسي التنافسي البعيد عن حركة الشارع الشعبي الكفاحي والمطلبي ، تم تشكيل خريطة طبقية سياسية غريبة الشكل والمضمون ، حيث تتألف قوى النظام من ” يسار” قديم يمارس الاستبداد لإقصاء اليسار وغيره في الطرف المعارض ، وا ستيلاد رأسمالية جديدة من رحم القطاع العام والدولة ، لإعادة بناء اقتصاد رأ سمالي سيد على كل المستويات في البلاد ، وتتألف معظم قوى المعارضة من يسار سابق ومن قوى أخرى تشارك جميعها النظام الهدف الاجتماعي الاقتصادي وتعارضه في مسألة الاستئثار بالسلطة .
ورغم أن الصراع اتسم بين طرفي الطبقة السياسية ( سلطة – معارضة ) بالعنف والدم أحياناً والاعتقالات في جميع الحالات ، لكن الصيغة التشاركية والتصالحية فيما بين قوى هذه الطبقة ، للحفاظ على بنية النظام الاجتماعية الاقتصادية الطموحة ، ظلت هي الصيغة المثلى للتسوية ” التاريخية ” المنشودة . ما معناه ، شرعنة ا ستبعاد أي حل قد يسقط النظام بشكل يدمر معه ماهو مشترك اجتماعياً واقتصادياً ، وا ستبعاد فتح في المجال لإطلاق حراك جماهيري في غمرة لعبة هذه التسوية ، الأمر الذي ترك قطاعاً جماهيرياً وا سعاً بلا آفاق ، ونسبة كبيرة من الطبقة السياسية بلا حراك .
ولذا ، فإن الجذور والخلفية المشتركة للطبقة السياسية بطرفيها الحاكم والمعارض ، المتناقضة حول السياسة والسلطة ، بينما هي في حالة تقاطع حول ما هو مشترك في الأطر العامة .. في الاجتماع .. والاقتصاد .. المسماة بالليبرالية واقتصاد السوق ، التي يجري العمل حثيثاً لبلوغها هي مصدر علة المعارضة وإشكالية إعادة تشكيلها ، ما يستدعي القوى الديمقراطية واليسارية للقيام بعملية القطع التام مع الطبقة السياسية الخاضعة لهيمنة السلطة ، و التوجه نحو القطاع الشعبي الصامت المقهور أمنياً واقتصادياً وسياسياً .. وتحويل صمته إلى احتجاج عالي الصوت .. إلى حراك يفكك القيود عن السياسة وعلى بنية الطبقة السياسية .. ويخلق بنية تحتية سياسية مستقلة عن هيمنة النظام .. تتفاعل وتتجاوب مع الحراك المعارض العام ، الذي ينبغي أن يكون برنامجه متضمناً أبعاد الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في مهمة واحدة متعددة الوجوه وقادراً على تزويد مفاعيل هذا الحراك بمحفزات الاستمرار النبيلة المشروعة لمسارات المعارضة …
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى