صفحات ثقافية

عبدلكي وعرابي: فنانان من سوريا

null
بقلم دلدار فلمز
ولد يوسف عبدلكي في مدينة القامشلي ( أقصى شمال شرق سوريا ) سنة 1951 وحاز الإجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 ثم دبلوم حفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986  قبل أن ينال درجة الدكتوراه في الفنون التشكيلية من جامعة باريس الثامنة في باريس عام 1989.
يحتوي معرض يوسف عبدلكي الأخير على 24 لوحة بقياسات  مختلفة ومنفذة بالقلم الفحم والمواضيع طبيعة صامتة، وهو الموضوع الذي يشتغل عليه منذ عام 1995وتحمل عناوين صريحة وبسيطة بهذا الخصوص كـ ( صحنان، رأس سمكة، مسماران، جمجمة، حذاء، أصيص زهر، زنبقة، قرنا فلفيلة، حز بطيخ، سكين.,).
لعل أي تبسيط أو محاولة لقراءة هذه السكاكين الحادة، الجماجم المربوطة بأحكام، الأسماك المثبتة بالمسمار وبالتأكيد إن أي تحليل من هذه النوع  يحتوي  مغامرة مبتذلة في  تفكيك حقيقة عناصر أعمال عبدلكي بصرياً وجمالياً وفكرياً. إن مجمل هذه العناصر الموجودة في أعماله المشغولة عليها ليست طبيعة صامتة إنما تطرح مجموعة من تساؤلات تطفو عليها سمات احتجاج. إن ما يقدمه للرائي في هذا المعرض هو حصيلة مسيرته التي كرس نفسه لها منذ العام 1966 حيث اختار فنّ الحفر كوسيلة تعبيرية تناسب قدراته على الكشف عن طاقاته التعبيرية في مادته المشغول عليها والتي عرف كيف يتمكن من التعامل مع أسرارها من خلال التجريب المتواصل والبحث الدؤوب في مجال فنون الغرافيك .
إن قراءة هذا  النوع من الأعمال يتطلب توفّر عنصرين: الأول هو معرفة خلفية الفنان الفكرية والثاني خبرة عين الرائي ومدى تفاعله مع العمل الفني لأنه بمجرد انتهاء الفنان من إنجاز عمله تبدأ الحياة الخاصة بهذا العمل حيث نلاحظ إقامته أواصر التفاعل بشكل متجدد مع عين الرائي من خلال ذاكرته الجمعية ومن هذه الزاوية نستطيع قراءة التشكيلي السوري البارز الذي رسم ذات يوم خيولاً وجهابذة في صراعات متنافرة .
ومن نافل القول تحليل أعمال معرضه الأخير على أساس انها طبيعة صامتة. إن اختياره لهذه العناصر قائم على مفاهيم معرفية وفكرية وبهذا يريد أن يقدم الهامش المتروك في فضاء تعبيريّ عبر عملية قلب للقيم وإحداث خلخلة في رتل المتفق عليه بصرياً   «كل شيء يجري كما لو أن يوسف عبدلكي يريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة، من اللامبالاة، من النسيان».الشاعر الفرنسي آلان جوفروا.
نحن أمام حياة جديدة لهذه الأشياء البسيطة. نشاهد وسط اللوحة جمجمة مربوطة على خشب عارٍ أو رأس سمكة داخل صندوق أو سكينا حادّا فوق صحن وجميعها مجسدة داخل الفراغات كدلالات رمزية في التعارض بين الصمت والحرية وهو يظهرها في أمكنة ممسرحة ومسلطة عليها إضاءة مركزة ويستحضرها بعناية مدروسة اشتغل عليها بقدرة فائقة ومشحونة بطاقة تعبيرية في كافة تفاصيلها التي تعاني الوحشة والقسوة والعزلة .
لو استعدنا أزهار السوسن التي رسمها ” دورر” أو رأس الثور، أو جناح الشقراق، هو الرسام الذي يرتبط عبدلكي به ارتباط نسبٍ عميق، لانتابتنا الدهشة أمام قدرات هذا الفنان الهائلة، والتي بلغ بها درجة الإعجاز في تقصيه لموضوع رسمه بعين ثاقبة ويد صناع. غير أن الحيز الذي تعمل فيه هذه الأشياء المرسومة يضطلع بوظيفة التأكيد على هذه المواضيع بصفتها الطبيعة. هو حيز مصاغ ليدل عليها. أما عند عبدلكي، فالأمر مقلوب رأساً على عقب. أن الأشكال المرسومة هنا بمهارة لها وظيفة أن تشير إلى الحيز وتعلن انتماءها إليه وعملها في فضائه. لم تخرج رسوم دورر عن نظرة البيولوجي، أما رسوم عبدلكي فهي تتقدم على مسرح تراجيدي محموم، ومفخخ بالأسئلة”أميل منعم.  وهو يعمل بعناية على استحضار عناصره المرسومة إلى داخل لوحة يبث فيها رسائل تعبيرية ضمن جماليات الأشكال المجسدة بقلم الفحم وبيدين خبيرتين ومتمرستين يساعدانه على الاستحواذ على الفتنة إلى درجة الإغراء وبالتالي خلق أسئلة مثيرة ومقلقة  وتفجير دلالات إلى أقصى حالات التعبير. وهو يشتغل في الأشكال بروح قلقة ويظل يعالجها من كل النواحي والجوانب وهو يخضع مساحة لوحة كاملة لسيادة قدراته العالية.
يستحوذ على مجمل التفاصيل مشكلاً قاموساً لمفرداته الخاصة ويحاول البحث في تفاصيل عناصر لوحته. ويترك المساحات الواسعة في أعماله دون تردد وهو يعتبرها جزءاً مهماً من اللوحة ويوظف الفراغ  كالصمت الذي يوازي الكتلة ويجعله محسوساً له سماكة ولا يتهاون في الاشتغال فيها بكل الطرق من حكّ وخدش حتى لو تطلّب الأمر استخدام أظافره  وهو يحصل بذلك على شقوق ونتوءات ومفاصل ويفسح المجال أمام العنصر الأساسي في البروز حيث يزداد سطوةً ولمعاناً في مقدمة اللوحة بينما تكون الخلفية داكنة بكاملها. هكذا يقدمه أميل منعم:” ينشئ الضوء، منذ اللحظة الأولى، لحمةً بين نقيضين ويفرض بينهما حواراً قاسياً. شكلان محتشدان بالتعارضات الملتبسة بعضها بعضاً، صورةً ومغزى وإيحاءات. موازين فنية ومعايير هندسية وبصرية تقيم تكافؤاً وتوازناً تامين بين الأشكال من جهة. واختلال في حقل المعنى من جهة أخرى، يحيل الحوار نزاعاً. وفي فضاء هذا الثراء المعلن والمكنون يأخذ العمل ببث إيحاءاته. مواجهة بين عصفور ونصل، بين معدن مصقول وزغب طري، بين خط عمودي وكتلة مستديرة، بين ثقل وهشاشة، بين موت وحياة، بين شكل هندسي مسطح وحاد وشكل ملتف وملتم غني الخطوط متعدد المستوى. بين شكل صارم ومحسوم وشكل قابل للتشكل، بين سطح يعكس برقاً وشكل يمتصه ويتمرغ فيه. وإذ تنتعش اللوحة بالجدل القائم بين شبكة مجردة من العناصر المتناقضة ونظيرها من العناصر التصويرية تتضافر المكونات جميعها لإنتاج إحساس بالقسوة والحدة والعنف. إحساس يهيئ فضاء المعنى. عصفور ملقي في أسفل اللوحة لن يراه المشاهد إلا ذبيحاً رغم أن طبيعة الأشكال التي تشغل الحيز ومنطق علاقاتها لا يصلان بنا إلى هذا الاستنتاج يصعب اعتبار نصل هائل علامة على الدهماء، أن يكون قد أعد لعنق عصفور هزيل. نصل يسقط كقدر محتوم ينغرز بعيداً ويحفر جرحاً عميقاً وواسعاً كأنه ثابت في حفرته كالنصب المقيم. وإذ لا يفلح المشهد في إقصاء الإحساس بالجريمة أو استبعاد الإيحاء بوقوعها، تقيم اللوحة برهاناُ على البنية التي تحول طبيعة الأشكال الى دلالة رمزية: يموت العصفور لأن الأرض جريحة. يموت في معبر ضيق ومظلم، النصل فيه، حفار القبر وشاهدته”.
أما أسعد عرابي فهو من مواليد 1941 على الأرجح وهو معروف في الوسط الفني كفنان تشكيليّ وباحث في علم جمال الفنّ العربيّ الإسلاميّ القديم والمعاصر.خرج من دمشق وخلال إقامة ما يقارب ثلاثين عاماً في باريس جرّب فيها عدداً من الأساليب الفنية المتراوحة بين التعبيرية والتجريدية والتشخيصية المحدثة.
ورغم هاجسه في التجديد على الصعيدين التقنيّ والموضوعيّ نفذ معرضه الأخير بأسلوب التعبيرية المحدثة مجدداً بها خصوصيته من خلال دمشق كموضوع  ولاشك أن أعماله   استطاعت أن تخاطب الرائي  من الأعماق  حيث خرائط الذاكرة الحميمة وكأنه يستعرض شريط صور في وضعيات برزخية بين نشوة الحلم وكابوس الواقع. نقرأ في لوحاته قصصاً إنسانية فيها بعض من شقاوة المراهقة ونسمع أصوات وأحاديث جمهرات من النساء المرتديات عباءات سود.
يمتلك يدين متمرنتين ومتمرستين في رصد كل ذلك من خلال لغة تصويرية احترفها منذ سن الخامسة عشرة حين وجد فيها ملاذاً شخصياً  يجنبه صخب الاختلاط والإرهاق الاجتماعي لما يتطلبه من كياسة ونفاق ” إذا كان لابد من بداية، فقد ولدت مثل كل الناس لوحدي، سقط رأسي دون جليس أو توأم وبتاريخ ليس أكيداً وهو عام 1941م دمشق، ومن التابعية اللبنانية. أما المهنة التي اختارها له القدر فتعتمد مثل الولادة والموت على الوحدة. والاختلاء ساعات مديدة في سكينة اللاوجود والعدم والصمت والخواء”.
يغلب هاجس المكان على جميع أعمال المعرض، المكان ذاته الذي يمكننا أن نعتبره معبراً عاماً إلى عالم أسعد عرابي الفني، المكان بشخوصه وعناصره الحياتية وهو يجسده في معرضه الأحدث بطريقة ليست مجردة كما في بعض تجاربه سابقة إنما يشتغل على اختزال أشكالها يلون لوحته بمجموعة ألوان أساسيه  كالأخضر والأصفر والأزرق والأحمر وهي موزعة في أعماله  ككتلة معمارية  مشكلة مع بعضها البعض خليطاً بنائياً تفوح منه رائحة أسواق دمشق وياسمينها وأقواسها وحاراتها  وبالتحديد حارة “الورد” التي ولد فيها الفنان، وهو يستحضر دمشق قبل لعنة التحديث وهجمة التدمير والبناء العشوائي وكأنه طوال العقود الثلاثة التي مضت كان يحاول التخلص من شباكها العاطفي لكن حنيناً غامضاً ومجهولاً ظل يشده من أعماقه إلى مدينته الأولى وهاهو قد قرر أخيراً أن يترك باريس ويعيش فيها بقية عمره:
“سكنت دمشق قبل حرب 1948 م في كنف والدتي، هي عائلة عريقة يصل نسبها حسبما يدعون إلى أخ هارون الرشيد، ذلك الذي عزف عن الحكم وزهد في الدنيا وعاش درويشاً يضرب في أرض الله الواسعة، لذا فقد أطلق على العائلة اسمه ” البهلول ” ثم سعيت إلى استرداد علاقتي بعائلة والدي ” عرابي ” التي انتسب إليها في صيدا، وهكذا فقد كانت لوحتي مرتعاً ما بين تعامدات هيئة دمشق ومقامات ألوان مرفأ صيدا ومراكبه وانعكاساتها. تراوح خيالي منذ البداية ما بين المدنية المنطوية مع قناطرها تحت الأرض دون أفق، والآفاق الممتدة مع خضم البحر الأبيض المتوسط، وما تحمله أمواجه من تاريخ السنابك والصواري، ما بين هنبعل واسكندر المقدوني وسواهما.متمثلة في قلعة صيدا المشرعة أبداً قبالة البحر”.
والمعرض يحتوي عددا ضخما من اللوحات التي يستحضر فيها سلسلة ذكرياته التي عاشها بين جدران أحبها بشغف وحاول الدفاع عن معالمها الحضارية” استحضرت ذلك القصر الذي رسمته في الستينات مرات عديدة. القصر البالغ الجمال الذي أخلي بالتنظيم الشيطاني عند نقطة تقاطع شارع الثورة بحي الصالحية، وقد تم حريق هذا القصر بصورة ملتبسة، واستمر نصل شارع الثورة في أحشاء دمشق القديمة، رسمته في ذلك الوقت مرات عدة “.
ومن زاوية ثانية استطاع عرابي في معرضه هذا التخلص من المواضيع التي كانت تحتوي الحيوانات  الأسطورية والكائنات الممسوخة التي تناولها في تجربته ما قبل الأخيرة التي كانت تسبح في فضاءات اللوحة وهي تحدث معلنةً عن رفضها لجميع القيود. وباعتقادي الشخصي كانت تلك  إحدى التجارب الأكثر أهمية ونضجاً في مسيرة أسعد عرابي الفنية حتي الآن . لكن عرابي لا يهدأ حتى يقوم في كل تجربة بتدمير سطح اللوحة وتشيدها يأسلوب تشكيلي مغاير عن سابقه  تلبية لنداء رغبة داخلية في البحث عن جماليات جديدة في لوحة ربما توازي الرغبة في الاستقرار الوجودي والمكاني مؤكداً ذلك من خلال تبنيه مقولة الرحالة (إبن بطوطة):
” أسعى جهدي ما استطعت ألا أسلك طريقاً كنت قد طرقته سابقاً ”  وهو يتحاشى سيطرة العقل في تنفيذ أعماله ويعتمد إلى حد كبير على شعوره وحدسه الداخلي في إيجاد إيقاعات لونية متناغمة في علاقتها مع الكتلة المجاورة والفراغ الذي يحيط بالعناصر الأساسية في اللوحة.
نلاحظ أن الفنان يتجاوز التفاصيل الصغيرة في أعماله من أجل تجسيد دفقات حسية وذلك من خلال حركة اليدين ضمن مسارات حدسية مترجمة بحركتها مكامن أعماقه النفسية التي نتلمسها على هيئة تكوينات لونية متحررة من سطوة العقل ورصانته فهو يلبي نداء الرغبات النفسية ويشتغل تحت سيطرتها في وضع الألوان التي لا تخلو من بعض الانفعالية المتوترة والمصحوبة بمقامات لونية عديدة من خفايا وإشارات تفتح البوابات في معنى وجود الإنسان ومدى علاقته وارتباطه بالمكان الذي ولد فيه، ومن الواضح أن أسعد عرابي لا يرغب في قول مقولات فكرية كبيرة بل هو منحازاً بقوة إلى كينونته وصيرورته ويرفض القبول تحت سقف أي من المناخات التشكيلية الجاهزة فهو يعتمد على حدسه الداخلي فيما يريد طرحه من الأسئلة والقضايا ونجده في كل معرض له يسلك أسلوباً فنياً جديداً مغايراً ومدمراً عما سبقه متذرعاً بمقولة الفنان “بول كليه” إن مشكلة أصدقائي أنهم يفضلون كل مرة المرحلة السابقة “.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى