صفحات ثقافية

رواية “ليلة التنبؤ” للأميركي بول أوستر: نص يقول كل شيء دفعة واحدة

null
سمير الزبن
اذا كان العمل الروائي هو بنية، وهو كذلك، فان رواية “ليلة التنبؤ” للأميركي بول اوسترـ صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، بترجمة محمد هاشم عبد السلام، ضمن سلسلة ابداعات عالمية العدد 370 شباط/فبراير 2008 ـ هي نموذج العمل الروائي ومدرسة في صناعة البنية الروائية. ففي هذه الرواية التي لا يوجد فيها تقسيم لفصول او لمقاكع أو حتى عناوين فرعية، ويمتد السرد متواصلا على مدى صفحات الرواية كاملة، من الصفحة الأولى حتى صفحتها الأخيرة، بتجاخل ما بين شخصيات الرواية ذاتها، ما بين شخصيات روائية داخل الرواية ذاتها، بحيث تتقاطع العوالم الروائية بين شخصيات الرواية وبين الشخصيات الروائية التي يصنعها أبطال الرواية، حيث ثلاثة من شخصيات الرواية هم من الروائيين، ولكن هذا التقاطع لا يجعل القارئ يخلط بينها، فالتخوم بينها واضحة، ولكن مجموعها يشل بنية العمل الروائي، المستمر والمقطوع في ذات الوقت.
تنطلق الرواية من عالم الروائي سدني اور (بطل الرواية)، الذي ينجو من مرض مميت بأعجوبة، فقد شارف على الموت واعتبروه في أوقات في عداد الأموات. ولكن مرضه الذي ينجو منه يتركه عليلاً غير قادر على السير، وبصعوبة يتذكر هويته الشخصية. كما يتركه المرض وزوجته (جريس) مفلسان، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، لا يعرف ما الذي يفعله ليخرج من الحالة التي وجد نفسه عليها بعد مرضه المديد.
يقوم أور بكتابة رواية جديدة، بحسب نصيحة (جون تروس) صديقه الروائي العجوز وصديق والد زوجته، انطلاقاً من رواية كاتب اميركي آخر، هو داشيل هاميت، ففي رواية هاميت “الصقر المالطي”، يسقط على بطل الرواية بقايا بناء تكاد تقضي عليه، فيقوم بتغيير حياته، حيث يعتبر ان حياة اخرى كتبت له، سيقضيها بقطع كل علاقة مع حياته السابقة، ويقوم بالانتقال الى ولاية اخرى دون ان يخبر احد ودون ان يأخذ معه اي شيء. من هذا الموقع من الرواية ينصح الروائي جون تروس بطل الرواية سدني أور أن يبدأ روايته. فيبدأها بأن يسقط الى جانب بطل روايته نيك قارىء الكتب في دار نشر كبيرة مزراب يكاد يقضي عليه، ولأنه ينجو من الموت، يقرر أن يبدأ حياة جديدة في مكان آخر، بعيداً عن عالمه الذي كان يعيش فيه.
يأخذنا أور في روايته التي يكتبها أمام أعيننا على صفحات الرواية، في رحلة الحياة الجديدة لنيك. يحفزه على كتابة الرواية الدفتر البرتغالي الجميل الذي يشتريه من محل “قصر الورق” الذي يجده فجأة، ويختفي فجأة من طريقه الذي يمشيه يومياً من أجل مقاومة مرضه.
ينقل أور بطله الذي يقرر الحياة من جديد بعد حادثة السقوط الى ولاية أخرى، ليستقل سيارة مع سائق يقضي يومه الأخير في الخدمة، يعطيه السائق بطاقته، وهذا السائق كان قد خدم في الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية في أوروبا وشهد فظائع تلك الحرب. ينزل نيك في الفندق، الذي يعجز عن دفع فواتيره بعد يومين من نزوله فيه، لأن زوجته أوقفت بطاقات اعتماده في اليوم التالي لاختفائه. ولأن بطل روايته قارىء نصوص في دار نشر كبيرة، ترسل له حفيدة كاتبة أميركية من مطلع القرن العشرين اسمها سيلفا ماكسويل رواية جدتها التي كانت هربت مع عشيقها الى لندن وكتبت روايتها هناك وهي تحمل عنوان الرواية ذاته “ليلة التنبؤ”، وبقيت تلك الرواية معه، وأوصى بأن تكون الرواية لحفيدة الكاتبة. يأخذ نيك بطل رواية الروائي رواية “ليلة التنبؤ” معه في رحلته، حيث يلجأ الى السائق الذي أقله في بداية حياته الجديدة، ليطلب منه المساعدة. يعرض السائق عليه العمل معه في ترتيب أدلة الهاتف التي يجمعها في مستودعه. يوافق نيك. ويجد نفسه في ملجأ مضاد للأسلحة النووية، بين مجلدات أدلة الهاتف في أميركا وبعض الدول الأوروبية. ويصاب السائق بالجلطة، ينقله نيك الى المشفى، ويعود الى الملجأ من جديد، لينسى المفاتيح خارجاً، ويدخل غرفة داخلية لا تفتح من الداخل إلا بالمفتاح، الذي تركه خارجاً قبل أن يدخل الى الغرفة الداخلية. بنحبس نيك، في تلك الغرفة المحصنة تحت الارض وغير القابلة للاختراق، ويطفىء الكاتب عليه النور، وتبقى شعلة المدفأة الكهربائية هي التي تعمل فقط، ويأخذ نيك بالتفكير بكيفية الخروج، دون أن يجد حلاً، فينتظر السائق ليعود من المشفى، ولكنه لا يعود. ويترك أور بطله نيك في هذا المأزق الذي لا خروج منه.
في الوقت الذي يروي أور روايته المفترضة، يروي في ذات الوقت العلاقة المثلثة بينه وبين الروائي الآخر جون تروس، وزوجته جريس التي تعمل في التصميم الفني للكتب، التي تخبره بعد مرضه أنها حامل، فيكون سعيداً بالخبر، لأن هناك ما سيقوي العلاقة بينهما بعد أن شعر أنها تفتر بسبب مرضه. ولأنه في أزمة مالية يحاول ايجاد حلاً من خلال كتابة سيناريو فلم مأخوذ من رواية “آلة الزمن”، يفشل في ذلك، يمنحه تروس عملاً قديم له غير منشور لكتابة سيناريو له، ولكن الرواية تضيع منه على الطريق.
ونحن ننتظر ما الذي سيفعله الروائي اور ببطله المحبوس تحت الارض في ملجأ مضاد للاسلحة النووية. يعود اور الى الدفتر ليكمل الرواية بالعلاقة المثلثة بينه وبين تروس وزوجته جريس، ويكتب تصوره من ان الجنين الذي تحمل به جريس هو ابن تروس وليس ابنه، ويروي تصوره للعلاقة بين تروس وبين زوجته. وبعد ان يصل الى نهاية تصوره، يقوم بتمزيق الدفتر، الذي يحتوي على الرواية التي كتب جزءاً منها، وتصوره لعلاقة زوجته مع تروس صديق والدها اصلا. وبدخول الشاب جاكوب المجمن ابن تروس على الرواية، لتأخذ الرواية اتجاه آخر، فهو يكره جريس لاعتقاده ان علاقة تربطها مع والده. يسرق بيتها، ويعود ليأخذ منها ومن اور المال، لأن هناك من يهدده بالقتل اذا لم يدفع له المال، ويعرفان انه هو من سرق شقتهما. لا يعطيانه المال، فيقوم جاكوب بضرب جريس بعنف، يحاول اور الدفاع عنها ولكنه لا يسطتيع بسبب مريضه، في الوقت الذي يكون جاكوب في منزل اور وجري، يكون والده تروس قد توفى، وعدل وصيته وحرمه من كل شيء وأعطى كل شيء لأخيه، يتسبب ضرب جاكوب لجريس باجهاضها من الجنين الذي تحمله، وقبل ان يموت تروس يرسل شيكاً مالياً الى اور من اجل حل مشاكله المالية، الذي يصل بعد وفاة تروس.
على مدى الرواية يسير بنا اوستر عبر تعدد اروايات داخل الرواية الواحدة، دون ان يفقد الاتجاه العام للرواية، وعندما لا يجد المخرج لبطل روايته يتخلص من الرواية، لأنها ببساطة نص روائي يمكن ان يتخلص منه في اي وقت، ولكنه نص متبوع بروايته الذاتية ولأنها أيضاً لا تعجبه بتخلص منها بتمزيقهما معاً، وتكون روايته الذاتية هي السبب في تمزيق روايته المتخلية التي يكتبها. ورغم هذا الحشد الهائل للأحداث الروائية المكتوبة والمعاشة، يحافظ أوستر على توتر عالي في العمل الروائي، مستخدماً بنية الروي المتعدد المستويات في نص يقول كل شيء دفعة واحدة دون توقف.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى