صفحات ثقافية

مسألة الخائن والبطل

null


خورخي لويس بورخيس التقديم والترجمة: هنري فريد صعب

الأبيات التي صدّر بها بورخيس، بنصها الانكليزي، قصته الفانتازية هذه، مأخوذة من قصيدة “1919” التي وضعها الشاعر بيتس (1939-1835) الذي كان يعتبره بورخيس الشاعر الاول في عصره، خلال الاضطرابات الايرلندية، وقد ضمّها الى كتابه “البرج”. وهي تناسب تماماً هذه القصة، وتضعنا مباشرة، في جوّها الذي يدور حول النظرية الدورية للزمن، كما سنلاحظ. فالتاريخ، بدلاً من الانتقال البسيط المستمر من القديم الى الجديد،
كما يفترض ييتس، يندفع بالقديم. وهو في ذلك، لا يتخذ خطاً مستقيماً بل دائرياً وحلزونياً. وكدأبه، يتناول بورخيس في هذه القصة أفكار فلاسفة التاريخ، كالذين يذكرهم: كوندورسيه، هيغل، سبنغلر، وفيكو، ويلعب بهم لعبة قصصية. ويكون انطلاقه، بحسب اعترافه، بتأثير من كاتب الألغاز البوليسية تشسترتون، أحد الأثيرين عنده، اضافة الى ستيفنسون، كافكا، وشوبنهاور. وايضاً من نظرية الانسجام الازلي القائم من قبل، والتي تعتمد على ذرّة روحية فائقة: المطلق – الله، للفيلسوف، والسياسي، والرياضي، والجيولوجي، والمؤرخ: ليبنتس. وهي نظرية كان هذا الفيلسوف فخوراً بها الى درجة أنه كان يوقّع مؤلفاته بعبارة “مؤلف الانسجام الازلي”، وقد عرضها في كتابه “الفلسفة الإلهية” (1710). هذه النظرية تتلاقى مع فكرة العود الابدي التي هي محور أساسي في المخيلة البورخيسية. وتتردّد في أقاصيص بورخيس في صور شتّى. وهنا تظهر في صورة واضحة. فبورخيس الذي يخبرنا بأنه ابتدع هذه القصة، في الأصائل العقيمة، يشك في أن لا يكون خلفه، يقف بورخيس آخر ابتدع الاول، والأصائل العقيمة، وكل شيء، وأن يكون هذا البورخيس ايضاً يقف خلف آخر فآخر في عود أبدي. وننتهي أخيراً، نحن القراء، الى الاستيهام أن نكون شخوصاً في مخطّط كبير لأحدهم، ونتساءل، هل العالم منظّم فعلاً، طبقاً لـ”الانسجام الأزلي” السابق الوجود، أم لا؟ وهل أبطالنا “حقيقيون” أم “مزيفون” و”خونة”؟ ومع أن كل هذه الشكوك والتساؤلات تُركت مفتوحة، فإن بورخيس يوجهنا الى فكرته التي بنى عليها هذه القصة التي، رغم قِصرها، تتألف من عدد من الحبكات المنفصلة.

في نصوص متنوعة تناولت الرواية البوليسية والساغا (حكايات تاريخية أو ميثولوجية من الأدب الاسكندينافي) ورموز القرون الوسطى، أوضح بورخيس أن تقدم الأدب السردي الذي ينحرف عن الواقعية الوصفية، يستلزم مواضيع طريفة، ويوحي بمزايا الشخوص من طريق سلوكهم ومسار القص، كما يجدر به أن يبتكر عالماً من الرموز. هذه المبادئ التي اكتشفها أو أشار اليها، حوالى 1953، كناقد للأدب المعاصر أو القرون الوسطية، طبّقها بورخيس في سلسلة مدهشة من الأقاصيص.

في محاضرة له عام 1949 في مونتيفيديو، حدّد أربعة شروط تسمح للكاتب الفانتازي، بأن يهدم ليس فقط الواقعية المزعومة للقصة، بل بأن يُشرب الواقعية ذاتها خمرة الفانتازيا. هذه الشروط هي: أولاً، تضمين العمل الفني ذاته عملاً آخر في السياق ذاته. وهذا، كما يلاحظ بورخيس، نجده في “دون كيخوته”، حيث شخوص الجزء الثاني، يكونون قرأوا الجزء الاول. كما نجده في هاملت، حيث يقوم الممثلون أمام كلوديوس وحاشيته، بتقديم مأساة شبيهة بهاملت في نقاط عدة. وكذلك في “الأنيادة” (القسم الاول)، و”الألياذة” (النشيد الثالث). ثانياً، تلويث الواقعية بالحلم. وهذا نجده في فولكلور معظم الشعوب. ثالثاً، السفر في الزمن. كما لدى هـ. ج. ولز، في “آلة اكتشاف الزمن”، حيث البطل يسافر في الزمن ويعود بزهرة ذابلة. ورابعاً، الازدواجية. كما لدى هنري جيمس، في رواية “معنى الماضي”، حيث البطل، يُعجب ببورتريه من القرن الثامن عشر، يمثّل القرن العشرين، فيقرّر أن ينتقل الى ذلك القرن الأسبق، ويطلب من الفنان الذي رسمه، أن يُنجز له بورتريهاً مماثلاً. وتكون العلّة هنا تالية للمعلول. والدافع الى السفر إحدى نتائج السفر. مثل هذه الازدواجية وردت في أقاصيص عدّة لبورخيس، ومنها “مسألة الخائن والبطل”. فالبطل هنا يؤدي دور الخائن والبطل معاً، في محاكمة صورية، تساعد في تغطية الجريمة الحقيقية.

وهكذا بدلاً من أن تعصف

السنة الأفلاطونية

بالصواب والخطأ الجديدين،

تندفع بالقديم منهما؛

كل البشر راقصون وخطاهم

تنتظم وفق قرقعة صنجٍ همجية

و. ب. ييتس – البرج

بتأثير واضح من تشسترتون (مبتكر الالغاز الرائعة ومزخرفها)، والمستشار البلاطي ليبنتس (مبتكر الانسجام المسبق)، تخيّلت هذه المحاكمة التي سأعالجها ربما، والتي تبرّرني الآن نوعاً ما، في الأصائل العقيمة. قد تنقضي التفاصيل، والتصحيحات، والتعديلات، كما أن ثمة زوايا من التاريخ لم تُكشف لي بعد؛ واليوم، في الثالث من كانون الثاني 1944، أراها على الشكل الآتي:

يقع الحدث في بلد مقموع وصلب: في بولونيا، ايرلندا، جمهورية البندقية، أو إحدى دول اميركا الجنوبية أو البلقانية… والأولى أن نقول، وقع في الماضي، لأن الراوي، وإن يكن معاصراً، فالقصة التي يحكيها جرت في وسط القرن التاسع عشر أو مطلعه. لنقل (تيسيراً للقص) في ايرلندا؛ ولنقل في 1824. الراوي يُدعى رايان؛ وهو ابن حفيد الشاب، والبطل، والبهيّ، فيرغوس كيلباتريك الذي اغتيل وانتُهكت حرمة ضريحه بصورة غامضة، والذي تزدان باسمه أشعار برانتغ، وهوغو، ويتصدر نصبه هضبة شهباء في وسط المستنقعات الحمراء.

كان كيلباتريك متآمراً، بل كان رئيس المتآمرين السري والمجيد. وهو كمثل موسى الذي أبصر من أرض مؤاب، أرض الميعاد، ولم يستطع أن يطأها، قد لقي حتفه، ليلة الثورة المظفرة التي خطّط لها وحلم بها. اليوبيل الاول لحتفه يقترب؛ وظروف الجريمة التي أودت به ملغزة؛ إلاّ أن رايان الذي يعمل على كتابة سيرة البطل، يكتشف أن اللغز يتجاوز النطاق البوليسي الصرف. لقد قُتل كيلباتريك في المسرح؛ والبوليس البريطاني لم يعثر على القاتل؛ وقد ارتأى المؤرخون ان هذا الاخفاق لا يَثْلم صيته الحسن، لأن هذا البوليس بالذات قد يكون متورطاً في قتله. ثمة جوانب أخرى للغز تشغل بال رايان. وهي ذات خاصية دائرية؛ حيث يبدو أنها تكرر أو تخلط أحداث اقاليم بعيدة، في عصور بعيدة. وعليه، فلا أحد يجهل أن العناصر البوليسية التي تفحصت جثة البطل، وجدت رسالة مغلقة تحذّره من الخطر الذي يتهدده، إن قصد المسرح تلك الليلة؛ كذلك يوليوس قيصر، عند توجهه الى المكان الذي كانت تنتظره فيه خناجر اصدقائه، تلقّى إشعاراً لم يقرأه، يُظهر له خيوط الخيانة وأسماء القتلة. وايضاً كالبورنيا، امرأة القيصر، رأت في الحلم صرحاً مهدّماً كان مجلس الشيوخ خصّها به؛ وليلة مقتل كيلباتريك انتشرت شائعات كاذبة ومجهولة المصدر، في كل أنحاء الوطن، عن احتراق برج كيلغارفان الدائري، وهو حدث قد يكون نذيراً، لأن كيلباتريك وُلد في كيلغارفان. فهذه التوازيات (وسواها) بين قصة القيصر وقصة متآمر إيرلندي، حملت رايان على افتراض شكل سري للزمن، رسم تتكرّر خطوطه. ويستحضر في ذهنه التاريخ العشري الذي تصوّره كوندورسيه، والمورفولوجيات التي اقترحها هيغل، وشبنغلر، وفيكو، وشخوص هسيود الذين تحوّلوا من الذهب الى الحديد. ويستحضر ايضاً تناسخ الارواح، وهو مذهب يُرعب الآداب السلتية، وقد عزاه القيصر الى الكهنة ا لدرويديين “druidas” الغاليين؛ كما يتصوّر أن البطل فيرغوس كيلباتريك، قبل أن يكون فيرغوس كيلباتريك، كان يوليوس قيصر. وأنقذه من هذه المتاهات الدائرية، استنتاج طريف، استنتاج غوّصه من بعد، في متاهات أخرى أكثر تعقيداً وتنافراً: بعض كلمات نطق بها متسوّل كان يتحدث الى فيرغوس كيلباتريك يوم مصرعه، سبق لشكسبير أن قالها في مأساته “ماكبث”. والمفترض أن يكون التاريخ ناسخاً للتاريخ، وهذا أمر مدهش بما فيه الكفاية؛ أما أن يكون التاريخ ناسخاً للأدب، فهذا ما لا يُعقل… وهكذا يكتشف رايان في 1844، أن جيمس الكسندر نولان أقدم أصدقاء البطل، قد نقل الى اللغة الغالية أهم مآسي شكسبير، ومن بينها مأساة يوليوس قيصر.

ويكتشف ايضاً في دار المحفوظات مقالاً مخطوطاً بقلم نولان عن “المهرجان السويسري”؛ هو كناية عن عروض مسرحية ضخمة ومتنقلة تتطلب الآلاف من الممثلين، وتستعيد الوقائع التاريخية التي عرفتها المدن وحتى القرى الجبلية. كذلك تُظهر له وثيقة أخرى غير منشورة، أن كيلباتريك، قبل بضعة ايام من نهايته، وفي أثناء ترؤسه آخر اجتماع سري، وقّع حكماً بإعدام خائن، كان اسمه مشطوباً. الاّ أن هذا الحكم لم يكن من طبيعة كيلباتريك المتّسمة بالرحمة. ويسعى رايان الى إضاءة هذه النقطة (وهذا المسعى يشكّل إحدى فجوات هذه القضية)، وينجح في حل هذا اللغز.

لقد اغتيل كيلباتريك في مسرح، ولكن المدينة بكاملها كانت تُستخدم كمسرح، والممثلون كانوا كُثراً، وقد استغرقت المأساة التي تكللت بموته، أياماً عديدة بلياليها. وها هي أحداثها:

في الثاني من آب عام 1824، اجتمع المتآمرون. وكان البلد مستعداً للثورة؛ ولكن تبقى دائماً ثُلمة ما: أن يوجد خائن في الاجتماع السري. وكلّف فيرغوس كيلباتريك جيمس نولان أن يميط اللثام عن هذا الخائن. وقام نولان بهذه المهمة: فأعلن في وسط الاجتماع أن الخائن لم يكن سوى كيلباتريك بالذات. وأثبت ببراهين لا تُدحض صوابية اتهامه؛ وقضى المتآمرون بإعدام رئيسهم. ووقّع هذا الاخير عقوبته بيده، لكنه تمنّى أن لا تتسبّب هذه العقوبة بأيّ أذى لوطنه.

ورسم نولان يومذاك خطة غريبة. وألّهت إيرلندا كيلباتريك؛ حيث إن أقل شُبهة بخزيه قد تعرّض الثورة للخطر؛ وكان الحل الذي اقترحه نولان أن يكون إعدام الخائن وسيلة لتحرير الوطن. فارتأى أن يُصرع بيد قاتل مجهول، في ظروف مأسوية، متعمدة، تنحفر في مخيلة الشعب، وتُعجّل في قيام الثورة. وأقسم كيلباتريك على التعاون في تأدية هذه الخطة التي أعطته الفرصة ليخلّص سمعته، ومهرها موته بإمضائه.

لكن نولان، لضيق الوقت، لم يتمكن من اختلاق كل ظروف تنفيذ الحكم المتعدّد الادوار؛ فاضطر الى انتحال مسرحي آخر، هو العدو الانكليزي وليم شكسبير. فكرّر مشاهد بعينها من “ماكبث” و”يوليوس قيصر”. وقد استمر عرض المسرحية العلني والسري اياماً عدة. ودخل المحكوم عليه الى دبلن، وناقش، وانهمك في العمل، وصلّى، ونبذ، وتفوّه بكلمات مؤثرة؛ وكل من هذه الافعال التي كانت تعكس المجد، قد حدّده نولان مسبقاً. وتعاون مئات الممثلين مع البطل؛ وكان دور بعضهم معقداً، ودور البعض الآخر قصيراً. وبقي ما قالوه وفعلوه مسجّلاً في كتب التاريخ؛ في الذاكرة المشبوبة لايرلندا. وكيلباتريك الذي كان يقوده مصير دقيق أنقذ سمعته وأهلكه في الوقت عينه، أغنى غير مرة نص قاضيه بأفعاله وكلماته المرتجلة. وهكذا جرى عرض هذه المأساة المتعددة الشخوص في الزمن المحدد، حتى يوم السادس من آب عام 1824، وفي مقصورة ذات ستائر جنائزية تمثّل مسبقاً ستائر لينكولن، دخلت الرصاصة المبتغاة في صدر الخائن والبطل الذي تمكّن بصعوبة من أن يتلفّظ ببضع كلمات، بين دفعتين مفاجئتين من تبجّس الدم.

في عمل نولان، جاءت المقاطع التي يقلّد فيها شكسبير على مستوى مسرحي اقل؛ ويظن رايان أن يكون المؤلف أضافها، عسى يعثر أحدهم في المستقبل على الحقيقة. وهو يدرك أنه يشكّل ايضاً جزءاً من حبكة نولان… وبعد تأمل عميق، يقرّر أن يصرف النظر عن هذا الاكتشاف. وينشر كتاباً خاصاً يبسط أمجاد البطل؛ ولعل هذا أيضاً، كان مخططاً له مسبقاً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى