صفحات ثقافيةعلي جازو

رجُلُ النّاصية الغريب

null
علي جازو
لم يحصل لي أي أمر غريب. كان الصباح مثل كل صباح آخر. لا أتوقع عادة أن أحظى بشرف تلقي أمور غريبة في الصباح خاصة. أما اليوم، السابعة من صباح اليوم، في ضوء يابس ومرايا كان من المفترض رؤيتها على الأرصفة في هيئة زهور صغيرة، فقد حظيت أخيراً ـ بعيد شهر شتائي بارد وجاف ـ بإحدى الغرابات القليلة في حياتي ذات الطابع الشخصي الرتيب. وإذْ عدلت ياقة معطفي الأسود قرب الناصية ذات الممشى الاسمنتي المتردم الخفيض، لمحتُ شخصاً غريباً! سترون بعد قليل أن احساس الغرابة هذا ربما لم يكن في محله. أيّ منا يمكنه الجزم بأن أحاسيسنا هذه الأيام في محلها، سيما أنها مشوشة وسريعة ولا مبالية!!؟ وهل يعني ذلك أن الأحاسيس العامة البطيئة والحريصة هي أحاسيس صائبة وفي موقعها المناسب؟ ولم أتكلم كمن يرى أفكاره في أحاسيسه فقط؟ وإذا كنت لا أعرف كيف أفكر وأين تمضي أفكاري، فأجعل من أحاسيسي مدار أفكار تائهة؟ لم أحرفها وألوها لتخضع لفكرة لا أعرف مما خلقت ولم هي أصلاً جديرة بأن أعتبرها صائبة وجديرة بالبوح؟؟ أعتقد أن صفة الغريب التي ألصقتها بالشخص المجهول اعتباطاً تعود إلي أكثر مما تتعلق به؟ لكن، وعلى كل حال، هاكم وصفاً متواضعاً حيادياً قدر دقتي في النقل والرؤية،لحال الشخص الذي ما زلت أعتقده غريباً كلّ الغرابة: يده اليمنى كاملة غارقة في جيب سترته الصوف. سترته هذه رمادية، وهي من نوع رخيص من الصوف أو إنها قديمة وبالية. عيناه نصف مغلقتين تحت جبين دهني ذي ندوب واضحة. سيجارته يتقد اشتعالها المتوهج بين أصابع طويلة، وقد حشرت عقبها داخل فمه كما تحشر مصاصة في مبسم طفل هائج، سيجارته مضغوطة ومرطبة بريق شفتيه المزمومتين على تمام عقبها الصغير. أما أنا فقد لمحته برهة عبوري به واقفاً قرب نافذة الفرن المغلقة. كان بإمكانه الدخول والانتظار داخل مبنى الفرن الدافئ. بابه المستطيل الحديدي نصف مفتوح موارب إلى الداخل، بابه عتيق وحديد بلون رصاصي ذي بقع مقشرة بخدش معدن مفاتيح منزلية يجلبها الأطفال لئلا يوقظوا آباءهم حين عودتهم إلى البيت ظافرين بخبز الفرن اليدوي الشهي!! إنه الصباح إذن. صباح الفرن والأطفال والنافذة المغلقة والباب الموارب والرجل الغريب الذي ليس طفلاً ولم يقف هناك لأجل خبز الأيادي الماهرة والنار الماهرة والعجين الماهر من بلاد القمح والشمس ، البلاد التي سنموت فيها من البرد، أو أننا متنا ولما نصحُ أو ننتبه أننا موتى. على كل حال يقال إن شأن الموت جزء سري من عظمة الحياة. أنا لا أعرف حقاً ما الذي يمكنه أن يضيف الموت إلى الحياة، لكن لا شك أن الموت مفاجئ ودائم وعام وشخصي ولا مبال ومقبول وغير مفهوم ولا مبرر أبداً!! أتذكر أن أحدهم قرأ لي يوماً ما كتبه كاتب لم أعد أتذكر اسمه: “الموت مصيبة أبدية”، وهو إذا ما أخذني الآن، أقصد أن ألقى حتفي الآن دونما سبب، فآمل أن يسمح لي العبثُ بإكمال وصف حال الرجل الذي ما أزال أحسبه غريباً جداً. لا أعتقد أن الرجل وقف هناك فقط بغرض الحصول على الخبز، فمن يريده يدخل وينتظر في الداخل، سيما أن النافذة الخارجية الوحيدة مقفلة بإحكام. خمنت من منظره أنه أيضاً لا ينتظر أحداً. أعتقد أنه بلا عمل كذلك. أعتقد أن وقوفه هناك بتلك الحال الحالمة الواهية المزريةـ وفيها من الشرود قدر ما فيها من الغيظ والرجاء المكبوتين ـ لا تدل سوى الى كونه رجلاً عاطلاً من العمل. أعتقد كذلك، لنقل إنني أحسست أن وقوفه هناك ليس ذا شأن إليه هو نفسه. إنه لا يبالي أينما يقف وأنَّى ينظر. إن الأمكنة تتوحد وتتماثل لدى الموتى والمجانين والأطفال غير المميزين والعاطلين من العمل على السواء. وحدهم المرضى، المرضى الخاضعون للألم الطويل يمكنهم المضي إلى أمكنة جديدة، ذاك أنهم محاطون برغبة قوية في التخلص من المرض، وإذ يشفون يعتقدون أنهم سافروا إلى مكان آخر. الواقع أنهم إنما سافروا داخل أعضائهم المتألمة فقط. وهذا احساس غريب آخر وغير مبرر على الإطلاق، إلا إذا حلموا وهم مرضى قد خطوا خطوات داخل أمكنة جديدة، فإذا ما تعافوا تذكروا أمكنة غريبة كانوا قد زاروها في أحلامهم التي وهبهم إياها المرض لا غير. مع ذلك فأن يخرج رجل في أواسط الثلاثينيات من عمره، في صباح بارد يابس، أن يخرج بغرض أن يدخن قرب الناصية تلك لأمر غريب..!! مررت به، ولم أكن أرغب في التحديق بعينيه نصف المغمضتين، فما الذي يمكنني رؤيته إذا ما حدقت في عينين نصف مغمضتين؟؟ أحسستُ – ويا لأحاسيسي التي لا تعرف نهاية ـ أنه يرغب في البكاء. ظننت أنني سمعت صوتاً كصوت الباكين، وأن الرجل عضّ بنظرته النصفية على دمعة تحسّرٍ خانقٍ وسوءِ حالٍ عنيفة،لأنه لم يكن يرغب لأحد أن يسمع بكاءه ولا أن يرى الدمع في وجهه، لكنني مازلت على اعتقادي بغرابة أطوار الرجل الواقف بلا حراك هناك قرب تلك الناصية المتهدمة الملوثة! لقد اجتزته الآن، وصرت وحيداً مثله، أسير إلى عمل أسرني داخل حياة ليست لي. ألا أشبهه أنا أيضاً من كوني أعاني تمزقاً بين روحي الكسولة وروح العمل التي تجبرني على اليقظة والانتباه!؟ انتباهٌ لا يقوي حسَّ التأمل ولافطنة الذكاء الفطرية قدر ما يراكم اعتيادَ عملٍ من قبيل شأن الآلة المتقنة. وإذا ما صرتُ آلةً داخل عملٍ يفترض اليقظة والنشاط، ألست بذلك واقفاً وجامداً داخل ما نحسبه جهداً وعملاً؟! غير أنني الآن، الآن فقط، تحررتُ من نظرة العينين نصف المقفلتين. شعرتُ بالراحة التي تعقب إرهاقاً غامضاً،شعرتُ بشيء خفيف يحيط وجهي بهالة ساكنة لطيفة. لكنني مازلت مقيداً بطريقة مجّه السيجارة ذات العقب البرتقالي القصير. إن طريقته تلك آلمت عيني. ذلك الرجل سبب لي الألم دونما سبب. فأنا لا أعرفه أبداً، ولم يسبق لي أن التقيته. أي شخص غريب أسرني لحظة بين نظرة عينين نصف مغمضتين؟؟! ما بها تلك النظرة الكامنة الضجرة الداكنة البائسة حتى تدخلني في شقاء أسر مديد ؟! ذلك الرجل، ذو نظرة العينين نصف المطبقتين، لا زلت أعتبره غريباً كل الغرابة! ذلك الرجل، بنظرة كأنها لا تنتظر شيئاً، دسَّ ألماً فظيعاً داخل وجهي الخجل من عدم قدرته الثبات قرب نظرة حزينة! أحسستُ بالعار يملأ وجهي المحاط بهالة من غبار الصباح البارد. ثَقُلَ مشيي، ثقلَتْ يدي الممسكة بحقيبة العمل السوداء، ثقل لساني داخل فمي، وثقل اللون كالحاً داخل قلبي الضعيف، كأنما الصباح كله والشارع الفارغ الطويل قد غرقا فجأة داخل ذاكرتي، أنا الذي يهرب من ذكريات لم تجلب لي سوى الخزي والعجز!! الحقيقة أنني تحاشيت الالتفات إليه، تحاشيت النظرة نصف مغمضة. خفتُ أن يكون قد فتح عينيه الآن إلى أقصى امتدادهما، خفتُ أن تبتلعني عينٌ مفتوحة على كامل اتساع الصباح القاسي. أحسست أنه صباح يشبه الظلام، ظلامٌ يشبه السجن، سجن هو الخوف والعزلة، العجز والضغينة ومآسي الهلع المتوارث. ما الذي يمكنني قوله إذا ما التفتْتُ ورأيته يحدق بي!؟ ربما صرخ في وجهي: أيها العابر، ألا ترى الحزن يعض نظرة عيني؟ لِمَ لَمْ تقف قليلاً بقربي؟ لم لم تقل لي : .. !! لكنني، بدافع الخوف والارتباك الشديدين، ألصقت نظري بمقدمة حذائي البني اللامع، ثبّتُّ تفكيري على لون الحذاء ببوزه الطويل، وأكملتُ بخطى مستقيمة طريقي الفارغ . شارع طويل فارغ، الآن هبَّتْ فوقه رياحُ الجنوب المغبرة، بغتة حملتني معها وسط كومة من أكياس نايلون مبددة رفعتْها أيادي الرياح الألف وأخفتني معها وسط الشارع وخلفي الرجل الغريب المختفي بدوره داخل نظرة كسيرة نصف مغلقة! أحسستُ أنني الآن فقط، للتوّ تخلّصت من الرجل الغريب ونظرته الغريبة. لكنني أعلم في قرارة نفسي أنني مررتُ قرب مرآة ضخمة لها هيئة رجل غريب بعين نصف مغلقة. كان بإمكان أي رجل آخر أن ينظر برهة داخل هذه المرآة المرعبة، هذه المرآة الواقفة بجماد كالصخر هناك حيث هي الآن خلفي على الناصية المعذبة الخفيضة! كان الرجل ، ذاك الغريب كل الغرابة، الخجول الضعيف، يحمل توقاً نازفاً إلى الحصول على عمل، أي عمل ! لم يكن فقط وحيداً وأعزل تحت أيادي الصباح الألف الثقيلة. كان وجهه صفحة من ورق مجعد، بتلة منكمشة من بتلات زهور سيئة الرعاية! كان سراً واضحاً لنفسه وصورة غريبة لي! أي حال أنا فيه الآن رغم حدسي أنني لن ألتقي وجها كهذا مرة أخرى!! أجبرتني كثافةُ الغبار على إغماض عيني نصف إغماضة. آه..؛! على أي وجه يمكنني التصرف إذا ما أدركت يوماً ما إنني أنا أيضاً لم أكن سوى رجلٍ آخرَ داخل مرآةٍ أخرى في صباحٍ من صباحات العالم ..؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى