صفحات ثقافية

عبــد الكريــم برشــيد: المســرح حاجــة لكــن يمكــن تزييــفها، مشروعنا النهضوي لم يخفق لكن سيره بطيء

null
انور محمد
كاتب وباحث ومفكِّر مسرحي إشكالي؛ مؤسِّس «الاحتفالية» في المسرح العربي, الحوار معه يتطلَّب منك أن تستمع إليه أكثر مما هو يستمع إليك. فعرَقُ عقله ربَّما من شدَّة التعب؛ أو من شدَّة التفكير بما آل إليه حال الإنسان العربي من بهدلة على يد حكَّامه وهذا ما يؤرِّقه:
÷ في البدء، من يكونُ عبد الكريم برشيد؟ وأقصد رؤيتك وفلسفتك ومواقفك الفكرية والسياسية والجمالية؟
} عبد الكريم برشيد إنسان أولاً، وفي هذه الإنسانية شيء من الحيوانية، وشيء آخر من الوحشية، وفيها جوانب كثيرة من الضعف ومن القوَّة، ولأنَّه إنساني النزعة، وكوني الرؤية، فقد هاجمَتهُ كثير من الكتابات النقدية، واتَّهمته بالإنسانوية، وبأنَّه مثالي، وبأنَّه بورجوازي، وبأنَّه مثالي، وبأنَّه نخبوي، وبأنَّه طوباوي حالم وواهم، وبأنَّه ديني وصوفي وطقوسي، وبأنَه غير منتم، وغير متحزِّب، وغير منضبط.. وفعلاً، فهو كائن آدمي غير منضبط.. إلا للأفكار والمبادئ والقيم التي يؤمن بها.
وهو كاتب مسرحي ثانياً، كاتبٌ عربيٌ وكونيٌ من المغرب، وفي هذه الكتابة يحيا ويعيش، وهي تسكنه ويسكنها، وتقيم هي في عالمه المحدود، ويضيع هو في أكوانها اللامتناهية.. وفي هذه المتاهة الوجودية والإبداعية لا يحاول أن يبحث عن مخرج، ولا يسعى نحو نقطة الختام، ولا ينتظر أن يستريح يوماً استراحة المحارب. هو كاتبٌ بطموح كبير وخطير، وطموحه لا يقف عند حد كتابة مسرحيات، يحكي فيها حكايات ويروي روايات ولا شيء غير ذلك، ولكنه يتعدَّى ذلك إلى تأسيس كتابة أخرى جديدة، وصدِّقني.. هذا شيء ممكن جداً، ممكن جداً، والمحال كلمة دخيلة على كل القواميس اللغوية، وهو يسعى، منذ أربعة عقود، إلى بناء مسرح عربي وإنساني آخر، وإلى تثوير هذا الفعل المسرحي الكائن والممكن؛ تثويره فلسفةً وأدباً ومكاناً وفضاءً وصناعة، ويسعى إلى تجديد أدواته ومنهجياته، سواء آداب الحوار الفكري، أو في المشاهدة الجمالية، أو في التلاقي الاجتماعي في الفضاء العام، ويسعى أيضاً إلى تحرير هذا المسرح من قيود التقليد والإتباع..
وهو مقاومٌ وجودي ثالثاً، يؤمن بأنَّ الحياة مقاومة أبدية، وبأنَّ الموت خنوع واستسلام، وأنَّ معناه غياب روح المقاومة في الأجساد الفردية والجماعية..
وهو مشاغب إبداعي رابعاً، يؤمن بأنَّ الاختلاف لا يفسد للودِّ قضية، وبأنَّ الزواج الشرعي لا يكون إلا بين الأجناس المختلفة.
÷ وهو فعلاً كذلك.. ننتقل إلى ما هو أعم وأشمل وأسألك: إلى الآن ما نزال نخفق في صنع مسرحنا، فنحمِّله مشروعنا النهضوي، الأنظمة هي السبب أم المثقفون المسرحيون؟
} أعتقد أنَّ مشروعنا النهضوي لم يُخفق أبداً، وهو بالتأكيد يتحرَّك ويسير، ولكن سيره بطيء، وأعطابه كثيرة، وهذا راجع إلى عوامل ذاتية وأخرى موضوعية كثيرة، لأنَّه ينبغي أن لا ننسى أنَّ هذه النهضة غير مرغوب فيها غربياً، وذلك مادام أنَّها تخلُّ بالتوازن المطلوب، والذي يستوجب أن تبقى إسرائيل في المنطقة هي وحدها واحة الحرية، وهي منارة العلم والفن والتقدم، وهي الأقوى والأعلى قامةً وصوتاً، كما أنَّ المركزية الغربية تمنع من أن تتعدَّد المراكز النهضوية في العالم، وتستعيض عنها بعولمة متوحِّشة تأتي على الأخضر واليابس، وتسعى لأن تحوِّل بقية العالم ـ والذي نحن منه ـ إلى أدغال وأحراش، وإلى صحاري قاحلة. أمَّا بالنسبة للعوامل الذاتية، فهي كثيرة ومتنوِّعة بلا شك، ويكفي أن نذكر منها العوامل التالية؛ أولاً، نحن لا نتعامل مع الزمن تعاملاً جاداً، ولا نعطي للساعة الأهمية التي تستحقُّها، ولا ندخل معها في سباق، ولا نأخذ من الحداثة إلا قشورها، ولا نراهن على الإبداع بدل الإتِّباع، ولا نعطي الأهمية إلا للدخيل، ونقفز على الأصيل من الأفكار ومن الإنتاج، ونعاني كثيراً من داء فقدان الثقة في الذات، ونتمثَّل الآخر كمالاً مطلقاً وعلماً مطلقاً وحقيقةً مطلقة، ولا نجرؤ على مناقشته، على نقده ومعارضته، والدخول معه في جدلٍ علمي وفكري، وبذلك، فإنَّنا نظلُّ بعيدين عن الأسئلة الفكرية والعلمية والسياسية والجمالية الكبرى، ونبقى جاهلين في فكرنا ووجداننا وفي أرواحنا، ونكتفي بأن نمثِّل الانتساب إلى العصر وإلى أهله، الشيء الذي يستوجب أن نقوم بنقد ذاتي مستمر ومتواصل، وألا يصل هذا النقد إلى حدِّ تجريح الذات أو التشكيك في قدراتها الكامنة والخفية أو المعطَّلة، كما يستوجب أن نعيد ضبط ساعتنا حسب التوقيت العالمي، وأن نتحرَّر من جاذبية الساعة الرملية، والتي تعيدنا إلى الخلف، بدل أن تدفع بنا إلى الأمام، أو إلى الأعلى.
ثمَّ إنَّنا وهذه الأخطر لا نشتغل ـ سياسياً وفكرياً وفنياً، داخل (أوراش) واحدة وموحَّدة كبرى، وبذلك تبقى مجهوداتنا متفرِّقة ومبعثرة وغير متماسكة وغير متكاملة، الشيء الذي يجعل نتائج اجتهاداتنا جزئية وفئوية وانتقائية وعابرة، وتبقى بذلك حبيسة إقليميتها وجهويتها، وتظلُّ محكومة بحساباتها الصغيرة والضيِّقة. إنَّ الأمر يتطلَّب في الإبداع وجود جرعةٍ زائدة من الجرأة ومن المخاطرة ومن التمرُّد على عمود المسرح العالمي، وأن تكون هذه الجرأة دائمة وجديدة ومتجدِّدة بشكل تلقائي، وأن تمسَّ كلَّ مظاهر الحياة اليومية، وأن يكون لها وجود في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي السوق وفي الجامعة وفي المسرح، وفي كل المنتديات الثقافية والفنية.
أما بالنسبة للأنظمة العربية، فما أظن إلا أنها تقوم بدورها أحسن قيام، وهي تجتهد من أجل أن تحمي نفسها من الأفكار الجديدة، ومن المغامرات الانقلابية المخاطرة، سواء في الفكر أم في الفن أم في السياسة، وعليه، فإنَّه لا يمكن أن نعوِّل عليها في تأسيس أيِّ مشروعٍ نهضوي متجدِّد، لأنَّ وجودها قائم على الجمود على الموجود، وعلى أن يبقى الحال على ما هو عليه، والهاجس الأكبر والأخطر لديها هو الهاجس الأمني، وكلُّ المواطنين أعداء إلى أن يثبتوا العكس، وكلُّ المبدعين مجانين، وكلُّ الفنانين مشكوكٌ في نواياهم، وهم مُطالبون بتقديم فروض الطاعة والولاء، هذا هو الأساسي بالنسبة إليها، وكلُّ شيءٍ غيره ما هو إلا تفاصيل بلا معنى. أما روح الخلق والإبداع، فما هي إلا ترف وحذلقة مثقفين، الشيء الذي يجعلها مسألة ثانوية، ولعلَّ هذا هو ما يعطِّل المشروع الإبداعي النهضوي في العالم العربي، وأقول يعطِّله ـ مؤقتاً بكلِّ تأكيد ـ ولكنَّه أبداً لا يمكن أن يلغيه بشكل كلي ونهائي.
تزييف المسرح
÷ أليس المسرح حاجة ـ لقد بدأ وكأنَّه السحر ـ اليوم كأنَّ أحداً يسعى لإزاحته، إبطال مفعوله. هل المسرحيون العرب يخونونه؟..
} فعلاً، المسرح حاجة، ولكن الحاجات الطبيعية يمكن تكييفها أو تزييفها أو الالتفاف حولها، أو استبدالها بما يشبهها، وهذا ما نعيشه حالياً، من خلال إشباع حاجة الإنسان للمسرح بما يشبه المسرح، والعمل على مدِّه بأشكال متعددة ومتنوِّعة من الفرجة، وبملايين من الصور المتحركة، والتي تتضمَّن الحكي والسردَ والمثيرَ والمدهشَ من الشاهد، ولكنَّها تقفز على أهمِّ شرط في المسرح، والذي هو التلاقي الإنساني الحي. وبهذا فقد أمكن أن نقول بأنَّ هناك فعلاً من يخون هذا المسرح، وهناك من يحاول أن يستبدل التلاقي المسرحي العفوي والحيوي بالتفرُّج الآلي السلبي، وهناك من يسعى لأن يسجن الناس أمام الشاشات.
إنَّه يتم استبدال المسرح بالشاشة، ويتمُّ استبدال المحتفل بالمتفرج، ويتمُّ استبدال اللقاء الحي بالوقائع المسجلة، ويتمُّ استبدال الحضور بالغياب، ويتمُّ استبدال الفنان المبدع بالفنان الأجير، وبهذا تكون الحرب على المسرح حرباً على الحياة وعلى الحريَّة وعلى التلقائية وعلى الشفافية, وعلى كلِّ القيم الرمزية التي حملها هذا المسرح على امتداد قرون طويلة جداً.
إنَّ كلَّ من يحاول اغتيال هذا المسرح سوف يجد نفسه في مواجهة الحياة، وسيدرك أنَّه لا وجود لأيَّةِ حياة اصطناعية خارج هذه الحياة الحقيقية، وإنَّ من يخاصم المسرح، لا بدَّ أن يجد نفسه يخاصم العقل والمنطق، ويخاصم الحقيقة. وهل المسرح ـ في معناه الحقيقي ـ إلا روح الحقيقة؟.. روحها الكامن خلف صور هذه الأيام المتحركة، وخلف وقائعها الكاذبة والمزيفة.
÷ المسرحيون ليس لديهم سوى أنفسهم ـ وزارات الثقافة العربية ـ أو تسيِّس المسرح فيصير يعبِّرُ عن غرام السلطات بتجهيل شعوبها، أو تضايقه، فماذا يفعل المسرحيون بأنفسهم؟
} إنني أؤكِّد دائماً على ألاَّ يكون المسرحي مجرَّد أجيرٍ في مؤسِّسة تجارية، وألاَّ يكون مجرَّد موظَّف في مؤسِّسة إدارية، وأن يعرف أنَّه فاعلٌ وجودي وتاريخي، وأنَّ مهمَّته هي أن يدافع عن الحق والحقيقة، وأن يعرف أنَّ الحقيقة طاقة وسلطة، وأنَّه لا شيء يمكن أن يعلو فوق هذه السلطة، وأنهَّا غير قابلةٍ للبيع والشراء أو المقايضة. وعلى هذا المناضل المسرحي أن يعرف الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنَّ المسرح باقٍ، وبأنَّ الوزراء عابرون، وبأنَّ الأصل في هذا المسرح الخالد أن يعبِّر عمَّا هو أساسي وعمَّا هو ثابت وعمَّا هو إنساني وعمَّا هو مبدئي وعمَّا هو كوني وعمَّا هو حقيقي، وأنَّ مهمَّته هي أن يفضح الزائف، وأن يعرِّي الأكاذيب، وأن يعالج الأمراض النفسية والعقلية، وأن يكون طبيب النفوس المريضة، وأن يكون جرَّاح الأوضاع الاجتماعية الفاسدة والمعطوبة، وأعتقد أنَّ بإمكان المسرحي العربي اليوم، أن يحقق شيئاً من هذا الطموح، وأن يكون في مستوى المسرح الجاد، وأن يرتفع إلى هموم اللحظة التاريخية الراهنة..
÷ لماذا لا يزال المسرح يلبس ثوب الأخلاق؟…خاصَّة عندنا؛ سواء في المشرق أو في المغرب العربي. في حين أنَّ أوروبا وأميركا تجاوزتا بل نزعتا عنه ثوب الفضيلة. أيكشف هذا عن نمطية تفكير كلٍّ منَّا؟
} أعتقد أنَّ الأساس في المسرح هو الجمال، ولكن، من قال بأنَّ الأخلاق لا يمكن أن تكون جمالاً أيضاً، أي أن تكون جمالاً معنوياً يخصُّ النفس والعقل والروح والوجدان؟ هناك ثوابت في الوجود لا يمكن القفز عليها، ومن هذه الثوابت إنسانية الإنسان، وأعتقد أنَّ النزول إلى مستوى الحيوان، وإلى درجة الوحش، لا يمكن أن يكون إلا تفريطاً في الهوية الإنسانية، والتي هي نظام ثقافي قبل كل شيء، والأخلاق جزءٌ أساسي وحيوي من هذا النظام، والأساس في هذه الهوية أنَّها عقلانية، وأنَّها تفكير، وأنَّها اختيار عاقل، وأنَّها حرية مسؤولة، ومن هذه الثوابت أيضاً، يمكن أن نذكر المدينة، ولعلَّ أهم ما في المدينة أنَّها مؤسَّسات، وأنَّها قوانين وأعراف، وأنَّها حقوق وواجبات، وأنَّها تراكمات معرفية، وأنَّها مواضعات اجتماعية.. وعليه، فإنَّ المسرحي العربي اليوم ملزمٌ بأن يعرف ما هو موجود، وأن يتصوَّر ما يمكن أن يكون له وجود، وأن يبشِّر به أيضاً، وأن يحرِّض عليه، وأن يعرف أنَّ هذه المجتمعات هي مجتمعات حية، وأنَّها بذلك متحرِّكة، ولكن في إطار ثوابت كبرى لا يمكن أن تخرج عنها. إنَّ المجتمعات الشرقية لا يمكن أن تكون إلا شرقية، وقد تسحرنا أو تخدعنا بعض العادات الغربية، ولكنَّها بالتأكيد لن تجعلنا غربيين، ولن تجعل منَّا أوروبيين، وهذا ما يجعلنا في التيار الاحتفالي نؤكِّد دائماً على حدِّ ( النحن) وعلى حدِّ (الآن) وعلى حدِّ (الهنا)، لأنَّنا نعرف أنَّ الإنسان كائن اجتماعي، وأنَّه ابن عصره، وابن بيئته، وابن ثقافته، وبهذا فإنَّنا نسعى إلى تثوير هذه الثقافة من داخلها.. وهذا ما يجعلنا أيضاً نعادي التهريب الثقافي، ونخاصم المهرِّبين الثقافيين، وكلَّ الذين يريدون إغراق أسواقنا الثقافية بالمعلَّبات المسرحية والمعلَّبات التشكيلية وبالمعلَّبات الروائية وبالمعلَّبات السينمائية..
إنَّ الأساس في المسرحي العربي اليوم، هو أن يكون واقعياً، وأن يراهن على الممكن، وأن تنطلق أحلامه وخيالاته من الأرض وليس من السماء، وأن يكون مدمِّراً وبانياً في الوقت نفسه، أي أن يدمِّر الفاسد من العادات ومن التقاليد البالية، وأن يبني عادات أخرى جديدة، وأن يبشِّر بقيم جديدة، تكون أكثر تجاوباً مع الناس ومع لحظتهم التاريخية، وأن يؤسِّس فناً جديداً على أنقاض الفنون القديمة، وأن يعيد قراءة الكتابات الإبداعية القديمة، وأن يحيِّنها، وأن يعطيها شيئاً من عنده وأشياء كثيرة من روح هذا العصر.
÷ المسرح ومنذ يوربيدس فشكسبير، وحتى محمود دياب وعبد الكريم برشيد وممدوح عدوان وسعد الله ونوس وألفريد فرج ونعمان عاشور وعزّ الدين المدني ويعقوب الشدراوي وفرحان بلبل كانت غايته وكان هدفه مقدسين؟
المقدس المدنس
} إنَّ المسرح هو المقدَّس، ولكنَّه المقدَّسُ المدنَّس، وهو الحقُّ أيضاً، ولكنَّه الحقُّ الذي يقابله ويعارضه الباطل، وهو الحياة التي لا تكتمل إلا بشقِّها الثاني، وهل يكون هذا الشقُّ الآخر إلا الموت ـ الموت الذي لا يعني الختام، وقد يعني البدء الجديد والمتجدد، وبهذا يلتقي في هذا المسرح الوهم والحقيقة، والتاريخ والأسطورة، والواقع والخرافة، ويلتقي فيه الديني والدنيوي، فهو البدء المتمدد, وهو الحرب والسلام، وهو القطع والاتصال، إنَّه كلُّ الديوان الذي يجمع كلَّ التناقضات الوجودية والاجتماعية والسياسية الكائنة والممكنة.
ثمَّ إنَّ المسرح هو هذا العالم, والأساس هو أن تظهر في فضائه المفتوح كلُّ الجوانب الظاهرة والخفية، وأن يكون فعلاً منحازاً لروح الحقيقة، وألاَّ يراهن إلا على ما هو أساسي وحيوي وأبدي وإنساني ومدني وكوني، وعلى ما هو متسامٍ أيضاً، وعليه، فقد أمكن أن نقول ما يلي، في هذا المسرح لا شيء مقدَّس إلا الحياة، وما فيها من حقائق وقيم، ولا أحد مقدَّس فيها إلا الإنسان وحرية الإنسان وكرامة الإنسان.
÷ هذا المسرح يصنع فرجته ـ فرجتنا؛ بتقديركَ احتفاليتُنا هل تتعرَّض الآن، أو ستتعرَّض للتكفير كما حصل مع أبي خليل القباني؟
} أعتقد أنَّ الحكم على مسألةٍ وقعت في التاريخ، لا يمكن فهمها وتمثُّلها ـ وبشكل حقيقي ـ إلا من خلال وضعها في سياقها التاريخي. وما وقعَ مع أبي خليل القباني في الشام، وما وقع في المغرب مع فقيه يُسمَّى «ابن الصديق» أصدر كتيِّباً وأعطاه قوَّة الفتوى وسلطتها وأسماه ( إقامة الدليل على حرمة التمثيل)، وما وقع في مواقع أخرى، وفي مراحل تاريخية مختلفة، لا يمكن أن يكون إلا فعلاً طبيعياً، وجيوب مقاومة الأشياء الجميلة والنبيلة كانت دائماً موجودة، وسوف تبقى إلى ما شاء الله، ومن طبيعة الاستثناءات العابرة أنَّها لا يمكن أن تلغي القواعد الدائمة والحقيقية.
أما بالنسبة للعبة التكفير، فهي بالتأكيد لعبة قديمة جداً، وقد مارسها الكهنة في المعابد المغلقة منذ أقدم العصور، وبأشكال وبتفسيرات وبتأويلات مختلفة، وقد تمَّ هذا انطلاقاً من إيمان البعض بأنَّهم وحدهم يملكون مفاتيح الحق والحقيقة، مع أنَّ الأصل في المسرح أنَّه مدرسة، وأنَّ الأساس في أية مدرسة أنَّها تربية، ولعلَّ أهمَّ ما يميِّز هذا المسرح أنَّه تربية شاملة وكليَّة ومتكاملة، أي أنَّه تربية عقلية ونفسية وجمالية وروحية، وأنَّه ـ إلى جانب كل ذلك ـ حوضٌ للتطهُّر، وأنَّه مشفى للأمراض النفسية والعقلية، وأنَّه ورشة لإصلاح أعطاب المجتمع، وكلُّ هذه الأدوار كان يحتكرها رجال الدين، ولم يكن مسموحاً للعلماء والشعراء والفنانين أن يدخلوا معهم إلى هذه الدائرة المحرّمة.
وأرى أنَّ فعل التكفير هذا قد أصبح له اليوم مرادف آخر هو التخوين، فهناك اليوم جهات عليا كثيرة تمارس اتِّهام الفنانين والشعراء بالخيانة وبالعمالة، ومن أغرب الأشياء أن تجد أن من ينفذ هذه السياسة هم شرذمة من المثقفين أو من أشباه المثقفين أو من المتسللين إلى الحرم الثقافي والفني في غفلة من التاريخ، وهذه واحدة من الأمراض الخطيرة التي يعرفها جسدنا الثقافي عموماً وجسدنا المسرحي بشكل خاص. إنَّ مسألة التكفير إذن، وكما مارسها الكهنة والفقهاء قديماً، هي اليوم في ذمَّة التاريخ، وهي تعبِّر عن درجة عقلية، وذلك في مرحلة تاريخية عابرة، ويمكن اليوم أن نقرأها، أو أن نعيد قراءتها، وأن نتمثَّلها في إطار الظروف التي أحاطت بها، ويمكن أن نخلص إلى النتيجة التالية، وهي أنَّ الفكر الاتهامي الذي أعطى التكفير قديماً هو نفسه الذي يعطي اليوم التخوين، ففي الأوَّل كان الاتهام بالخروج عن شرع الله، واليوم يصبح الاتهام بالخروج عن شرع الحاكم، والذي هو وحده التجسيد الكامل للوطن والوطنية، والتجسيد الشامل للحق والجمال والعدل والحرية والشرعية والتقدم و..و. ورداً على التكفيريين، القدماء والجدد معاً، ورداً على أهل ورقة التخوين من أصحابنا وزملائنا، يمكن أن نقول ما يلي، إنَّه لا وجود لفنٍّ كان دائماً أقرب إلى الله من المسرح، ولا وجود لفنٍّ خدم ويخدم أوطانه كما المسرح، وعندما نتأمَّل اليوم كلَّ هذا الكمِّ الهائل من القنوات التلفزيونية المختلفة، والتي تنشر كلَّ (القيم) الحيوانية والوحشية، نتأكَّد من الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنَّ هذا المسرح هو الأقرب إلى الحقِّ والحقيقة، وهو الأقرب إلى الجمال والكمال، وهو الأقرب إلى الإنسان والإنسانية، وهو الأقرب إلى الحياة والحيوية، وهو الأقرب إلى المدينة والمدنية، وهو الأقرب إلى الحريَّة والتحرر..
÷ المسرح ما يزال يخيف السلطات. وكثير منها يتضايق منه بما في ذلك أنظمتنا العربية. أنت بالذات تعرَّضت لمثل هذه المضايقة ماذا تفعل؟ نفعل؟..
} فعلاً تعرَّضت للحصار، ولكلِّ أنواع الإبعاد والتهميش والإقصاء، وما زالت تداعيات ذلك الحصار الجائر والظالم تلاحقني إلى اليوم، وكلُّ هذا لماذا؟ فقط لأنَّني كاتبٌ يكتب، بمداده وقلمه وبأفكاره ومعانيه، ولأنَّني لا أكتب إلاَّ ما يمليه عليّ ضميري، ولأنَّني لا أستمع بداخلي إلاَّ إلى صوت الحقيقة، ولا أكون ولا أتموقع أبداً إلا في الموقع الذي يليق بالكاتب الحقيقي، ولا أقف إلاَّ ذلك الموقف المبدئي الذي أقتنع به وأرتضيه، ومع ذلك أقول لكَ ما يلي، بأنَّ كلَّ هذا الخوف المرضي، من الكلمة وأهلها ، لم يأت من أهل الجاه والسلطان، ولكنَّه أتى من مثقَّفٍ قديم وغشيم.. وتلك هي المسألة كما يقول «هملت» مثقف تسلق أعتاب وسلالم السلطة، بدل أن يرتقي مدارج الخلق والإبداع، وفي لحظة حمقاء وعمياء وصمَّاء، وفي مشهدٍ عبثيٍ يشبه مسرحيات يونسكو أو بيكيت، أصبح هذا المثقَّف المتسلِّق مسؤولاً كبيراً في غفلة من العقل والمنطق، وبين ليلة وضحاها، ومن غير مقدِّمات ولا حيثيات، ومن غير أهلية ولا خبرة ولا شواهد علمية، وجد نفسه وزيراً، يقول كلاماً تافهاً ويسمع السامعون، ويأمر أوامر قرقوشية ويطيع الطائعون، ويصدر قرارات حمقاء مضحكة ويصفِّق الهتاَّفون، وكان ضرورياً أن أصدر وثيقة، وأن أعطيها عنوان (وثيقة المسرحيين المغاربة.. المسرح المغربي: فشلُ سياسة أم فشلُ مرحلة؟) وقد وجدتُ نفسي بعد ذلك أدفعُ ثمن صدقي، ووجدتُ الكذَّابين والمنافقين والمتملِّقين ينالون الجزاء الأوفى، ووجدتُ كثيراً من أصدقائي ورفاقي القدامى يُساهمون في الحملة على شخصي وعلى تجربتي المسرحية وعلى الاحتفالية، تنظيراً وإبداعاً وتاريخاً، وسار في رِكاب هذه الحملة الصليبية أو المتصابية كثيرٌ من الصحافيين وكثيرٌ من المنابر الإعلامية المأجورة، وكانت النتيجة بعد ذلك، أنَّ هذا الوزير سقط في الانتخابات سقوطاً مدوياً، ولعنَته الجماهير في التجمُّعات الانتخابية، وتبرَّأت منه الدولة، وسحبت من تحت مؤخرته كرسيَّ الرئاسة، وألقت به إلى مزبلة التاريخ.
هذا عن الشقِّ الأوَّل من السؤال، والمتعلِّق أساساً بنكبتي التي طالت واستطالت، وعمَّرت عقداً كاملاً من عمر الزمن، أمَّا بالنسبة للشقِّ الثاني، والمتعلِّق بخوف السلطات من المسرح، فإنَّني أقول لك ما يلي، إنَّه خوفٌ مفتعل ومفبرك، وبأنَّه بلا معنى ولا مبنى، وبأنَّه مجرَّد مسرحية هزلية غير مقنعة، ولكَ أن تتصوَّر الآن، كيف أنَّ هذه الدول التي لها أجهزتها الإعلامية المتطوِّرة، ولها وكالات الأنباء، ولها الجرائد والمجلات، ولها مثقَّفوها الموظَّفون، ولها مدارسها وكلِّياتها وجامعاتها التي تنشر أفكارها، ولها مقرراتها التعليمية ولها مناهجها التربوية، ولها هيئات رسمية للإفتاء الديني، ولها حرسها وعسسها، ولها بوليسها ومخابراتها، ولها ما نعرف وما لا نعرف من الأدوات ومن الأجهزة الاتصالية والتواصلية المتطوِّرة، كيف يمكن لعرضٍ مسرحيٍ محدود، في فضاء زماني ومكاني محدود، وأمام عددٍ من الناس محدودٍ أيضاً، كيف يمكن أن يخيف هذه الدولة العتيدة وأن يُرعبها؟ فهل التفكير بصوت مرتفع شيء مخيف ، أم أنَّ التفكير الخفي وغير المعلن هو المخيف؟. وهل الاشتغال العلني تحت الأضواء الكاشفة هو الخطير أم أنَّه ذلك النوع الآخر من الاشتغال السري، والذي يتمُّ في الظلمة وفي الخفاء؟ وما الذي يمكن أن يخيف في اشتغال مسرحيين ليس لهم طموحٌ سياسي، ولا يسعون إلى أن يقتسموا مع أهل السلطة سلطتهم، ولا مع أهل المال ما لهم، ولا مع أهل الجاه جاههم؟
من البلادة إذن، أن تتخوَّف بعض الأنظمة العربية من المسرح وأهله، وذلك لأنَّ الأساس في المسرح أنَّه مدرسة – مدرسةٌ مفتوحةٌ لبناء الإنسان فكراً وذوقاً، وهو «ورش» لبناء المستقبل الأجمل والأكمل، وهو مصنعٌ لصناعة التاريخ المستقبلي المختلف والمغاير.
(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى