صفحات العالم

قـوس الأزمـات

سليمان تقي الدين
أطلق الفكر الاستراتيجي في القرن العشرين على المنطقة الممتدة من لبنان إلى إيران اسم «قوس الأزمات». انتهت الحرب العالمية الأولى بتفكيك الامبراطورية العثمانية والاحتلال الفرنسي ـ الإنكليزي ثم كانت الحرب العالمية الثانية فتدخل الألمان والطليان ونشأت دولة إسرائيل.
ومنذ مطلع الخمسينيات لم تعرف المنطقة إلا الحروب والثورات والانقلابات. ثورة عبد الناصر 1952، حكومة مصدق في إيران 1952 والانقلاب عليها. الهجوم الثلاثي على السويس 1956. الوحدة المصرية السورية والانفصال (1958 ـ 1961)، ثورة لبنان وثورة العراق صيف 1958، والحروب العربية الإسرائيلية (1967 ـ 1973 ـ 1982) والحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988) وحرب الخليج الثانية (1990)… إلخ.
كان العنوان الأبرز لتلك المرحلة هو المصالح الغربية في مسألتي النفط وإسرائيل وبالتالي مقاومة مشروع القومية العربية. فلقد كانت إيران تُعرف بشرطي الخليج والامبريالية الفرعية، وكانت تركيا جزءاً من الحلف الأطلسي وهي عنصر مهم في مشروع حلف بغداد التي بدأ يتشكل من إيران والعراق وتركيا وإسرائيل ولبنان (1955).
لم يكن لبنان آنذاك هدفاً بذاته عندما حاول الغرب استمالته لذاك الحلف، بل بوصفه بوابة المشرق العربي. ولم تكن سوريا هدفاً بذاتها استثنائياً بل بوصفها محور الدول المشرقية وحجر الزاوية الذي يساهم في تماسك الدول المحيطة بها. ولقد كان الموقع المصري على الدوام يصنف كصلة وصل بين آسيا وأفريقيا كما هو الموقع الملتبس لتركيا بين آسيا وأوروبا.
هذا الشرق الأوسط الذي صار تعبيراً غربياً مألوفاً من الأميركان حتى السوفيات، كانت القومية العربية فيه (أو حتى الوطنية) مصدر التحدي الأبرز للمشروع الامبريالي الذي تجدد مع وراثة أميركا دور الاستعمار القديم.
عندما فكّر الأميركيون في وضع اليد على الشرق الأوسط مع نظريات المحافظين الجدد وزعامة جورج دبليو بوش، إنما فكّروا استراتيجياً باحتلال أفغانستان لضمان السيطرة على وسط آسيا واحتلال العراق لضمان التحكّم بالخليج والمشرق العربي. وهم أعلنوا صراحة أن هذين الاحتلالين ليسا إلا نقطتي انطلاق للإجهاز على محور الشر ومنه إيران وسوريا.
يرى رئيس مركز دراسات استراتيجية يؤثر في السياسة الخارجية لإحدى الدول المهمة في هذا الصراع، أن مركز الثقل في اهتمامات عهد الرئيس أوباما والغرب، بسبب الأزمة الاقتصادية وبسبب الفشل العسكري في أفغانستان والعراق، سينتقل إلى الخليج وإلى عنوان النفط والفوائض النقدية، وأن مسألة الصراع العربي الإسرائيلي ستنخفض أهميتها. في ظاهر الحال قد تبدو الأمور على هذا النحو. لكن التفكير الاستراتيجي دائماً يحتاج إلى ضمان بيئة المصالح الأساسية والمحيط الإقليمي للخليج هو هذه البيئة التي يجب ضمان استقرار المصالح الأمنية والسياسية فيها لصالح الولايات المتحدة الأميركية.
لقد كانت الولايات المتحدة الأميركية عملياً تسيطر على نفط الخليج باستثناء إيران. وكانت قد بدأت توطّد أقدامها في آسيا الوسطى والدول التي انفكت عن الاتحاد السوفياتي في بحر قزوين. لكن الإمساك بالمفاصل الأمنية الاستراتيجية هو دائماً ضرورة لتأمين السيطرة الاقتصادية.
لقد كرّر القادة الغربيون الأميركيون والأوروبيون والإسرائيليون أن إيران تشكّل «تحدياً وجودياً» لإسرائيل وهم ما زالوا يعتقدون أن إسرائيل صاحبة دور ووظيفة يتعديان بالمطلق حل مشكلة الشعب اليهودي وضمان أمنه. فلو كان الأمر خلاف ذلك لكانت أولى أولياتهم حل الصراع العربي الإسرائيلي تمهيداً لتقوية نفوذهم غير المنافس من دول عظمى على العرب وبينهم.
لقد قال رئيس الكيان الصهيوني منذ يومين «إن إيران تحمل مشروعاً كولونيالياً (استعمارياً) للعالم العربي السني بصفتها أقلية قومية ومذهبية. وإن هذا الأمر يعزز المصالح المشتركة العربية الإسرائيلية في مواجهتها». ومن غريب القول أن يأتي على لسان مغتصب ومحتل لكيان عربي بكامله ولبعض أجزاء من كيانات عربية أخرى. فإذا كانت إيران كدولة إقليمية ناهضة صاحبة طموح لدور ونفوذ إقليميين فهذا شأن كل دولة تتمتع بالقدرة على ذلك. فلم يكن الأوروبيون في مطلع القرن الماضي مناصرين للعرب بدون أهداف ومصالح، ولم يكن الاتحاد السوفياتي كذلك في ما بعد. وليست تركيا اليوم دولة بلا مصالح وهي تعيد تموضعها السياسي والاقتصادي والأمني وتمد جسور التعاون مع العرب وإيران وتُغضب إسرائيل.
لكن القرن الحادي والعشرين الذي يشهد أكثر الأزمات في دائرة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا أنتج حتى الآن خارطة جديدة تمتاز بترابط هذه الأزمات وتكاملها. فمع تراجع الاندفاعة العسكرية الأميركية هناك تفاعلات لا تقل أهمية. إن التركيز على الدور الإيراني (القومي أو المذهبي) ليس إلا تحضيراً للمسرح لزعزعة كيانات جديدة ولتأجيج صراعات ليست كلها مفتعلة، بل إن بعضها من مكوّنات الاجتماع السياسي العربي. فالنسيج العربي والإسلامي مؤهل لهذه النزاعات في ظل العجز عن الاندماج الوطني جراء سياسات احتكار السلطة وخفض منسوب المشاركة والحريات والقصور التاريخي في مسألة التنمية.
إلا أن ما يهم العرب بصورة أولية والمسلمين بصورة أعم لأن العروبة والإسلام هوية هذه المنطقة، هو ألاّ يكرّروا تجربة مطلع القرن العشرين وينساقوا خلف «الوعود الاستعمارية» تحت ذريعة الخطر من هذه الدولة الإقليمية أو تلك. إن عالم المصالح الذي يتحكّم بالسياسات الدولية يجعل من احتمال التعاون الإقليمي خطوة ضرورية لمواجهة النزوع الاستعماري الجديد الذي تحرّضه الأزمة الاقتصادية اليوم على فتح أسواق جديدة لنهب الموارد وتسويق السلع وامتصاص المدخرات والرساميل.
وفي نظرة الغرب اليوم ما هو أدهى وأبشع من ثقافة القرنين التاسع عشر والعشرين في نظرته الدونية لثقافة المنطقة ولاحترام حقوقها وسيادتها. وما زالت إسرائيل أحد مفاتيح وبوابات العبور الغربي لهذه المنطقة، وهي الآن في مرحلة المأزق التاريخي الناجم عن مواجهتها لحروب «الجيوش الشعبية» والبؤر المسلحة في الشمال والجنوب، على حد تعبير تقرير صدر مؤخراً عن المخابرات الإسرائيلية. ولن يستعيد العرب استقلالهم الفعلي ويحافظوا على أمنهم واستقرارهم ومواردهم إلا إذا هم فرضوا الآن تبديلاً جوهرياً في وظيفة الكيان الإسرائيلي بحيث يخضع ومعه الغرب لمنطق الأمن مقابل الأرض والسلام والانفتاح الكامل على حقوق الشعب الفلسطيني. إن معالجة الغرب لهذه القضية واحترام حق دول المنطقة في إدارة ثرواتها والتعاون في ما بينها لصياغة نظام إقليمي جديد متوازن ومتعاون، هما الطريق الوحيد لإخراج الشرق الأوسط من صفة «قوس الأزمات» إلى شريك في صناعة الاستقرار والسلم العالميين والتعاون الدولي بما في ذلك إنقاذ نظام الغرب الرأسمالي من مستقبل مظلم.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى