المثنى الشيخ عطية

الحلقة رقم 7 من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
تابع _ ملكـوت
خفَتَ صوت المطر ومزاريب الأسطحة وأنا أغلق باب غرفة أمي وأدخل بهدوء، وأقف في مربع العتبة قليلاً لأستعيد أنفاس دفء الغرفة التي لفحت وجهي.
خلعت معطفي المبلل وعلقته خلف الباب. نفختُ أنفاسي بيديّ الصغيرتين المتيبستين من البرد، وانحنيت لخلع جزمتي التي أثقلها الوحل. خطوت فوق السجادة ورميت حقيبة المدرسة في الركن. تناولت المنشفة وبدأت بتجفيف وجهي وشعري. أزحت المنشفة عن وجهي ولفحتْ أنفي رائحة يبيس الباذنجان في الماء الساخن مترافقة مع صوت أمي الحزين المكسّر في عتابا الحزن. غرقت في تلونات صوت أمي الذي يغني:
“ياعين يامهملة. ياقلب ياقاسي. ماراعك الموت وناسٍ فارقت ناسِ”.
فتحت حقيبتي وأخذت كتابي ودفتري إلى زاوية الغرفة. وضعتهما على  طاولتي الصغيرة وجلست أراقب أمي بثيابها السوداء وبدون جديلتين، تعد الطعام وتردد عتابا الحزن:
“لولا محمد ما حدت حوادي. ولانبت عشب الربيع بوادي. أجت الغزالة تشتكي قالت يا محمد ولادي. قاللها ولادك اليوم لاميٍّ ولا زادِ”…
دمعتْ عيناي، وقمت وجلست قربها واستمر الصوت العذب الممزق يغني:
“إحنا الحمامات قلنا قطّني ماننصاد. قدّر علينا الإله وصادنا الصياد. ياحسن ياخو الحسين قوم امنع الجلاد. والعمر محدود لاينقص ولا ينزاد”…
توقف صوت أمي، وعلا قليلاً صوت مزاريب الأسطحة المتقطع المعلن أن السماء تصفّي ما بداخلها من بقايا الماء… وضعت رأسي في حجر أمي، وحركتْ هي خصلات شعري الأمامية بأصابعها.
ـ ما أحلى الهدوء بعد المطر، ولكن انتبه. لا تنم. ستصل خالتك أمينة من الرقة بين لحظة وأخرى. أوصيتها أن تحضر نورا معها.
خفق قلبي، ورفعت رأسي: لصة المجلات!؟ قلت وابتسمت أمي ابتسامة مرّت مثل ومضة برق في سماء سوداء وتلاشت.
ـ نعم. لكن عاملها جيداً. إنها ما تبقى لنا من رائحة خالتك، وكانت أمها ستحجبها عنا كي لا تفتق جروح الحزن لكنني رجوتها أن تحضرها معها…

جاءت نورا مع أمها. ضمتها أمي بشوق وشمتها وقبلتها وهي دامعة العينين لكن دون أن تظهر ذلك للفتاة، وجاء دوري للسلام. مددت يدي متردداً ومدّت هي يدها ببرود. صفعتني بسؤالها: كيفك؟ كيف حال مجلاتك!؟ وانكفأت على نفسي مغادراً إلى غرفة أخرى لأطلق سراح دمعي السجين. بكيت بصمت، طويلاً دون أن يلحظني أحد. بكيت على إيقاع مطر السماء البطيء وجف دمعي على نفس إيقاع نشيجها وهي تصفّي ما تبقى من قطرات.
تغدينا سوياً ولم نتبادل الحديث أنا ونورا بينما انشغلت أمي وأمها بحديث الحزن.. بقينا ننظر إلى بعضنا بين لحظات الطعام.
رجت خالتي أمينة أمي أن تكسر إضرابها عن الحديث مع الآخرين..
ـ الكل حزين، لكنك تقتلين نفسك بهذا الصمت. أنت تحيريني. وكأنك تريدين عقاب الجميع بمعاقبة نفسك.. قالت الصديقة وفطنت أنا إلى ما ترمي إليه.. أمي لا تتحدث مع أحد وبخاصة والدي الذي تتجنب المكان الذي يحل فيه بالصمت أو بالرحيل، وحزنت أكثر عندما تذكرت أنها تتجنب النظر إليه هو بالذات الذي يتصرف وكأنه يكفّر عن ذنب ما باحترام تصرّفها واهتمامه الشديد بإحضار كل ما نحتاجه بالتفصيل دون أن يسألها ماذا تريد، إضافة إلى سؤاله الدائم لي عما نحتاج.
شعرت بالحزن على أبي الذي يعاقب على هذا الشكل عندما أدركت أن الكلام عن العقاب يعنيه هو بالذات ودارت بنفسي التساؤلات.
قالت أمي لنورا وهي تودعها:
ـ أعلم أنك لم تستمتعي بوقتك جيداً. كان هاني سيجلب لك مجلاته لكنه أهداها للمرحومة وأودعها معها القبـ… قالت وتوقفت مكابرة أن تشرق بفيض الدمع.
نظرت إلي نورا واجمة، وتبدّل التعبير العدواني تجاهي في عينيها إلى نظرة وادعة أقرب إلى الاعتذار. مدّت لي يدها وأحسست أنها أكثر حرارة من يد استقبالها فشددت عليها قليلاً واحتفظت بها أكثر في يدي، ومرّ علينا الشتاء.
بارداً مرّ شتاء هذا العام. بارداً ومطيراً لكن برده كان يتكسّر ويستحيل إلى دفء مع استعادتي لكف الفتاة التي تركت دفأها في يدي ورحلت.
لقد محا دفؤها جليد الذنب القاتل الذي كان يلاحقني ويشطر نومي بسكين لم تكن ترحم.
اختفى حلم الضياع الذي كان يمزّقني حيث أجد نفسي وسط الخلاء المجهول الذي لا يحدّ دون حماية وأبحث عن شيء لا أعرفه. حلم الضياع الذي كان يلقي بي في حجر أمي الذي يهدّئني ويمحوه. اختفى السؤال الذي كان يقلق أمي علي حيث أركض وأختبئ في حجرها وأنا أبكي وأقول لها: لا أعرف ما الذي أبحث عنه في هذا الحلم. اختفى الحلم المقلق المرعب وحلّ محله حلم سكينة ظهرت لي فيه قدسية وأجابتني على سؤالي عن مكانها بقولها وهي تبتسم إنها مع الملائكة بجانب الله. اختفى قلقي وحل محله حلم يقظة جميل أمزج فيه دفء حجر أمي العابق بالحكايا مع دفء كف الفتاة الذي تركته في يدي ورحلت.
دافئاً مرّ الشتاء ومرّ معه قلقي على جدي الذي يجلس صامتاً أبداً خلف النافذة ويراقب نشيج السماء بمطرها الهادئ وهي تغسل الأرض وتطهرها من أوزار الإنسان.
دافئاً مرّ الشتاء ومرّ معه قلقي على أمي وهي تعاقب العالم بهذا الصمت الملغّز والمحيّر وهذا الصوت الدافئ الذي يكسر زجاج الدنيا بصمتٍ ويعود في الوقت نفسه ليجبر هذا الانكسار.
دافئاً مرّ الشتاء ومرّ معه قلقي على أبي وهو يكابر عذابه بوضع القريب البعيد ويحوم قلقاً على امرأته دون أن يجرؤ على كسر صمتها ولو مرة واحدة.
دافئاً مرّ الشتاء بمزجي إيقاع عنفه المفاجئ وهو يرشق بغضب سمائه البيوت والبشر ويعود ليمسح بإيقاع سكينة شمسه البيوت والبشر، مع إيقاع دفء كف الفتاة التي تركت دفأها في يدي ورحلت.
دافئاً مرّ الشتاء ولكن مروره الدافئ أوقع بي دون أن أدري… لقد تسرّب الدفء داخل عظامي دون أن أدري ليسقي عشبة صغيرة بدأت تنمو بداخل قلبي الطفل دون أن أدري وتدعى الحنين…

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة…

جلست في الحظيرة بين الدجاجات أتأمل صيصاني وهي تتنافس على التقاط الحبيبات المجروشة التي نثرتها لها أمي. انفرد صوص أصفر اللون ومشى بتهادٍ ثم ما لبث أن ركض رقشاً بعد أن خطف حبيبة تحت تهديد منقار صوص آخر كان متجهاً لالتقاطها. ضحكتُ ولكنني شعرت بالقلق في هذا الانسجام عندما عددت صيصاني وهي تتجمع على وعاء الماء الذي وضعته أمي أمامها ووجدت أنها تنقص واحداً. عددت صيصاني: واحد، اثنان، ثلاثة/ أربعة، فقط..
ـ لقد كانوا خمسة بالأمس.. قلت لأمي، فانتبهت لي. جالت بعينيها في أرجاء الحظيرة قلقة من الهدوء الذي خيم فجأة ووصلت بعينيها إلى أعلى الجدار. تأملت الشق فيه وانتقلت بعينيها لتمسح موجودات المكان الأخضر الندي خلل رذاذ ضوء الشمس الذي ينصب بغزارة وهدوء. مسحتْ عيناها شجرة التوت المخضرة الأوراق، والسورَ الذي تسلّقت عليه الأغصان المورقة المتدافعة بتزاحم نحو الضوء، وأشجارَ الورد النابتة بعبثية وإهمال دون تقليم. مسحتْ معلف الخراف الذي عاثت به الفوضى، وقنَّ الدجاج الذي أنهكه الإهمال، والماءَ الأخضر الذي غطّى بقعاً من الأرض المعشبة هنا والجرداء هناك. مسحتْ موجودات المكان المهمل الغارق بتكاسل في هدأة النور.
ـ لقد جاء الربيع دون أن نحس به.. قالت ومدت يدها إلي. أمسكتُ بيدها ونظرتُ حيث عاد نظرها للثبات إلى الشق في أعلى الجدار وأصبت بالرعب فشدت بيدها على يدي مطمأنة إياي.. لقد كانت هناك. الحية كانت هناك. الحية حية العين نفسها الخضراء المرقّطة المتماهية الألوان بطحالب جدار الحظيرة. الحية التي مدّت رأسها ورفعته محيية لتسمّرني في مكاني بجلال الرهبة.
ـ إنها حارسة البيت. احذر أن تؤذيها كي لا تؤذيك.. قالت “ماما” بهدوء دون أن تزيح نظراتها عن كائن الرهبة الجليل الذي طأطأ رأسه بهدوء منسحباً في تفاصيل شق الجدار.

أقف متأملاً البحر على الشاطئ. العتمة هاوية تبتلع المدى. أنظر إلى خيط القمر تغطيه سحابات شاردة داكنة. أصرخ في هذا الليل أن يكتمل. أقول: ليكتمل السواد. أنظر موج البحر يزحف هداراً لينسفح تحت قدمي ويتسلل بهديره الصاخب إلى قلبي. أنظر في وجه العتمة. أسمع صوت هدير مألوف. أسمع صوت هدير نهري وأراه. أراه قادماً بهديره في اتجاهي. أنظر إليه من مكاني المعتاد على الجسر. أنظر إلى مياهه الهدارة حول عمود البازلت الأسود تحتي كما هاوية تتحرك وتدعوني للولوج.

ـ قلتَ لي أن الغزال أعجبك. هل تريد أن أعلمك صيد الغزال؟.. قال أبي وهو يضع يده على كتفي وأحسست بالسعادة والزهو.
ـ نعم. علّمني كيف أسوق الموتوسيكل وكيف أطلق النار.. قلت وشعرت به يتراجع بعد أن أحس بفداحة عرضه.
ـ تطلق النار!؟ نعم، لكن عندما تكبر. أنت تعلم. عليك أن تتقن الصيد بالصنارة، وأن تكبر قليلاً لأن الضرب بالنار خطر.. قال أبي ثم حاول تغيير الحديث.
ـ قلتَ لي أن الغزال أعجب أمك أيضاً! هل تعتقد أنها مازالت غاضبة.. قال وتداعت إلى ذاكرتي صورة أمي وهي تضمني وتقول غاضبة ومتحدية: راح يشوف. يشوف.. وهربتُ من تساؤلات عينيه إلى مراقبة الفلينة الطافية على قلب الصمت.. الفلينة مركبة فضاء تمخر قلب الصمت بصمت، تلقي بي في حضن حديقة أمي.

*******

أجلس في مكتبي. أعيد شريط ما دونت من روايتي. أحس أنني ضائع في تشابكات خطوط بنية بالغة الصعوبة. أفكر أن علي أن أفككها وأتحدث هكذا ببساطة كما تتحدث جدتي، ولكن هيهات. لقد سلكتُ درباً أشبه بدرب الصدّ لاردّ كما تقول أمي، وعليّ أن أبتكر حلول توغلي في هذا الطريق. أهرب من تعقيد أفكاري إلى عملي. أتناول  تحقيق ردود المثقفين حول الحرب. أحدث نفسي أنني أحتاج لبعض الردود من أجل استكمال العدد. أتصل بروزا. أطلب مقالي من الصف، وتحضر لي روزا مقالي. تضعه أمامي. أنظر الخط الأحمر الذي وضعته روزا تحت اسمي. أنظر إليها.
ـ هل أعجبك المقال؟.. أقول لها.
ـ لماذا تجازف هكذا الآن. انظر إلى وضعك. إنه الأسوأ بينهم. هل تظن نفسك المسيح. كلهم سيتراجعون وسترى بنفسك ذلك.. تقول وأنظر إليها. أشكرها.
ـ أنت حريصة علي. ها. هل يهمك أمري؟.. أقول ممازحاً إياها. تضحك بقهر وتمضي.
ـ لم يعد يهمني أمر أحد.. تقول وتمضي.
ألملم أوراقي. أحس أن علي إنهاء تحرير الردود لتقديمها إلى عائشة. أنهي عملي. علي أن أسرع…
أضع المقالات أمام عائشة بعد أن أسلم على نصير والدكتور سعد. تطلب مني عائشة الجلوس.
ـ كنا نتحدث في الموضوع نفسه: ردود المثقفين على الحرب. لقد عاد الدكتور سعد من بيروت بربع الردود، والربع نفسه تشم فيه رائحة الحذر. إنه يقول أن المثقفين العرب عموماً جزء من الأزمة نفسها. المثقفون ليس لديهم الأرضية الصلبة لاتخاذ مواقف خاصة بعد أن اتضح لهم النصر الأمريكي.
ـ لكن دكتور، نحن لم نطلب من المثقفين القتال. نحن صحافة، نسجل الموقف مهما كان لرصد حركة الواقع، وكشف حقيقة هذه الحركة.. أقول للدكتور سعد.
ـ أنا أفهم ذلك.. يقول لي، ولكن حديثي مع عائشة لم يتوقف عند ظاهرة حسابات المثقف. أنا أقول أن أحد أسباب النفس القصير لدى المثقف يكمن في عدم الثقة بالتاريخ وبالواقع، وبقوى التغيير، وأرجع ذلك إلى السنوات الطويلة من تغييب حرية المثقف وكتم الأنفاس، وكم الأفواه، وخنق الصوت، يقول وينظر إلى نصير الذي لا يترك فرصة عادة دون أن يدلي برأيه، غير أن نصير يظل صامتاً.
ـ أنا معك دكتور.. أقول، في أننا كمثقفين جزء من الأزمة ونحن نتاج تاريخ القمع، لكن يفترض أن جزءاً كبيراً منا وبسبب الثقافة نفسها يعون هذه الحقيقة وعليهم أن يحلقّوا فوق ردود الفعل. أي بأجنحة وعي الواقع وهذا ما حدث معنا. لدينا ردود كتّاب مثل خالدة سعيد وغيرها وقفوا ضد الحرب رغم ثقتهم بعدم جدوى وبؤس السلوك الحربي والإعلامي للنظام العراقي. ولدينا ردود وضعت قدميها على الضفتين مثل رد أدونيس. وهناك مثقفون لم نأخذ رأيهم أصلاً كانوا قد حسموا موقفهم بالقتال مع التحالف من خلال هجومهم الإعلامي على صدّام حسين مع الهجوم العسكري للتحالف.
ـ أنا أقول أن المثقفين هم الأكثر عرضة للانتهازية، ويعرفون أين يضعون أقدامهم.. يقول الدكتور سعد، وأوافقه جزئياً على رأيه.
تضحك عائشة. وألتفت إلى نصير.
ـ لم تسجّل لنا رأيك. أنت الأكثر حسماً للموقف ضد الحرب. أقول لنصير الذي تزعجني حياديته بعد كل هذا القتال.
ـ لقد انتهت الحرب. يقول لي. أنا ناشر كتب ولست كاتباً. أنا أقاتل على طريقتي. اتفقت مع عائشة على مهمة تشبه مهمة ردودكم، وتتعلق بمشروع ترجمة ونشر الكتب التي وقفت ضد الحرب.
ـ وأنت؟.. تسألني عائشة.
ـ لقد كتبت مقال الصفحة الأخيرة، كما لو أنني أقول للتحالف: حسناً يا أولاد الـ…. هناك من لا يزال يقف ضدكم. أقول وأنظر إلى نصير الذي يضحك ببراءة وتزعجني حياديته.

أقف متأملاً البحر وحيداً على الشاطئ. أنظر في وجه العتمة. أدير رأسي بهدوء نحو حصى الشاطئ. أمشي بهدوء فوق حصى الشاطئ. خيط القمر يعود. ينير رأس الموجة التي تتقدم مني بهدوء. أمشي فوق حصى الشاطئ. أستعيد حوار لقاءات اليوم وألوم نفسي على موقفي من نصير. لماذا ألوم نصير، ولماذا أشكك بمواقفه؟. لقد أصبحت أكثر حساسية ولم أعد أستطيع تمالك نفسي، علي أن أنتبه إلى حالي. أفكر بموقف روزا. إنها تلومني على مقالي، وكأنها تعلم ما لا أعلم. هل علي أن أراجع موقفي. اللعنة. إنها هزيمة كاملة، والأكثر بؤساً هو سؤالي لنفسي هل علي أن أراجع موقفي…
أسترجع بذاكرتي صورة الرجل الهادئ في الزنزانة. ترى بماذا يفكّر الآن. بماذا يفكر رياض الترك الآن. هل يراجع قراره مثلما أفعل الآن أم أنه رماه خلفه نهائياً. لقد حدثني مرة عن تجربة سجن سابقة. قال إنه يطرد عن داخله كل ما يتعلق في الخارج كي لا يهز عزيمته. هل رمى الخارج خلفه نهائياً ورفع قبضته العارية في وجه الجدار. أسترجع شريط ذاكرتي عن موقفه وهو ينظر إلى قرار انسحابه الذي أعدوه له. يقرؤه بهدوء. يعيده إليهم بهدوء. أفضل طريقتي في الموت. يقول لهم.

أقف متأملاً البحر وحيداً على الشاطئ. أنظر في وجه العتمة. أدير رأسي بهدوء نحو حصى الشاطئ. أمشي بهدوء فوق حصى الشاطئ. أطرد أفكاري حول قراري. أرى مسيح نيكوس كازانتزاكيس وهو يغرق بآلامه على الصليب: أعطني يدك أيها السيد. تقول له الفتاة. ينظر إليها السيد من آلام صلبه التي لا تطاق. آلام قاسية لا تطاق. آلام الجسد قاسية لا تطاق: لماذا لا تغيبين، لقد كدت أن أنسى آلام الجسد. يقول. أعطني يدك أيها السيد. تقول الفتاة. تلك هي يد أبيك يد الله. آلام الجسد لا تطاق. هل أنتِ متأكدة أنها ليست يد ما قبل الله. أعطني يدك أيها السيد. تقول له الفتاة، يدي ماء وعشب وبيت دافئ وحضن وزوجة وضحكات أبناء وأمك، يدي حضن أمك أيها السيد. وينظر السيد إلى الفتاة. إنها وادعة، صبية أليفة وادعة، إنها وجه لا يمكن أن يضمر الشر، وجه الخير هو هكذا. وجه الخلاص هو هكذا. ينزع السيد يده اليمنى من مسمار الصليب. ينزع السيد يده اليسرى من مسمار الصليب. يناول يده للفتاة وينزل: ما بال الناس ينظرون هكذا إلى الصليب. ما بال هؤلاء البشر المتحلقون حول الصليب. أنا لم أعد هناك. أنا في البيت حول موقد النار، محاطاً بدفء زوجة وضحكات أبناء، أنا لست على الصليب، أنا لست على الصليب، أنا لست على الصليب، يا إلهي. ينزع السيد يده مرعوباً من يد الفتاة. السيد على الصليب. دامياً يرفع رأسه بجهد اللحظات الأخيرة: أبي، يا أبي، لماذا تركتني يا أبي.

اللعنة. إنها هزيمة كاملة. يلمع في ذاكرتي وجه الفتاة الوديع تمد يدها إلى المسيح طالبة منه أن ينزل عن الصليب. المرأة هي الإلهة والخطيئة أقول. ولكن.. لماذا لا تكون روزا على حق. إنها ليست المرة الوحيدة التي أمارس فيها سلوك التيس في الزمن الخطأ. أفكر بمقالي. إنه جميل وساحر. أفكر بخط روزا الأحمر تحت اسمي. المرأة هي الإلهة والخطيئة. أفكر بروزا.. لقد توقفت عن النظر إلي. إنها لم تعد تنظر إلي. أحس أنني معاقب هذا اليوم، هل كان ضرورياً أن أوقّع باسمي على هذا المقال.. محمد لا يفعل ذلك في افتتاحية المجلة. “سوف تكون المطاردة عنيفة، وأقلها الحرمان من لقمة العيش”، قالت روزا وهي تلومني على وضع اسمي على مقال لا يزال يعلن أنه ضد حرب الأمريكان على العراق بعد انتصار الأمريكان. هل روزا على حق في ذلك. لماذا تلومني روزا. يبدو لي أن موقفها هو أبعد من مسألة المقال. إنها تخفي عني شيئاً، هي تعرف عائشة ومحمد أكثر مني، ويبدو أنها تعلم أسراراً تخفيها عني. لكن لماذا تخاف عليّ. إنها فتاة مسيحية مارونية، ومخطوبة.. صحيح لهذا الثقيل جورج، ولكنها تعرف أنني مرتبط بحب. لماذا أفكر بموقفها على هذه الصورة. وهل يعني خوف أي فتاة على رجل هو حب له. لماذا لا أعيد موقف روزا إلى روح الصداقة وحرص النساء الأمومي على من يصادقن من رجال دون أية شطحات مرضية ذكورية. أعرف أنني مشوش التفكير ولم أعد أعرف موضع قدميّ رغم أنني أبدي تماسكاً محسوداً عليه أمام الجميع. اللعنة على هذه الحرب. أفكر بنصير. إنه رفيقي، وليس علي أن أشكك بموقفه ففي النهاية سوف يكون موقفنا واحد، لكنه يقلقني بصفقته لطبع الكتب مع عائشة حيث أن النظام الليبي لن يكون بعيداً عن هذه الكتب. لقد تجنبني اليوم، ولم يأت إلى زيارة مكتبي كما يفعل بعد زيارته لمكتب عائشة. لقد نظرتْ إليّ روزا بتشفٍّ وكأنها تريد إثبات وجهة نظرها. ألم أقل لك. هذه الفتاة تعرف شيئاً وتخفيه عني. اللعنة على هذه الحرب.

أقف متأملاً البحر وحيداً على الشاطئ. أنظر في وجه العتمة. أدير رأسي بهدوء نحو حصى الشاطئ. أمشي بهدوء فوق حصى الشاطئ. خيط القمر يعود. ينير رأس الموجة التي تتقدم مني بهدوء. أمشي فوق حصى الشاطئ. هل كان قراراً صائباً، أم إعادة اعتبار وهمية للذات. مقاومةً أم شكلاً آخر للانهيار. خلاصاً أم وهم خلاص!؟.. أضرب حصى الشاطئ. أركل واحدة أخرى نحو البحر. خذ أنت أيضاً. أحس أنني وحيد، وحيد ومنبوذ، منبوذ وغير مرغوب فيه. أفكّر بريجيس دوبريه وبطله غير المرغوب فيه فرانك. إنه لم يعطنا رأيه في الحرب، ولكنه استقال من وظيفته كمستشار لميتران. كم أحس أنني وحيد، وحيد وغير مرغوب فيه. وحيد وأحس أن هذا هو زمن المنتحرين.

*******

أقف أمام روزا التي تغلق حنجور سائل التصحيح وتنظر إلي. أسألها أن تطلب لي نورا في باريس وأحسّ بحرجها. كم تخاف من عائشة. أضحك، وأطلب منها الانتظار. أدخل مكتب عائشة. أقول لها أنني سأطلب مكالمة إلى باريس وتهز رأسها.
أشير إلى روزا بإبهامي علامة الموافقة وتضحك. أجلس في مكتبي منتظراً. أتشاغل بتقليب مجلة أمامي دون أن أحس بالصور. أراقب روزا وهي تضغط على الأزرار لطلب الخط. يرن تلفوني. أرفع السماعة بسرعة. يأتيني صوتها دافئاً متلهفاً وينطق اسمي. كم أحب أن أسمع اسمي في أنفاسها. أحس بأنفاسها الدافئة على الخط. أسألها كيف أحوالها وأحوال طارق، وتسألني أين كنت هارباً، ومع من في بافوس. لقد اتصلتْ في غيابي. أضحك وأقول لها: “لماذا لا تصدقين أنني كنت لوحدي”.
أثبت لها أنني كنت لوحدي بالصراخ: وحياتك. وعيونك. وتقوم روزا ضاحكة لكتم صوتي عن الآخرين بإغلاق باب مكتبي.
ـ اسمعيني نورا. اتصلت لأخبرك أنني بدأت كتابة روايتي. ولقد طلب مني المخرج السينمائي هشام  أن أكتب تجربة منفاي للعمل معاً على فيلم، وذهبت إلى بافوس لأنفرد بنفسي.
ـ وهل انفردت.. تقول وتتابع غامزة. بنفسك.
ـ نعم. لا شيء كان مغرياً صدقيني.
ـ وسائحات بافوس. عيونك لم تكن تهدأ في باريس.
ـ نعم لكن كان هناك من يعطل مخي عن الفعل.
ـ وما أدراني. أنتم الرجال لا يؤمن لكم.. تقول وأشعر بمرارتها المتسربة من خلال سخريتها. إنها لم تنس  إساءة يوسف. لقد خانها كما يبدو وهي لا تريد الحديث مع أحد في هذا الأمر. لن تتقبل نورا أبداً حقيقة أن رجلاً استطاع أن يخونها، ولن تغفر له نفسها المكابرة أبداً هذه الزلّة. كان الله في عونك أيها الرجل يوسف، فلا أحد يتمنى أن يكون في محلك.  أحس بمرارتها وأغير الحديث.
ـ المهم نورا. متى تأتين. لقد حل الربيع. أين الوعود!؟.. أقول وتتنهد، وتصمت.
ـ يصعب علي القول هاني. يبدو أنني سأنتظر قليلاً في فرنسا. أخبرت يوسف بذلك ونحن على وشك حل مشاكلنا. لا تقلق. سوف آتي ولو للزيارة. بالمناسبة هاني. هل كلمت عائشة عن رواتب سامح. إنها تدفع له بالقطارة، ووضعه المادي سيء. تقول وأطمئنها بأنني فعلت، وسأحاول مجدداً. أقول لها وتدور في مخيلتي صورة عائشة التي شعرت بحرجها من تذكيري لها برواتب سامح.
ـ هل تأكل جيداً؟.. تقول وأضحك.
ـ كنت أتوقع سؤالك. ولهذا أنا أقوم بحملة تغذية، ولن يكون هناك هاني المعصعص بعد الآن.
ـ يااااه.. مازلت تذكر!. لقد مضت أكثر من 25 سنة.. تقول وهي تستعيد ذكرى قتالاتنا ونحن طفلين.
ـ نعم أذكر أن فتاة سميتها لصة المجلات أتحفتني بهذا اللقب، لكنني سأزيله فلا تخافي.. أقول وتضحك.

*******

أعدّل وأنا جالس وضع الديك المنتصب بجانبي على ساعد المكتب. أنظر إلى عنقود الزهر الأصفر أمامي في المزهرية، أمد يدي بحذر من شوكاته لتعديل وضعه. أنظر إلى النافذة. اللون بدأ يميل إلى الداكن. أشعر بالحاجة إلى استنشاق الهواء. أقوم وأفتح النافذة. أملأ رئتي بهواء الربيع المنعش الممتزج بعطر ليمونة الجيران. لن تكف هذه الليمونة عن قتلي. أعب عطر الليمون ملء جسدي. يا إلهي سوف يقتلني هذا العطر. سأوصي أن أدفن في سرير من تويجات الليمون، وأن تزرع بجانب قبري شجرة ليمون. أحدث نفسي وأحس بالعينين الجميلتين اللتين تراقباني عبر الزجاج. أنظر باتجاه روزا. أنظر في عينيها اللتين تستحيلان ليمونتين صغيرتين تفتحهما محدقة بي. أين ذهبتَ!.. تقول لي عيناها. أزيح عيني بابتسامة اعتذار. لم أستطع المقاومة.. تقول لها عيناي.
أعود إلى مكتبي. أجلس وأطبق كفي كعادتي على بعضهما كما الراهب في صلاة. أضغط شفتي على إبهاميهما وأغيب في لون أصفر عابق برائحة الليمون. متى تأتي نورا!.. سوف لن أستطيع الانتظار. تدخل روزا إلى مكتبي. تضع الصفحات المخرجة أمامي بانزعاج. أستغرب تصرفها. تقول لي: تفضل. وأحدق في عينيها مستفهماً غير أنها تهرب بعينيها من عيني وتمضي. أتابع حركة جسدها الرشيق وهي تمشي وتجلس على مكتبها. إنها لا تنظر إلي لكنني أعرف أنها تراني. أقلّب الصفحات أمامي. أضع مقالي على رأس الصفحات لتصحيحه.
“أيتها المرأة المحاربة من المارينز”. أقرأ مقالي بمتعة. إنه مذهل. أحس بالزهو، وانتبه إلى نفسي. أتذكر سخرية سامح المحببة إلي: “أنت الوحيد الذي يمدح كتابته بنفسه حتى قبل أن يكتبها”. أضحك على عاداتي، أحس بالزهو غير أنني لا أحس بالراحة. تلمع في رأسي الفكرة. إن هذا هو ما أزعج روزا. إنها لا توافق على لهجتي العنيفة في الكتابة ضد التحالف.. لقد قرأتْ مقالي حتماً قبل أن تحضره إلي. أنظر إليها موحياً أنني عرفت، وتنظر إلي بسخرية: “هل تستمتع بالبطولة”.. تقول لي عيناها، وتدفعاني للغيظ والتفكير. لماذا تخاف علي هذه الفتاة. إن هناك حتماً ما تخفيه. أنظر إليها وأهز رأسي: سأريكِ.. تقول لها عيناي.
أعود لمتابعة عملي على الصفحات المتراكمة. أنظر إلى النافذة المفتوحة، وأعود للغرق في عملي. لقد خيم الهدوء على المكان. غادر الجميع المكان. أنظر إلى روزا الوحيدة الباقية خلف التلكس. أضع يدي خلف رأسي وأقوس ظهري إلى الخلف كي أنفض تعب اليوم. أقوم وأدخل مكتب روزا. أقف بجانبها وهي تنهي الكلمات. تحذرني من النظر إلى أسرار المجلة.
ـ القضية أبعد من مجرد وهم للبطولة.. أقول وتنظر إلي. تقوم دون أن ترد علي. تدور في أرجاء المجلة للتأكد من عدم وجود أحد. تغلق باب غرفة الأرشيف، وتعود. تقف أمامي.
ـ ماذا تسمي مقالك إذن.. تقول وتنظر متحدية في عيني.
ـ أنا أكتب قناعاتي. أقول بتصميم.
ـ في الزمن الخطأ.. تقول وتتجه إلى مكتبها، ترتب أغراضها للمغادرة. أتبعها وأقف بجانبها عن قرب بإلحاح أن تفضي لي بمخاوفها.
ـ حسناً، لن أخفي عليك. هناك عدم رضا عن اتجاه المجلة من قبل الممولين الليبيين، وعائشة ومحمد محتاران ماذا يفعلان.. تقول وأنظر في عينيها.
ـ وما موقعي أنا في كل ذلك!؟.
ـ متى تكف عن هذا الاستهتار. أعتقد أنك ذكي كفاية لتدرك أنك الوحيد الذي سيكون له موقع في ذلك. سوف تكون مخطئاً إن فكرتَ أن عائشة لن تبعدك عن المجلة من أجل تخفيف النفقات إن لم يكن لإرضاء الممولين الليبيين وطمأنتهم عن اتجاه المجلة.. تقول وأبتسم لها. أستفزها بالقول إنها فقط متحسسة من عائشة، وتغضب. تدير لي ظهرها وتتجه لأخذ حقيبتها كي تغادر. أمسك بكتفيها من الخلف. أحس بجمودها واستسلامها ليدي. أشم رائحة أنوثتها الأخاذة، وأندفع إلى إدارتها لمواجهتي. تنظر إلي باستسلام واستغراب. أضع كفي اليمنى بين خدها وعنقها. تميل برأسها على يدي محتجزة إياها بخدها المضغوط على عنقها. تصل سبابتي وإبهامي إلى حلمة أذنها. أداعبها بلطف. تغيب قليلاً وتستفيق من غيابها.
ـ لا أظن أن علينا التورط هاني. تقول لي بصوت ضعيف وأنظر في عينيها بحنان. أوافقها بحزن عيني. أرفع كفي عن خدها. تأخذ حقيبتها وتسألني بارتباك هل سأبقى، وأجيبها لا سوف نخرج سوياً. أتجه إلى مكتبي. أطفئ النور وأتبعها. أنظر إليها بين الفينة والفينة في المصعد. أحس بعينيها ترياني دون أن تنظرا إلي. يقف المصعد. أفتح لها الباب وأتبعها. نمشي سوياً في طريق بيتها.
ـ لماذا فعلت ذلك!؟.. تسألني بقدرة الأنوثة الواثقة.
ـ لست أدري روزا. أحياناً أفقد السيطرة على جسدي.. أقول وتصمت. أسألها إن كنت مديناً لها باعتذار، وتطمئنني.
ـ لا.. لم يحدث ما يوجب ذلك. أعتقد أنني يجب أن أفرح لكن أنت تعلم وضعي ووضعك. علينا أن نستمر كأصدقاء فقط. تقول وأجيبها بسرعة أنني مثلها أعتقد ذلك. نمشي صامتين. رجل وامرأة يشدّهما ما يفرقهما. رجل وامرأة يمشيان صامتين. ننحرف يساراً باتجاه بيتها. أقطف زهرة بنفسجية مدلاة من الشجرة على يساري. أقدمها لها.
ـ لن يضير صداقتنا تقديم زهرة. أليس كذلك!؟.
ـ بالعكس. أحب أن تقدم لي الزهور.. تقول وتضحك. تسألني عن أخبار نورا. أقول لها أنها جيدة.
ـ حسناً. أنا متحسسة من عائشة. أليس كذلك!؟ لم تقل لي لماذا. أخبرني؟ تقول غير تاركة مامرّ يمرّ بسلام، وأحاول التملص..
ـ ربما غيرة النساء المعتادة من بعضهن. أقول مازحاً.
ـ هل تحس أنني يمكن أن أغار من عائشة. لماذا لا تفهم أن الأمر لا يتعلق بعائشة، لماذا لا تريد أن تفهم أنك لا تعمل في مجلة صافية لتحرر المرأة بل في مؤسسة رأسمالية لها ممولون وشركاء لا يحسبون سوى حساب السوق، وأنا أرثي لعائشة وضعها بينهم.. تقول غاضبة من شكي بدوافعها.
ـ أنت تتعاملين مع الأمر بتطرّف. ليس هناك من مجلة صافية. والمجلة تبقى مجلة تحرر بكتّابها ومحرريها، وأنا أحاول الحفاظ على هذه السوية.. أقول مدافعاً عن المجلة.
ـ سنرى كم يطول حفاظك على هذه السوية.. تقول وأتصنع الغضب كي أغير الموضوع
ـ كم أنت تشاؤمية ونكدية.. أقول وتضحك بقليل من المرارة. نقف أمام بيتها.
ـ هل تحب الدخول!.. تقول وأحس أنها محرجة. أشكرها وأمد يدي ضاحكاً. أحتضن يدها وتضحك محمرة الوجه، قبل أن تمضي في الرواق.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى