ثورة تونس

واقع الأحزاب العربية من منظور التجربة التونسية ماجد كيالي

جاءت الانتفاضة التونسية من دون أحزاب، ومن دون أيديولوجيات أو شعارات عامة، وبدون قيادات “كاريزمية” متصدّرة، وهي بهذا المعنى شكلت علامة جديدة، فريدة من نوعها، في تاريخ الحركات الشعبية، بكونها انتفاضة شعبية وشبابية وعفوية (ربما لا يشبهها سوى الانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي اندلعت في الفترة من 1987ـ1993 مع فارق المعنى والموضوع).
وفي الحقيقة فإن هذه الانتفاضة بيّنت، وبكل وضوح، واقع أفول الأحزاب والتيارات القومية والشيوعية والإسلامية والوطنية (القطرية)، في البلدان العربية (إلا حيث كانت في السلطة)، وهذا ينطبق على حال المنظمات والاتحادات الشعبية والنقابية، على الصعيدين الوطني والعربي؛ التي باتت جزءاً من آليات السلطة وديكورها.
ومعنى ذلك أن الانتفاضة الشعبية التونسية مجرد أكّدت المؤكّد، على هذا الصعيد، فأين هي هذه الأحزاب، إزاء كل القضايا التي تعاني منها المجتمعات العربية؟ أين هي من قضايا تدني مستوى المعيشة، وتدهور مستوى التعليم والصحة والخدمات الأساسية؟ أين هي من تفاقم مشكلات الفساد، وتجاوز القانون، وانعدام التكافؤ في الفرص بين الناس؟ أين هي من مشكلات مصادرة الحريات الأساسية، ومشكلات الاندماج الوطني؟
ومثلا، فإن الأحزاب الإسلاموية إما مشغولة بقضايا التديين، وبشعار “الإسلام هو الحل”، أو مشغولة ببناء المجال الطائفي، أو المذهبي، لتعزيز شرعيتها كقوة سياسية. أما باقي الأحزاب الأخرى (القومية والشيوعية) فتحولت إلى ديكور في الفضاء السياسي العربي.
اتحادات العمال والفلاحين والطلاب والكتاب والمرأة والشباب والمحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم باتت مجرد ديكور، أو جزءاً من آليات التحكم والتوجيه للسلطات السائدة.
على أي حال فإن دليل أفول مكانة هذه القوى يكمن في ملاحظة التدهور المريع في دورها، الذي بات يقتصر على تدبيج البيانات، وتنظيم المهرجانات، لكن فقط تلك المتعلقة بالقضايا “القومية”، من دون أي مساس بالقضايا المعيشية التي تعاني منها مجتمعاتها. وكما نشهد فإن هذه الأحزاب يمكن أن تتحدث بحسب ما عن القضايا القومية (فلسطين والعراق وأميركا وإسرائيل والمقاومة)، ولكنك لا تستطيع أن تتكلم شيئاً عن تردي الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعن تغول واقع الاستبداد والفساد في بلدانها!
أيضاً، فإن دليل أفول هذه القوى يكمن في انحسار الانتماء إليها، وابتعاد حاملها الاجتماعي عنها، بدليل أن عشرات الأحزاب ليس لها من الوجود إلا الاسم، والختم والعلم، وبعض القياديين، على شكل مكتب سياسي ولجان مركزية؟
وفي هذا المجال يمكننا ملاحظة كون الأجيال الجديدة من الشباب بعيدة عن العمل السياسي المباشر، وعن القضايا والايدلوجيات الكبرى، في حين أنها تبدي حساسية أكبر لقضايا المعيشة وقضايا الحقوق الفردية، ولمسألة مواكبة ركب التطورات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية العالمية؛ وهنا ليس صدفة أن الانتفاضة التونسية كانت في غالبيتها انتفاضة شباب.
وليست معضلة الأحزاب العربية (ومعها الاتحادات الشعبية كذلك)، تكمن، فقط، في إخفاقها في تحقيق المهمات التي وضعتها على عاتقها، وفي الحفاظ على مكانتها الجماهيرية، وإنما هي تتجلى، أيضاً، في إخفاقها حتى على صعيد الحفاظ على حيوية بناها، ومطالبها السياسية. وما يلفت الانتباه أن هذه الأحزاب، على مختلف مشاربها الفكرية، ورغم كل ما تقدم، ما زالت مصرة على الاستمرار بدورها على الرغم من أن التاريخ تجاوزها، بعد أن انصرفت عنها كادراتها وقواعدها، وحتى جماهيرها، وبعد أن تكلست بناها، وأثبتت عجزاً متأصلاً عن ممارسة السياسة في الواقع الجديد. وقد رأينا ذلك جلياً في الانتفاضة الشعبية التونسية، التي بدت وكأنها فاجأت الأحزاب القائمة داخل تونس وخارجها.
ويُستفاد من التجربة التونسية أن وجود الأحزاب، والقيادات الكاريزمية الملهمة، ليس شرطاً لازماً للانتفاضات والتحركات الشعبية، فقد ألهم الشاب محمد بوعزيزي الجماهير الشعبية، بحرقة جسده، للتحريض على الثورة من أجل العيش الكريم ومن أجل الحرية، في مواجهة سلطة الاستبداد والفساد. كما ينبغي ملاحظة أن السلطة في تونس (سلطة بن علي) لم تستطع شيئاً في مواجهة مطالب الشعب، أو للتلاعب بوحدته، فليس ثمة في تونس مشكلات تتعلق بالهوية، أو بالانتماءات القبلية (الدينية والاثنية)، غير الانتماء الوطني، وليس ثمة عدو “قومي”، أو خارجي، ما عزز من قوة الشعب التونسي في مواجهة سلطته، على خلاف الوضع في بلدان أخرى، ولا سيما في المشرق العربي.
وفي هذا الإطار ينبغي الانتباه جيداً لعلاقة الثورات التكنولوجية بالثورات الاجتماعية، وهي علاقة ايجابية. فمهما حاولت قوى السلطة (المستبدة والفاسدة) تأخير ساعة الحقيقة، فإن هذا المسار يشق طريقه، بأحزاب أو من دونها، فلم يعد ثمة حدوداً أمام ثورة الاتصال والمعلوماتية. وفي ذلك فقد لعبت شبكة الانترنيت، وتفرعاتها من فيسبوك وتويتر ويوتيوب، وكذا أقنية التلفزة الفضائية، دوراً كبيراً في تنظيم الانتفاضة وتوجيهها، وفي التعريف بها، داخلياً وخارجياً، بمعنى أن الشبكات الالكترونية لعبت دور التوسطات الحزبية.
ويُستفاد من الدرس التونسي، أخيراً، أن المجتمعات العربية هي اليوم أحوج ما تكون إلى أحزاب حقيقية وجادة، معنية بالقضايا المحسوسة، أو بالقضايا “الصغرى”، ربما أكثر مما هو بحاجة لأحزاب مهتمة بـ”القضايا الكبرى”. والقصد هنا أن هذه المجتمعات هي أحوج ما تكون إلى أحزاب معنية بالدفاع عن حق المواطنين بالعيش الكريم، أي بتأمين الخبز والحرية، وضمن ذلك ضمان النهوض بالخدمات الأساسية (التعليم والصحة)، والمساواة أمام القانون، وضمان الحريات الفردية، وتكافؤ الفرص، ومكافحة الفساد، والحفاظ على الثروة الوطنية، وتنمية الموارد البشرية، والتشجيع على البحث والعلوم، ويناء دولة المؤسسات، وغيرها من مقومات النهوض بالأفراد والمجتمعات، فبغير ذلك لا يمكن الحديث عن التصدي لمهمات أو تحديات “كبرى”، سواء كانت داخلية أو خارجية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى