صفحات سوريةياسين الحاج صالح

سورية والأزمة الوطنية الدورية

null


ياسين الحاج صالح

في السنوات التسعين المنقضية من عمر الكيان السوري الحديث خبرت البلاد أزمة كبيرة كل نحو جيل. ثمة أولا أزمة التكوين التي تمخض عنها تفكيك السلطنة العثمانية بنتيجة الحرب العالمية الأولى وتقاسم منطقة المشرق التي تشكل سورية الحالية كتلة أساسية فيها بين المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين. لقد تكون بلد اسمه سورية، لكن لم يكن ثمة سوريين. كانت النخبة عربية، وعموم السكان ذائبون في تشكيلات أهلية وجهوية موروثة والتمازج بينها محدود.

تحللت الأزمة هذه بالتدريج في ظل الانتداب الفرنسي دون أن تحل، أي دون أن تستقر البلاد على هوية تسكن إليها وتتوحد فيها. ثمة كيان فتي بلا وعي ذاتي مطابق له، وحيث ثمة وعي ذاتي فهو مفارق للكيان القائم. وستنبعث فيما بعد على شكل قومية عربية و”قومية سورية“.

بعد جيل، في أواخر أربعينات القرن العشرين، عرفت سورية أزمة كبرى جديدة. إنها أزمة دولة مستقلة ناشئة، إما لم تحسم أمر هويتها أو حسمته في اتجاه يضعف كيانها واستقرار نظماها السياسي ولا يقويهما. فإذا انضاف إلى ذلك إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين والتأثير الاستقطابي الممزق للحرب الباردة والمشكلة الفلاحية التي لم تكن تراها نخبة الأعيان التقليديين الحاكمة أو تملك حلولا لها، نفهم لماذا اتسم تاريخ سورية طوال الجيل اللاحق، أي منذ استقلالها حتى النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، بعدم استقرار عميق. بعد الانقلابات العسكرية بدءا من عام 1949 والوحدة مع مصر 1958 انهار نهائيا حكم الأعيان عام 1963، وتولى تحالف شعبوي من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى، الريفية والمدينية، الحكم تحت راية القومية العربية. وبعد وقت قليل حسم الصراع بين أطراف هذا التحالف لمصلحة المكون الريفي. على أن المشكلة الفلاحية حلت مبدئيا والفجوة بين المدينة والريف ضاقت. وبعد كارثة 1967 وانقلاب 1970 وإخفاق 1973 استقر النظام السياسي في البلاد، لكن في ظل دولة تسلطية ذات ملامح شمولية بارزة.

ورثنا من الطور السابق المشكلة الإسرائيلية غير محلولة، وكذلك تطوير دولة وطنية حديثة حائزة على آليات إصلاح ذاتية. على أن مشكلة الاستقرار حلت فعلا. بمزيج من توسع جهازي للدولة، لا يقتصر على “أجهزة الأمن” بل يتعداها إلى أجهزة حزبية و”شعبية” مترامية الأبعاد، وأجهزة تمثيلية تضمن تواصلا بين مراكز السلطة العليا وقطاعات من النخب المحلية. كما أعيد بناء تحالف الطبقة الوسطى المديني الريفي، وإن دون لبس حول من له الكلمة العليا فيه. وفي المقام الثالث، وبدءا من عام 1976، بنيت تفاهمات إقليمية مؤثرة ضمنت سيطرة النظام على شروط استقراره الخارجية بعد أن كان ترميم التحالف الريفي المديني وبناء الدولة الجهازية (غير المؤسسية) ضمنا له سيطرة غير مسبوقة على شروط استقراره الداخلية. لا شيء من هذه العمليات يمثل حلا حقيقا لمشكلة الدولة الوطنية التي ورثت قلقا كيانيا من جيلها الأول، وقلقا استراتيجيا من جيلها الثاني، ولن تلبث أن تواجه قلقا يتصل بتكوين مجتمعها، ستواجهه بوسائل العهد الجديد الجهازية. وليس إلا متوقعا أن المشكلات الجديدة لن تحل بدورها بهذه الوسائل.

لم تتأخر تناقضات الجيل الثالث في التجمع والتفجر في شكل أزمة بالغة الحدة في أواخر سبعينات القرن العشرين. يتعلق الأمر هذه المرة بأزمة دولة جهازية ضامرة المعنى (“شخصنة السلطة”، وقد بلغت قد تكون حلا من نوع ما لضمور فكرة الدولة)، تغترب عنها قطاعات واسعة من سكانها. كان تفجر أزمة أواخر السبعينات عنيفا ودمويا، وأخذ وجها طائفيا خطيرا أيضا. ولم تحل هذه الأزمة الوطنية الثالثة إلا بتوسع هائل في إجراءات القمع والإكراه تمخضت فعليا عن “حل” المجتمع السوري ذاته. القول إن هذا أيضا ليس حلا في مكانه، لكن تراكب المشكلات الجديدة فوق المشكلات القديمة بات هو النسق الثابت للأزمات الجيلية السورية.

بعد “الحل” الأخير نعمت البلاد بـ”استقرار” دام نحو عقدين من السنين، صمد لأزمة اجتماعية اقتصادية حادة في النصف الثاني من ثمانينات القرن، ولانتهاء الحرب الباردة وخسران الظهير السوفييتي، ولمشاركة سورية في حرب الخليج الثانية عام 1991 وانخراطها التالي في “عملية السلام” مع إسرائيل برعاية أميركية، وأكثر من الجميع لوفاة مؤسس النظام في عام 2000.

لكن احتلال الأميركيين للعراق في ربيع 2003 والانسحاب القسري من لبنان في ربيع 2005 وعودة “الحرب العربية الباردة” (مالكولم كير) في ظل حرب باردة إقليمية مرشحة للتسخن، فضلا عن المفاعيل الاجتماعية المحتملة لعملية الإصلاح الاقتصادي الجارية، فضلا كذلك عن آليات صنع قرار مفرطة التمركز حول السلطة وبقائها، كل ذلك ربما يؤشر لاقتراب الأزمة الجيلية السورية الرابعة. وينبغي القول هنا إنه ليس للنسق الجيلي للأزمات الوطنية السابقة قيمة تنبؤية أكيدة. نفكر فيه بالأحرى كأداة تحليل، معيار فائدتها هو ما قد تتيحه لنا من تنظيم إدراك وقائع الراهن بصورة ربما تساعد على تقدير اتجاهات تطوره المرجحة.

لقد اقترن كل من زمن التكوين (1918-1946) وزمن الدولة المستقلة الفتية (1946- 1976) وزمن الدولة الجهازية المستقرة (1976-2005) بأزمات حادة. وكانت سنوات 1920 (الاحتلال الفرنسي) و1949 (أول انقلاب عسكري) و1979 (“مجزرة المدفعية)، سنوات انعطافية في مسار هذه الأزمات. هل يمكن تفادي أزمة جديدة؟ وهل يحتمل أن نرى يوما عام 2005 (الانسحاب من لبنان) عاما انعطافيا آخر؟

إن المشكلات الموروثة المتراكبة ضخمة وخطيرة، وإن الأزمة العامة في المنطقة مستمرة. وهذا يضع سقفا خفيضا للتوقعات الإيجابية، وإن كان تحرير الديناميات السياسية، الداخلية والإقليمية، أمر مرحب به دوما من وجهة نظر المدى الأطول. وأصل الأزمة العامة في المنطقة التي تتفجر بدورها أزمات دورية وبتواتر أسرع، كل نحو عقد من السنين، هو اللامساواة العميقة والجوهرية في الشرق الأوسط الذي تقع سورية في قلبه. لا يرضى الإسرائيليون والأميركيون أن نساويهم، ولا يعقل أن يأتي يوم يرتضي فيه العرب أن يكونوا أدنى من غيرهم في منطقتهم. هنا الأساس. والمنطقة مريضة بهذا الداء الوبيل الذي يفاقم أسوأ استعداداتها المرضية الموروثة، الطغيان والطائفية والشقاق والانحطاط الثقافي. تعرض سورية مثالا لا يبهج القلب لهذا التفاعل الضدي، فتتشكل في بنيتها السياسية على غرار النظام الشرق أوسطي الامتيازي واللامساواتي. وتحاكيه بالخصوص في الافتقار لآليات إصلاح ذاتية، قد تتدارك أسوأ انحرافات النظام وتشرك المحكومين في المسؤولية عن مستقبل لا يبدو مبشرا.

بعد اثني وستين عاما على استقلالها تتلجلج سورية عند ملتقى أزمات وعواصف. وما أحراها أن تقف وتتأمل!.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى