صبحي حديديصفحات سورية

الرأسمالية والفاقة الكونية: صبّ النفط علي نار الأغذية

null

صبحي حديدي

ُنسب إلي الصحابيّ المسلم أبي ذرّ الغفاري هذه العبارة الشهيرة: عجبت لمَن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج علي الناس شاهراً سيفه . وأمّا في المسيحية، لكي يذهب المرء إلي ديانة أخري وإلي مثال من عصرنا، ثمة هذه العبارة الشهيرة التي أطبقها البطريرك البرازيلي دون هلدا كامارا: إذا وهبت الغذاء للفقراء، فإنهم يصفونني بالقدّيس.
وإذا سألت لماذا لا يمتلك الفقراء الغذاء، يصفونني بالشيوعي . ولأنّ هذه الصفة الأخيرة لم تعد ذلك الخطر الأحمر الرجيم الذي يهدّد العالم الحرّ ، بل عوالم العالم قاطبة حسب التشخيص الغربي الكلاسيكي، فإنّ ثقاة اقتصاد السوق وصنّاع ما يُسمّي انتصار النظام الرأسمالي، مطالبون اليوم بتعامل أكثر تواضعاً (أي: اٌقلّ غطرسة) مع خروج الجياع من بيوتهم، في الواقع وليس في المجاز، في غالبية العوالم خارج نطاق العالم الحرّ إياه، بعضهم يحمل السيف بالفعل!

وفي توصيف اختلال ميزان العدل الاجتماعي ومعضلة سدّ الرمق، ليس الابتداء من الأمثولة الدينية إلا عتبة التعبير الأخلاقية الأبكر، والأبسط ربما، عن مأزق كوني عتيق، لا يكفّ عن إعادة إنتاج شروطه ضمن منحني تدهور دائم، وتحسّن أو ثبات نادرين تماماً. في عبارة أخري، لم يعد المرء بحاجة إلي كارل ماركس معاصر لكي يتلمّس مآزق الرأسمالية ذات النطاق الشامل، البشري الكوني أوّلاً، ثمّ تتماتها في المتواليات السياسية والإقتصادية والاجتماعية المتعاقبة، تالياً. كذلك فإنّ غائلة البؤس صارت جليّة بيّنة صريحة، علي نحو جرّد الإنحياز إلي صفّ دون آخر (الجوع أمام التخمة مثلاً، وأقصي الرفاه في مقابل أقصي الفاقة…) من رياضة الخيار الناهض علي ركائز فلسفية وإيديولوجية، كما كانت الحال في عصور سابقة، وصار الاصطفاف في خندق الفقراء أمراً مفروغاً منه كما يُقال.

مَن ذا الذي، من الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي رئيس البنك الدولي روبرت زوليك دون إغفال المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي دومنيك ستروس ـ كان، يمكن أن يتجاسر اليوم فيقبل علانية الإنحياز إلي صفّ التخمة ضدّ الجوع؟ صفّ نصف العالم، أي قرابة ثلاثة مليارات من البشر، ممّن يعيشون علي أقلّ من دولارين يومياً؟ صفّ 26 إلي 30 ألف طفل يموتون يومياً، بسبب الجوع المطلق، أي انعدام الغذاء وليس سوء التغذية أو نقصها، و1.8 مليون طفل يموتون سنوياً بسبب الإسهال؟ صفّ مليار من البشر دخلوا القرن الواحد والعشرين في حال من الأمّية التامّة، عاجزين حتي عن قراءة الاسم الشخصي؟ صفّ 1,6 مليار آدمي، أي ربع الإنسانية، يعيشون اليوم بلا كهرباء…؟

ولكن أن يصطفّ رجال من أمثال بوش وزوليك وستروس ـ كان في خندق الفقراء، دَعْ جانباً اصطفاف غالبية ساحقة ماحقة من مؤسسات المال والأعمال والإستثمارات العابرة للقارات، أمر علاقات عامة ولباقة وإشفاق، لا يسمن ولا يغني من جوع. الجانب الثاني، القديم بدوره قِدَم أولي مفاعيل تقسيم العمل، أنّ الثراء الفاحش لا تصنعه إلا الفاقة الفاحشة، وما يكدّس الأرباح الخرافية عند فريق أوّل (الأغنياء) ليس سوي النظام ذاته الذي يستبيح انتزاعها من فريق آخر (الفقراء). فإذا كان نظام الاقتصاد الكوني ذاته يعاني من خلل بنيوي وتكويني متفاقم، وكانت الهوّة شاسعة أصلاً أو آخذة في اتساع مضطرّد، فأيّ إجراء تجميلي يمكن أن يجعل المصطفّين أخلاقياً في صفّ الفقر ـ وهم، للتذكير، اصحاب أمر ونهي في النظام الاقتصادي الدولي ـ أكثر، حتي بقليل فقط، من مجرّد مصطفّين متفرّجين؟ ولنَدَعْ بوش وزوليك جانباً، لأنّ الأوّل رئيس النظام الرأسمالي الأكبر والثاني رئيس المؤسسة الأممية الرأسمالية الأعلي كعباً وصلاحيات، وكلاهما أبناء فلسفة متماثلة في الاقتصاد السياسي والعدل الاجتماعي، ولنذهب إلي المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي: سليل الثقافة الإشتراكية الأوروبية، الإصلاحية أو شبه الإصلاحية، عضو الحزب الإشتراكي الفرنسي الطامح، قبل سنة ونصف فقط، إلي بطاقة ترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة الفرنسية. ماذا يقول عن ارتفاع أسعار الأغذية (زيادات بنسبة 25 إلي 50%)، وانقلابه إلي لهيب جنوني أخذ يحرق القوت اليومي لعدد كبير من ابناء الجنوب، في فنزويلا والمكسيك، كما في الهند والفليبين، وصولاً إلي مصر واليمن؟ في مقالة نشرتها صحيفة الـ فايننشيال تايمز البريطانية قبل أيام، اعتبر ستروس ـ كان أنّ الغلاء الذي طال أسعار الأغذية صار اليوم مدعاة قلق إنساني جدّي ، و مصدر عدم استقرار ماكرو ـ إقتصادي يؤثّر علي الميزانيات وموازين التجارة والمداخيل، بالطبع، في كلّ أنحاء العالم تقريباً . وبعد الشكوي من أنّ سعر الأرزّ زاد بنسبة 50%هذا العام فقط، وأنّ الإختصاصيين ينتظرون المزيد من الزيادات في أسعار عشرات السلع، يخلص الرجل إلي ذمّ الواقفين مكتوفي الأيدي، وأنّ علينا (مَن نحن؟) تقديم دعم فوري لبرنامج الغذاء العالمي.

سوي هذه الخلاصة الملموسة، ولكن ليس دون سرد لائحة الاتهامات المعتادة التي يوجهها الصندوق عادة إلي اقتصادات العالم النامي، لا يكتب ستروس ـ كان كلمة واحدة في توصيف حال التأزّم التي تعيشها الرأسمالية الغربية الراهنة، التي تصنع معظم أسباب المأزق الراهن. كذلك، يا للمفارقة من بروفيسور ووزير اقتصاد سابق، لا يقرّ الرجل بأنّ اللهيب لم يندلع أساساً إلا من صبّ زيت أسعار النفط علي نيران أسعار الأغذية، المشتعلة أصلاً. غنيّ عن القول إنه، أيضاً، ليس الجهة الصالحة للإقرار بواحدة من الخطايا الكبري الأصلية: منذ أن كسر الصندوق، صحبة البنك الدولي، حواجز التبادل التجاري في الجنوب، فاتحاً الميادين أمام تقليص المساعدات التي كانت الولايات المتحدة وأوروبا تقدّمها في دعم الحبوب، اضطرّ ملايين المزارعين في البلدان الفقيرة إلي هجر مهنة لم تعدّ تدرّ عليهم خبزهم كفاف يومهم، وتحوّلت في المقابل إلي عبء يثقل كاهلهم.

وهذه مواقف، بل الأحري القول: مسائل، تزداد بداهة صدورها عن مسؤولي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أياً كانت أصول مشاربهم العقائدية، حين يضع المرء في الإعتبار طبيعة وظائف الشقيقتين ، لقب البنك والصندوق، منذ تأسيسهما في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد ولد الصندوق لكي يضمن التوازن المالي في اقتصاد عالمي مفتوح، ولكي يكون البديل عن معيار الذهب، الأمر الذي انطوي نظرياً علي مساواة صارمة في تطبيق سياسات تدخّل الصندوق لتعديل التوازن عند جميع الفرقاء، سواء تضخم ميزان المدفوعات أو انكمش وعجز. ولكن اعتماد نظام عام لتعويم العملات عام 1973 دشّن النهاية الحاسمة لصورة الصندوق في ولادته الأولي، وأصبح دور الضبط مرتهناً بما تقرّره قمم الـG ـ 7، ثمّ هذه مضافة إليها روسيا أو اليابان أو حتي الصين، وتحوّل الصندوق إلي ضيف مهيض الجناح، يراقب ولا يقرر، وينفّذ دون أن يناقش خطط التنفيذ.

البنك الدولي، الشقيقة الثانية، أُسندت له في الأصل مهمة إعادة التعمير المالي لأطوار ما بعد الحرب العالمية، ومن هنا الطبيعة الواضحة لاسمه الابتدائي: البنك الدولي لإعادة التعمير والتنمية . فيما بعد، انقلب البنك إلي مرابٍ عملاق يقرض دول العالم الثالث بشروط شاقة حيناً ويسيرة تنقلب ضدها أحياناً، وانحصرت مهمته في تحصيل الديون وفوائدها وجدولتها وتحويلها إلي سيف ديموقليس المسلّط علي برامج التنمية وقطاعات الدولة وسياسات دعم السلع الإستهلاكية الستراتيجية. وليس عجيباً، في ضوء هذه المقاربة الوظيفية، أن يطرح الرئيس الحالي للبنك مشروع صفقة جديدة ، ليس في حصيلته النهائية سوي مسوّدة ثانية، لكنها أكثر رداءة هذه المرّة، للصفقة الأمّ الشهيرة التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق فرنكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي.

كذلك فإن نقاط النقد الموجهة ضدّ المؤسستين، وبالتالي ضدّ عمالقة الاقتصاد الرأسمالي الكوني، هي مسرد حجج منطقية يكاد يُجمع عليها أيّ وكلّ اقتصادي يطلّ علي موضوعه ببصيرة سليمة:

1 ـ الأولوية القصوي في وظائف البنك والصندوق باتت تُعطي لطرائق تمكين الولايات المتحدة من المراوغة المرنة في التهرّب من سياسات التدخل التي تعتمدها المؤسستان بالذات. ويحدث هذا حتي حين تغيب نواة كبري في الفلسفة الرأسمالية (مثل نظرية جون مينارد كينز حول ضرورات تأسيس مصرف مركزي دولي) عن سياسات الدولة الرأسمالية الأكبر، والقوّة العظمي الأوحد أيضاً.

2 ـ الوصفة السحرية الأشهر في تراث البنك والصندوق، أي برنامح التعديل الهيكلي SAP، طُبّقت علي دول العالم الثالث، وتطبّق اليوم علي دول أوروبا الشرقية، الأعضاء الجدد في النادي الرأسمالي. ولكنها لم تقترب مسافة بوصة واحدة من اقتصادات القوي الكبري التي شهدت انهيارات دراماتيكية لا تستدعي التعديل الهيكلي وحده، بل تستدعي التعديل الجراحي العميق أيضاً.

3 ـ وكما لو أنّ المؤسستين تمرّستا جيداً في مهنة المرابي، فقد باتت علّة وجود سياسات الإقراض هي تحصيل فوائد الديون. فلا تدخلتا في وقف الإفراط الفاضح في الاستدانة خلال السبعينات، ولا هما خفّفتا شروط خدمة الديون في الثمانينات والتسعينات.

4 ـ المفارقة المدهشة أن البنك والصندوق يطبقان اليوم علي دول أوروبا الشرقية سياسات مناقضة تماماً للأساس الاقتصادي الذي كان وراء ولادتهما أصلاً. وهما يسعيان إلي تسريع عودة هذه الدول إلي العملات القابلة للتحويل في سياق من العشوائية الوحشية: في ظرف عام واحد فقط يتوجب علي هذه الدول أن تنجز قابلية عملاتها للتحويل، في حين استغرقت أوروبا الغربية 15 سنة لبلوغ هذا الوضع، بعد الحرب العالمية الثانية!

5 ـ في ذلك كلّه، وخصوصاً في العقود الأخيرة، بقيت المؤسستان ضيفتيْ مخاض عقيم وولادة عسيرة دائمة في قمم عمالقة الإقتصاد الكوني. فما معني وجودهما وهما أكثر عجزاً عن التدخل في الكوابيس الكبري للبورصات الكبري، وفي أزمات عابرة للقارات من نوع أزمة البيزوس المكسيكي، وانهيار مصرف بارينغز، وهبوط الدولار علي نحو دراماتيكي أمام الينّ الياباني، والتربص في سياسات التبادل بين الولايات المتحدة واليابان، وحالة الشلل التي أصابت الـ GATT بعد جولة الأوروغواي، وما معني وجودهما حين تعجزان عن القيام بأي شيء لا يستطيع السوق القيام به اليوم، وأبد الدهر، في لهيب أسعار الأغذية؟

وإذا قال قائل اليوم إنّ الجياع قد لا يذهبون إلي حدّ إشهار السيف، كما أجاز لهم أبو ذرّ الغفاري، والاكتفاء بحرق الإطارات والاعتصام والتظاهر، فما الذي يضمن أن لا يكون المتسائل عن أسباب افتقارهم إلي الطعام شيوعياً، ولا حتي قدّيساً أو بطريركاً مثل دون هلدا كامارا، بل أكثر تشدداً وتطرّفاً وتعصّباً وأصولية… هذه التوصيفات التي نعرف ما الذي يمكن أن تعنيه دلالاتها في معايير أيّامنا هذه؟ ثمّ ألم يثبت التاريخ صحّة النبوءة الماركسية عن الرأسمالي الذي لا مفرّ له من خلق حفّار قبره، بيديه لا بيد خصومه؟ وفي ظلّ ما يجري اليوم من احتقانات حادّة في شوارع العالم الجائعة، أليست السياسة هي ما يشتعل إسوة بالإقتصاد، أو حتي قبله وبعده؟ ومَن الذي، في صفوف أهل التخمة المشفقين علي أهل البؤس، ينكر أنّ السياسة ليست أقلّ من اقتصاد مكثّف، في أوّل الحال وفي ختامها؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي
25/04/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى