صفحات سورية

خيارات سورية: حزمة الوقائع والأوهام

null


نهلة الشهال

لن يكون أعداء سورية الحاليون، كما أصدقاؤها على السواء، سعداء لو تحقق الخبر الذي أعلن عنه بطريقة غائمة منذ بضعة أيام، والمتعلق بمقترح إسرائيلي مقدم لها بالانسحاب «الكامل» من هضبة الجولان المحتل مقابل سلام وتطبيع. وهذه حالة نادرة، بل لعلها فريدة، أعني أن يحيط ببلد هذا القدر من الإجماع على التوجس مما قد يقدم عليه.
فألاّ يكون أصدقاؤها الحاليون سعداء من اختيار اتجاه الانضواء في صف ما يقال له «معسكر الاعتدال» أمر مفهوم، فهم بذلك يخسرون حليفاً ثميناً في وقت لا تسمح فيه لوحة الاصطفاف القائمة بأي أمل بتعديلها، وهي أيضا حالة أخرى نادرة، تنعدم في ظل معطياتها إمكانات حدوث تبدل في المواقف المتخذة وفي الاستقطاب الناشئ عنها، اللهم إلا إذا حدث تغير كبير ودراماتيكي في أوضاع أي بلد من بلدان المنطقة، وهو ما لا توجد مؤشرات على إمكان وقوعه.

أما ألاّ يسعد أعداؤها بانضوائها أخيرا في صفوفهم، وبشكل واضح، معلن، لا يترك هامشاً للاجتهاد، مما يعتبر عادة نصراً لوجهة نظرهم وشرعنة لمواقفهم، فهو الأمر المستغرب.

وأول «الأعداء» المتوجسين، وإن لم يكونوا أهمهم، فريق 14 آذار اللبناني، الذي يحلم ليل نهار بأن تغور الأرض بسورية: ليس الشعب بالطبع، وإن تكن الحماسة التي استبدت بهم لم تنجح في تجنب ما يمكن اعتباره بكل المقاييس مواقف «عنصرية»… يخشى فريق 14 آذار أكثر ما يخشى أن تتمكن سورية من العودة إلى التفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو التفاهم الذي سمح لها بالدخول إلى لبنان منذ ثلاثين عاما أو يزيد، ثم ما فتئ يتجدد في منعطفات متعددة، مجدداً معه الوكالة الأميركية لسورية، حتى كان القرار الدولي 1559 الذي أعلن نهاية تلك الحقبة. وهم يظنون أن هاجس سورية الوحيد وسر نبضها هو «العودة» إلى لبنان، ولكنهم على هذا، وإن طُمئنوا إلى غير وروده، بصيغته الفجة السابقة على الأقل (؟)، فقد دخلوا في نفق الحلم بالانتقام منها.

أما ثاني «أعداؤها» فسائر الدول العربية، وهم أكثر فطنة بالطبع من أصحاب الموقف السالف، وتقع دائرة ما يهمهم في حيز أكثر اتساعاً بكثير من لبنان. فهؤلاء منشغلون بما يجري في العراق وفلسطين، ومهمومون بالتحدي الإيراني، وعلى هذا وذاك، متجهون إلى مراعاة إيقاع التحرك الأميركي في المنطقة والاتساق معه. ولكن انضواء من القبيل الذي يوحي به اتفاق إسرائيلي- سوري ينزع عن معسكرهم ميزته الأكبر، أو ما يمكن تسميته اختصاصهم بصداقة واشنطن، وفعاليتهم في لعب دور الطرف القادر على تقديم الخدمات الضرورية لسياساتها في المنطقة، بمقابل «وحدة قياس» تبرز قيمة ما يتكبدونه، وهي عربياً سورية… التي يتفننون بضبطها وإحباط مخططاتها، إلى آخر التفاصيل التي تنسج منها وبها السياسة يومياً.

ولكن كل ذلك يبقى شكلياً مقارنة بالمضمون الوارد. إلا أنه قبل التطرق إلى هذا الصعيد، لا بد من الإشارة إلى الدور التركي في الوساطة، وذلك بغض النظر عن تحقق الأمر. فحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم يبرهن مجدداً على إمكان توفر صيغة إسلامية «معتدلة» و»عقلانية»، تعرف كيف توفر للولايات المتحدة ما تحتاجه، وتبقي الصراع والاختلاف مع معارضيها في حيز ما دون سياسي: معركة الحجاب مثلاً، بينما تكتسب مكانة مضاعفة الفعالية حين يتعلق الأمر بإدارة الموقف في العراق أو بالعلاقة مع إسرائيل. وهي على ذلك توظف ميزة لا يملكها خصومها: شعبية فعلية، وشبكة مؤسسات وجمعيات وحركات على الأرض، أو ما يمكن تسميته بالمؤسسات المضافة على المؤسسات الدولتية التي تعتد بها الأطراف التي حكمت تركيا حتى اليوم، من علمانيين مدنيين وعسكريين، مقربين من الغرب. فهل يصبح نموذج حزب العدالة والتنمية التركي مثالا يقتدى، أميركياً، في المنطقة العربية، كبديل «يجمع المجد من أطرافه»… سيما وأن المرشحين كثر!

حسناً، هل أمام سورية حقاً خيار التسوية الشاملة و»الوطنية»؟ والمقصود بهذه الصفة الأخيرة، كما يفسر المسؤولون السوريون في الكواليس، استعادة غير منقوصة للجولان. ترى لو قورن هذا المقياس بما ارتكبه الرئيس السادات واتفاق كامب ديفيد الذي «أعاد» سيناء – بلا تفاصيل رجاء! – لوجبت مراجعة النعوت التي ألقيت على الرجل، بل ربما لصح القول حول ريادته في نظر أتباعه، وإن كان ما يقال عن اختلاف توازنات الواقع الحالي عما كانت عليه الأمور في منتصف السبعينات صحيح نسبياً، وإن كان فعل «الريادة» ذاك قد ساهم بقوة في جعل تلك التوازنات على ما هي عليه من انحطاط راهن لغير صالح العرب. ثم ماذا عن «المبادرة العربية» التي طرحتها وتبنتها قمة 2002 وعادت قمة 2006 للتأكيد عليها؟ أليست تلك هي التسوية الشاملة، أو المقترح والمخطط الاستراتيجي العربي الذي كان ينبغي التمسك به بأهداب العيون، والذي لا يمكن فهم الإقدام الأميركي على احتلال العراق إلا على ضوء الانزعاج منه وإن لم يكن السبب الرئيسي للقرار المشؤوم؟ لا تتحمل سورية بالطبع المصير البائس الذي انتهت إليه «المبادرة العربية»، ولكن «ممانعة» سورية التي تثير حنق خصومها وسخريتهم، هي من دون شك إحدى وسائلهم لاستعادة مبررات تلك المبادرة والاعتداد بها، بينما يشكل انتهاء الفعل السوري المشاغب إغلاقا تاما لحوافز المبادرة وللقدرة على تحفيزها.

ثم لا بد من التذكير بأنها ليست المرة الأولى التي يرد فيها مثل هذا الكلام عن أفق تسوية سورية -إسرائيلية: فلنتذكر ما يقال له «وديعة رابين»، ثم المفاوضات بين الرئيسين حافظ الأسد وبيل كلينتون التي بدت مؤسسة على سوء تفاهم أرجع مداه إلى تدوير مبالغ به للزوايا من قبل الوسطاء.

فهل من خيار من هذا القبيل أمام سورية اليوم، وبأي غاية؟ بانتظار جلاء المقترح الذي ساوم عليه الوسيط التركي، لعل من المفيد التذكير بمبلغ الأهمية الإستراتيجية في نظر إسرائيل لهضبة الجولان موقعا عسكرياً ومياهاً وزراعة ومساحة رحبة قابلة للإسكان… ومبلغ المنشآت الفعلية المعقدة والمكلفة التي أقامتها في الهضبة، وكونها سياسياً قد أعلنت ضمها إليها. وكل ذلك في غاية الأهمية حقاً، ولكنه من جهة أخرى ليس من طبيعة تستحيل مراجعتها، بمعنى الاستحالة الوجودية.

فما الأمر إذاً؟ ما الذي يمكن أن يدفع إسرائيل إلى التعاطي مع موضوع الجولان؟ بداية ستكشف التفاصيل الفورية تعقيد المقترح الإسرائيلي، وكونه يحيط بنوده بألف استدراك، قابلة جميعها للتحول إلى غابة من التدابير «التمهيدية» و»المؤقتة»الكفيلة بإفراغ أفضل النوايا الحسنة من حسنها، وتحويلها إلى كابوس. إلا أن للمقترح الإسرائيلي بوساطة تركية وظيفة راهنة ومستقبلية، فوجهه في سورية وإنما قلبه في مكان آخر: عزل إيران واستتباعا حزب الله وحماس – إذا لم تنجح الوساطة مع هذه الأخيرة التي تبدي الكثير من علامات انتمائها إلى مدرسة الأخوان المسلمين البراغماتية، التي تتلمذ عليها أيضا أردوغان. فهو يحل هذا النوع من الاستيعاب محل الضربة العسكرية «للحلقة الأضعف» كما تسمى سورية في الأدبيات الإسرائيلية والأميركية؟ وإن لم تصل الأمور إلى هذا المدى، فهل إيقاع الارتباك – ولو المؤقت – في صفوف القطب المواجه لأميركا في المنطقة يعتبر هدفاً كافيا؟ وهل رغم الفوارق الجوهرية، يمكن لسورية الادعاء أنها تستلهم، بل تقلّد، ها هنا الإستراتيجية الإيرانية في العراق، حيث تفاوض طهران واشنطن عبر العراق، وتنفذ لها بعض أهدافها فتبقيها أسيرة حركتها… وإن كانت إيران تفعل ذلك كله ممتلكة هامشاً كبيراً من المناورة، ذاتياً (قوتها على أكثر من صعيد)، وخارجياً (باعتبار اللعب يجري على غير أرضها)، مما لا تمتلكه سورية بالطبع.
الحياة – 27/04/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى