صفحات سوريةياسين الحاج صالح

إعلان دمشق: صورة مجملة وتقويم

                      

ياسين الحاج صالح


 

إعلان دمشق: صورة مجملة

 

تشكل حول وثيقة إعلان دمشق التي صدرت في 16 تشرين الأول 2005 أوسع ائتلاف معارض في تاريخ سورية منذ بداية الحقبة البعثية عام 1963. فقد جمعت الوثيقة بين أكثر تنظيمات المعارضة العربية ذات التوجه الديمقراطي والليبرالي (أصول أكثرها يسارية وقومية عربية) وأكثر الأحزاب الكردية، ويوم صدورها انضم إلى الموقعين عليها الإخوان المسلمون السوريون الذين تعيش قياداتهم في المنفى الأوربي منذ أزيد من ربع قرن.

 

على أن سعة ائتلاف إعلان دمشق هي مصدر واحد فحسب لأهميته. يتمثل مصدر آخر في مضمون وثيقة الإعلان التي دعت إلى التغيير الجذري في البلاد، ورفضت الإصلاحات الجزئية والترقيعية. قبل ذلك، وطوال أكثر من خمس سنوات انقضت من عهد الرئيس بشار الأسد، كانت المعارضة السورية قد دعت إلى الإصلاح السياسي وأملت أن يكون النظام مبادرا إليه. على أن تحول المعارضة عن سياسة الإصلاح نحو سياسة التغيير انبنى على خلاصة عملية أيدتها التجربة، تفيد أن النظام غير قابل للإصلاح، وليس على إيديولوجية ثورية. وقد ظل المتن المعارض المتمثل في إعلان دمشق على ولائه لمبادئ الديمقراطية والتغيير السلمي ورفض العنف ونبذ الفكر الشمولي وما سماه المشاريع الوصائية والإقصائية والاستئصالية.

 

كما اكتسب إعلان دمشق أهمية إضافية من اللحظة الزمنية التي صدر فيها، والتي اتسمت بتكثيف الضغوط على النظام السوري بعد انسحابه من لبنان، وبدء التحقيق الدولي في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري الذي توجه أصابع الاتهام بشأن قتله للنظام. ولم يكن الغرض من توقيت الإعلان التطوع كرأس حربة في الضغوط على النظام، بل بالأحرى العمل على تأهيل قوى منظمة قد تسهم في ملء الفراغ السياسي الذي قُدِّر وقتها أن البلاد يمكن أن تعاني منه إن تداعى النظام، وقد بدا ذلك متوقعا حينها وممكنا.

 

تبدل هذا العنصر الظرفي بعد قليل وانفسح المجال لجملة تغيرات إقليمية ومحلية خدمت النظام وتراجعت الضغوط الدولية والعربية عليه، وضعفت المعارضة نسبيا. من ذلك انتخاب الشعبوي نجاد في إيران وتكحوت بؤرة استقطاب جديدة تتمثل في الملف النووي الإيراني، وفوز حركة حماس في فلسطين في انتخابات فلسطين البرلمانية، ومنه تجمد الوضع اللبناني وبقاء أنصار النظام السوري في موقع قوي فيه. وأهمها على الإطلاق تفجر الوضع العراقي وانتشار مقتلة طائفية قذرة، تتوفر لدى السوريين، مهما يكن موقفهم من النظام،  كل الأسباب للنفور منها. ويضاف إلى ذلك بالطبع تخبط الأميركيين في العراق وتأزم موقعهم في المنطقة ككل.

 

ومن المستجدات المحلية تشغيل النظام يده القمعية سواء باعتقال بعض الناشطين كما جرى لموقعين على إعلان دمشق – بيروت بخصوص إصلاح العلاقات السورية اللبنانية في أيار 2006، أو فصل عدد منهم من وظائفهم، أو التوسع في إجراءات منع السفر والتقييد المتشدد لحق التجمع بما في ذلك في البيوت الخاص، فضلا عن مراقبة الهواتف وشبكة الانترنت.

 

وقبل ذلك كان الإخوان المسلمين قد عقدوا تحالفا في آذار 2006 مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق الذي انشق عن النظام في آخر سنة 2005. ولا يحظى خدام بثقة أو احترام المعارضين السوريين، ويرون في التحالف معه خطوة غير موفقة، نتج عنها تكون مركزي ثقل للمعارضة بدلا من مركز كبير واحد، ومن ثم أخذت العلاقة بين معارضة الداخل الديمقراطية وجبهة الإنقاذ الوطني (تحالف الإخوان وخدام) تصطبغ بالفتور.

 

على أن تراجع رهانه السياسي التغييري لا يمس قيمة إعلان دمشق كإطار تنسيق للمعارضة، وبالخصوص بين المعارضين العرب والأكراد. وهذا شيء مهم بالنظر إلى أن الطرفين كانا مفتقرين إلى أقنية للتعارف والتفاعل والعمل المشترك طوال عقود. ينال من قيمة هذا الإطار أزمات ثقة بين بعض قوى الإعلان، وظروف شاقة لأي نشاط عام مستقل في البلاد، وعودة الاختلافات الإيديولوجية إلى التأثير السلبي على عمل المعارضة، بالخصوص بين قوميين ويساريين من طرف وديمقراطيين وليبراليين من طرف مقابل. ويختفي وراء هذه الفوارق تمايزات اجتماعية وأهلية محسوسة وغير مدروسة جيدا. كذلك تعود إلى الظهور مشكلات مزمنة نسبيا تعاني منها حركة المعارضة السورية مثل الفجوة الجيلية، وضعف نسبة الجيل الشاب في صفوفها، واكتهال القيادات، وتاليا تباطؤ إيقاع النشاط ونقص الأفكار الإبداعية إن على المستوى الميداني أو التنظيمي أو الفكري أو السياسي.

 

يحد من فاعلية الإعلان أيضا افتقاره إلى وسيلة إعلام جماهيرية توصل صوته إلى جمهور أوسع. لا جريدة ولا محطة إذاعية ولا قناة تلفزيونية. هناك فقط موقع إنترنت متواضع، عمدت السلطات السورية إلى حجبه في مطالع شهر أيار الجاري.

 

منذ تكونه، أضحى إعلان دمشق إطارا مبادرا إلى الأنشطة الاحتجاجية المحدودة التي تجري في البلاد. منها مثلا اعتصام يجري في ذكرى فرض حالة الطوارئ يوم استلام البعث للسلطة في 8 آذار 1963، ومنها اعتصام في اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول. بيد أن الأنشطة هذه تجتذب عددا محدودة من المحتجين لم يتجاوز يوما بضعة مئات.

 

وهناك اليوم جهود لإعادة هيكلة تنظيم ائتلاف إعلان دمشق وتطوير آليات اتخاذ القرار فيه، يؤمل منها أن تمكنه من القيام بدور أكثر فعالية في معارضة النظام.

 

في المجمل، ورغم كل ما يواجهه من صعوبات،  يبقى “إعلان دمشق” الإطار الوسع والأهم والأكثر قابلية للتطور للعمل المعارض في سورية. وإذا نجح في إعادة ترتيب أوضاعه فسيكون أسهم في تقوية شخصية سورية أمام نظام ما انفك منذ عقود يضعف شخصيتها ويفرغها من الحرية والمبادرة.

 

ــــــــــــــــــــ

 

تقييم ائتلاف “إعلان دمشق

 

تقاطعت ثلاثة معطيات لمنح وثيقة “إعلان دمشق” والائتلاف السياسي المتكون حولها أهمية غير مسبوقة في تاريخ الحياة السياسية السورية. تمثل المعطى الأول في مضمون وثيقة الإعلان؛ والثاني في الظرف السياسي المحلي والإقليمي الذي أحاط بصدور الوثيقة؛ فيما يتلخص المعطى الثالث في تنوع غير مسبوق للتيارات الفكرية والسياسية التي وقعت عليه.

 

من الإصلاح إلى التغيير

 

في جهة المضمون مثل الإعلان تحولا من سياسة الإصلاح والمصالحة التي تمحورت حولها سياسة الطيف الديمقراطي السوري في سنوات ما بعد 2000 إلى سياسة التغيير، أي استهداف تغيير النظام الحاكم. نص الإعلان بالحرف على “ضرورة التغيير الجذري في البلاد، ورفض كل أشكال الإصلاحات الترقيعية أو الجزئية أو الالتفافية”. ومضى إلى الكلام عن “مهمة تغيير إنقاذية”، أي عاجلة وضرورية.

 

ومن جهة محتوى التغيير المستهدف استعادت الوثيقة مجمل الأسس الفكرية والمطالب العملية التي بلورتها موجة حراك الديمقراطيين السوريين في مرحلة “ربيع دمشق” وما بعدها. فالإعلان يحيل إلى “الديمقراطية كنظام حديث عالمي القيم والأسس”، ويتكلم عن ضرورة “بناء دولة حديثة، يقوم نظامها السياسي على عقد اجتماعي جديد”؛ ويدعو إلى “إلغاء كل أشكال الاستثناء من الحياة العامة، بوقف العمل بقانون الطوارئ، وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية”؛ ويطالب بـ”إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وعودة جميع الملاحقين والمنفيين قسراً وطوعاً عودة كريمة آمنة بضمانات قانونية، وإنهاء كل أشكال الاضطهاد السياسي”. كما يدعو إلى “إطلاق الحريات العامة، وتنظيم الحياة السياسية عبر قانون عصري للأحزاب، وتنظيم الإعلام والانتخابات وفق قوانين عصرية توفر الحرية والعدالة والفرص المتساوية أمام الجميع”. هذه عناصر في أجندة الديمقراطيين السوريين منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، وقد تكرست في موجة الحراك الديمقراطي التي أطلق عليها اسم “ربيع دمشق” بين عامي 2000 و2001.

 

ومن المهم هنا أن نذكر أن تحول وثيقة “إعلان دمشق” عن المقاربة الإصلاحية نحو مقاربة تغييرية ليس قطيعة مع النهج الإصلاحي، ولا هو تحول نحو مقاربة انقلابية أو ثورية للواقع السوري. التغيير الذي انحاز إلي الإعلان منغرس في تربة فكرية وسياسية إصلاحية، أما كلامه على التغيير فمبني على اعتبار عملي يقضي بأن النظام غير قابل للإصلاح وليس على أية فلسفة ثورية. وينبغي القول إن خبرة أزيد من خمس سنوات بالعهد الحالي قبل صدور الإعلان، وقرابة 7 سنوات حتى اليوم، تسوغ تماما الاعتقاد بعدم قابلية النظام للإصلاح.

 

وما دمنا في سياق الكلام على محتوى التغيير الذي يدعو إليه الإعلان فإن من المهم الإشارة إلى أن المطالب المشار إليها أدرجت ضمن فضاء دلالي مختلف عما هو مألوف في تاريخ الحركة الديمقراطية السورية، المنحدرة جوهريا من أصول يسارية وقومية عربية. نقرأ مثلا عن “مكونات الشعب السوري”، و”تياراته الفكرية وطبقاته الاجتماعية وأحزابه السياسية وفعالياته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية”؛ وعن “حرية الأفراد والجماعات والأقليات القومية في التعبير عن نفسها، والمحافظة على دورها وحقوقها الثقافية واللغوية، واحترام الدولة لتلك الحقوق ورعايتها”؛ وكذلك عن “حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سورية، بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، على قاعدة وحدة سورية أرضاً وشعباً”؛ ثم عن “سلامة المتحد الوطني السوري الراهن وأمنه ووحدته”؛ ونجد كلاما على “ضمان حق العمل السياسي لجميع مكونات الشعب السوري على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والاجتماعية”؛ وعلى “التأكيد على انتماء سورية إلى المنظومة العربية، وإقامة أوسع علاقات التعاون معها“.

 

هذه اللغة التي تتحدث عن مكونات وتعددية اجتماعية وثقافية واقتصادية، وعن القضية الكردية والمتحد الوطني السوري والمنظومة العربية.. جديدة على الديمقراطيين السوريين من حيث أنها تمنح اهتماما غير مسبوق، وإن يكن مجملا، للتمايز المذهبي والإثني للسكان، بعد أن كان يسكت على بعد الواقع الاجتماعي هذا، لمصلحة واحدة من مقاربتين اختزاليتين، قومية عربية تضفى تجانسا غير واقعي على السوريين، أو ماركسية تنظر إليهم كجماهير محرومة. ولعله تمتزج في لغة الإعلان تلك الرغبة في مخاطبة أوسع طيف معارض من جهة، ومن جهة أخرى إدراك متنام لحقيقة أن الكلام على الديمقراطية غير ذي معنى دون وعي أكثر انفتاحا لواقع المجتمع السوري العياني. هذا تطور في الاتجاه الصحيح. إذ لا مجال لتمثيل ديمقراطي للسوريين دون تمثيل الواقع السوري بصورة “ديمقراطية”، تقارب “نثره” الحقيقي وتنأى بنفسها عن “الشعرية” القومية (سوريا “قطر عربي” وسكانها عرب..) واليسارية (السوريون جماهير كادحة، موحدة المصالح بصرف النظر عن اختلافاتها الثقافية..) التي هيمنت منذ أواخر خمسينات القرن العشرين حتى نهايته، بما في ذلك موجة الاعتراض الديمقراطي الأولى في النصف الثاني من سبعينات القرن. بهذا المعنى يسجل الإعلان نقلة نحو التفكير بالديمقراطية تتخطى مجرد الدعوة إليها والتبشير بها. إذ توحي العبارات والجمل المقتبسة بأن الديمقراطية تتجه لأن تصبح نهجا في التفكير أو منطقا ذاتيا له (لكن ليس منطقا ذاتيا للعمل وهياكل التنظيم بعد)، ولا تقتصر على كونها دعوة برانية ملصقة به، حلت محل الاشتراكية أو الوحدة العربية. ولا ريب كذلك أن الإعلان يضرب على وتر حساس في ذاكرة أكثر التنظيمات الموقعة عليه حين يتحدث عن “نبذ الفكر الشمولي والقطع مع جميع المشاريع الإقصائية والوصائية والاستئصالية”؛ أو يقرر بوضوح أنه “ليس لأي حزب أو تيار حق الادعاء بدور استثنائي”؛ أو يدعو إلى “الالتزام بجميع المعاهدات والمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان، والعمل ضمن إطار الأمم المتحدة وبالتعاون مع المجموعة الدولية على بناء نظام عالمي أكثر عدلاً”. فهو بذلك يمضي نحو الاعتراض على الأسس الفكرية للاستبداد بعد أن كان اعتراض قوى الإعلان عليه يقتصر على وجهه السياسي في السابق. والكلام على الالتزام بجميع المعاهدات والمواثيق الدولية مهم في هذا الصدد لأن الاستبداد السوري، وربما كل استبداد، يتأسس على الانفصال عن العالم واعتباره بيئة شريرة وعدوانية ومتآمرة، ما يمكنه من عزل المجتمع المحكوم عن العالم وفرض وحدة قسرية وفوقية عليه. وهذا الخطاب “البارانوئي” مزدهر في سورية أيما ازدهار كما هو معلوم. بل إن كل مضمون الوطنية البعثية يرتد إليه دونما فائض.

 

قد لا تكون عملية دمقرطة التفكير المعارض متسقة، وهي بالتأكيد ضيقة القاعدة لا تزال، ولعله يمكن الكلام بحق عن افتقارها إلى أسس فكرية واضحة، أو قد يأخذ عليها نظرة إلى المجتمع السوري كمتحد لمكونات أهلية، الأمر الذي ربما ينزلق بالديمقراطية نحو النموذج التوافقي الذي يقوم عليه النظام اللبناني، ويبدو أنه يشكلا نموذجا لانتظام الحياة السياسية في عراق ما بعد صدام أيضا. وهذا نموذج غير مدروس جديا في بلادنا، ويبدو مقترنا في منطقتنا بالانقسام الطائفي وعدم الاستقرار.

 

قد يكون ذلك كله صحيحا، بيد أن مقاربة الإعلان تتوافق على العموم مع اتجاهات التفكير السياسي الأكثر انهماما بمستقبل ديمقراطي لسورية والأكثر تفاعلا مع الواقع المحلي وتيارات الفكر العالمية في الوقت نفسه. ومعظم الانتقادات التي وجهت للإعلان تدافع عن الواقع الحالي، أو هو تصدر عن مقاربة فكرية أخرى تولى جل اهتمامها لقضية العلمانية. وهذه قضية مهمة بالفعل، بيد أننا لا نجد سياسة علمانية متميزة، أعني سياسة متمحورة حول العلمانية، وتدرجها ضمن عناصر برنامج إصلاح وطني أوسع، وتحرص على استقلالها عن النظام القائم.

 

في ختام هذه الفقرة نلفت النظر إلى عنصر رمزي لم ينتبه إليه أحد، أعني نسبة إعلان التغيير الديمقراطي الذي نتحدث عنه إلى مدينة دمشق. الأمر يتجاوز، في تقدير شخصي، ذكر العاصمة الرسمية البلاد إلى نوع من إعادة الاعتبار للمدينة وتعريض مضمر بالنظام على إضعاف شخصيتها ومعاملتها بقسوة. ينطوي كذلك على رغبة في التواصل مع تاريخ ما قبل العهد البعثي يوم كانت دمشق مدينة حية وعاصمة فعلية ورسمية لسورية، دون أن يكون ذلك على حساب مدن أخرى، بالخصوص حلب التي كانت متفوقة عليها اقتصاديا ووقتها ولها شخصية مستقلة. في واقع الأمر عاصمة سورية اليوم، ومنذ مطلع حكم الرئيس حافظ هي نظام حكمها، بل هي الرئيس شخصيا. دمشق مقر الرئيس، لكنها ليست مقر السياسة والثقافة والرموز والمؤسسات التي قد يتوحد حولها السوريون. والمدينة جسيمة كمادة، أي كسكان وعمران، لكنه تكاد تكون معدومة الشخصية وفاقدة للروح. يمكن القول، تاليا، إن تسمية الإعلان باسم دمشق لفتة رمزية دالة تجاه المدينة، تنطوي على إرادة نزع الشرعية عن النظام الذي يستقر فيها.

 

لحظة زمنية خاصة جدا

 

صدر “إعلان دمشق” يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2005: أربعة أيام بعد “انتحار” غازي كنعان، وزير الداخلية السوري السابق الذي يعتقد انه كان متورطا في أنشطة تهدف إلى قلب النظام، و3 أيام قبل صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية الأول في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري الذي كان اغتيل في 14 شباط فبراير من عام 2005 نفسه، والذي شاع الاعتقاد بأن للسلطات السورية ضلع في اغتياله. المصادفة وحدها، لا المؤامرة، هي ما وقتت صدور الإعلان في هذا الموعد. فقد كان “يطبخ” طوال شهور قبل يوم صدوره. بل وطلب موقعون عليه أن يعلن قبل موعد صدور التقرير الدولي الذي لم يكن مضمونه معروفا بالطبع، تجنبا لاتهامات بأنه ينخرط ضمن حملة ضغط دولية على النظام. وكانت دواعي الحفاظ على سرية وثيقة الإعلان وتجنب معرفة السلطات بمضمونها وبالقوى التي قد تأتلف حولها، قد اقتضت من نواة ضيقة تداول مسودة واحدة لها، تعرض على مختلف القوى السياسية وتؤخذ ملاحظاتها واقتراحاتها عليه.

 

على أن الظرف الزمني للإعلان دال مع ذلك. قبل أقل من ستة شهور كانت انسحبت آخر القوات النظامية السورية من لبنان، وقبل أربعة أشهر كان حزب البعث عقد مؤتمرا شكل الرئيس بشار الأسد بموجبه فريقه الخاص، لكن مع توديع آخر وعود إصلاحية كان أعلنها في مطلع ولايته وسط عام 2000. وكانت السلطات ذاتها متوترة الأعصاب نتيجة لجملة قرارات أصدرها مجلس الأمن منذ القرار 1559 في خريف 2004، وصولا إلى قرار تشكيل لجنة التحقيق الدولي في اغتيال الحريري. وقد انعكس التوتر هذا تشددا في الداخل، تمثل في إغلاق منتدى الأتاسي في أيار (مايو) 2005 واعتقال مجلس إدارته لوقت قصير. وفي الوقت نفسه شهد لبنان مسلسل اغتيالات مروعة استهدفت شخصيات سياسية وإعلامية مناهضة للحكم السوري. وفي نهاية العام نفسه ظهر عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري السابق، على قناة فضائية عربية واتهم النظام السوري، والرئيس نفسه، بالمسؤولية عن اغتيال الحريري.

 

لقد كان الطابع العام لعام 2005 ضغوطا متنامية على النظام وعزلة شديدة تحيق به، إلى درجة بثت الشعور عند كثيرين، داخل سورية وخارجها، أن النظام موشك على الانهيار. وهذا الشعور كامن وراء سطور وثيقة “إعلان دمشق” بلا ريب. ولا ريب أيضا أن نبرة الإلحاحية والاستعجال التي تخللت نص الإعلان صدرت عن افتراض أن ما بقي من عمر النظام ربما يقدر بالأسابيع والشهور. الإعلان نفسه يتحدث عن “مهمة تغيير إنقاذية” كما ذكرنا، وعن “عملية التغيير التي بدأت”، ويدعو “أبناء وطننا البعثيين وإخوتنا من أبناء مختلف الفئات السياسية والثقافية والدينية والمذهبية إلى المشاركة معنا وعدم التردد والحذر”، كما يحرص على تحييد من قد يمكن تحييدهم من أهل النظام بالقول إن التغيير “ليس موجها ضد أحد”، وأنه “لا يخشاه إلا المتورطون بالجرائم والفساد”. هذه عبارات لا تقال إلا إذا كان وراءها اعتقاد بأن التغيير دانٍ، أو أن ثمة دينامية تفضي إليه قد انطلقت فعلا.

 

ولم يكن مضى غير أيام على صدور “إعلان دمشق” حين تقدم رياض الترك بمبادرة سياسية علنية وغير مسبوقة عبر فضائية عربية تدعو رئيس الجمهورية ومجلس وزرائه إلى الاستقالة على أن يتولى رئيس مجلس الشعب الرئاسة مؤقتا والجيش مسؤولية الأمن.. وعلى أن يسلم المشبوهون والمتهمون باغتيال الحريري إلى لجنة التحقيق الدولية. تعطي المبادرة فكرة عن شعور قطاعات من المعارضة وقتها بأن البلاد تواجه مأزقا خطيرا، كما تلقي ضوءا إضافيا على المناخ النفسي والسياسي الذي صدر فيه “إعلان دمشق“.

 

قد يمكن فهم العلاقة بين دعوة الإعلان إلى تغيير جذري ووشيك وبين أحوال النظام المضعضعة وقتها بواحدة من طريقتين. فإما أنه محاولة لاغتنام الفرصة وتهيئة الذات للحلول محل النظام، أو هو جهد باتجاه تحمّل قوى منظمة داخل البلاد المسؤولية وتجنيب سورية مسارا عراقيا كان آخذا بالانبساط أمام عيون السوريين والعالم. يتحدث الإعلان نفسه عن أن “اللحظة الراهنة تتطلب موقفاً وطنياً شجاعاً ومسؤولاً، يخرج البلاد من حالة الضعف والانتظار التي تسم الحياة السياسية الراهنة، ويجنبها مخاطر تلوح بوضوح في الأفق”، ويتكلم على “العمل على وقف حالة التدهور واحتمالات الانهيار والفوضى، التي قد تجرها على البلاد عقلية التعصب والثأر والتطرف وممانعة التغيير الديمقراطي”، ويشير إلى “العزلة الخانقة التي وضع النظام البلاد فيها، نتيجة سياساته المدمرة والمغامرة وقصيرة النظر على المستوى العربي والإقليمي وخاصة في لبنان”، ويعلن “رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج (…) دون دفع البلاد إلى العزلة والمغامرة والمواقف غير المسؤولة”. كل هذه الإشارات الدالة ترجح في تقديرنا كفة القراءة الثانية، أي صدور الإعلان عن الرغبة في تغيير سلمي ومحدود الكلفة للنظام. ومبادرة رياض الترك المشار إليها تعزز هذه القراءة التي يتمثل لبها في العمل على تجنيب البلاد مخاطر فراغ وفوضى سياسيين.

 

ائتلاف “إعلان دمشق

 

تشكل حول وثيقة “إعلان دمشق” أوسع ائتلاف سياسي معارض عرفته سورية في الحقبة البعثية من تاريخها التي ابتدأت عام 1963. لأول مرة يجد المرء عربا وأكرادا، علمانيين وإسلاميين، فضلا عن يساريين وقوميين وليبراليين، ضمن إطار تحالفي واسع للمعارضة، ينتظم تحت راية التغيير الديمقراطي. وقع على الإعلان “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي يضم خمسة تنظيمات من أصول يسارية وقومية عربية، كانت ائتلفت فيما بينها عام 1980 في مواجهة أزمة الصراع الوحشي بين النظام والإسلاميين وقتها. ووقع عليه أيضا كل من “التحالف الديمقراطي الكردي” و”الجبهة الديمقراطية الكردية” في سورية، وهما يضمان معا 8 من 11 أو 12 حزبا كرديا في سورية. ومن موقعي الإعلان كذلك تنظيم لم يكن معروفا سابقا، اسمه “حزب المستقبل”، جرى تعريفه بشخص رئيسه، وهو شيخ عشيرة عربية من منطقة دير الزور شرق البلاد. وثمة أيضا توقيع “لجان إحياء المجتمع المدني”، وهي إطار رخو لنشاط مثقفين وناشطين في الشأن العام، يعمل في السياسة دون أن يكون حزبا سياسيا. كما وقعت عليه “تسع شخصيات وطنية” أبرزها النائب والصناعي السابق رياض سيف الذي كان وقتها سجينا ما زال، والشيخ جودت سعيد الذي يوصف بأنه مفكر إسلامي منفتح ومناهض للعنف، والطبيبة فداء الحوراني، ابنة السياسي السوري الراحل أكرم الحوراني.

 

وفي يوم صدور الإعلان أعلنت جماعة الإخوان المسلمين السوريين انضمامها إليه. قالت الجماعة في بيان موقع باسم مراقبها العام علي صدر الدين البيانوني إنها “تعلنُ اليومَ تأييدَها الكاملَ لـ (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي)، وانضمامَها إلى الموقّعين عليه، وتعتبرُه خطوةً متقدّمةً على طريق بناء الإجماع الوطنيّ العام”، ووصفت الإعلان بأنه “تاريخي”، ودعت “كافّة القوى والشخصيات السياسية، والمنظمات والهيئات الوطنية، داخلَ الوطن وخارجَه، إلى الموقف الموحّد، والانضمام إلى هذا الإعلان التاريخيّ، لإعادة بناء اللحمة الوطنية بكل أبعادها“.

 

ولم يكن انضمام الإخوان المسلمين مفاجئا بحال. ففي أحد وجوهه، كان تاريخ سنوات ما بعد 2000 تاريخ تطبيع حضور الإخوان في الحياة العامة السوريين، وإن عن بعد وعلى نحو افتراضي، أي في كتابات المعارضين ومناقشاتهم ومواقفهم المعلنة. وكان التواصل معهم معلنا، وصوت الدعوة إلى إدماجهم في الحياة الوطنية مسموعا من قبل مثقفين وناشطين علمانيين، فضلا عن أكثر الأحزاب السياسية المعارضة. وكان ظهر رياض الترك والبيانوني على شاشة إحدى الفضائيات العربية قبل شهرين من صدور الإعلان، وتداولا في الأحوال السورية. ساعد على هذه التطورات أن الإخوان كانوا تقدموا بورقة أسموها “ميثاق الشرف الوطني” في أيار (مايو) من عام 2001، أعلنت قبولهم بالديمقراطية، وتحدثت عن دولة مدنية يشكل الإسلام مرجعية حضارية لا مرجعية سياسية لها. هذا قبل أن يصدروا ورقة أوسع في الاتجاه نفسه باسم “المشروع السياسي لسورية المستقبل” في مطالع عام 2005. كذلك قرئت ورقة باسم البيانوني في “منتدى الأتاسي” في أيار (مايو) 2005، في جلسة خصصها المنتدى لعرض مواقف وتصورات قوى المعارضة السورية عن مستقبل البلاد (بيد أن السلطات ستحظر المنتدى بعد ذلك وتعتقل أعضاء مجلس إدارته لأسبوع، وتستمر في اعتقال علي العبد الله، الكاتب والناشط الذي قرأ ورقة البيانوني لمدة ستة أشهر).

 

وبعد قليل انضم إلى الإعلان حزب العمل الشيوعي، وهو تنظيم يساري معارض، كان من الأحزاب التي تعرضت لقمع شديد في ثمانينات القرن العشرين (وسيشارك الحزب في تكوين تحالف يساري ماركسي سوري في شهر نيسان (ابريل) من العام الجاري، 2007، دون أن يغادر “إعلان دمشق”). ستنضم للإعلان كذلك المنظمة الآثورية الديمقراطية (يفترض أنها تمثل ما بقي من الآشوريين والسريان في سورية، وجميعهم مسيحيون، لكنه أكثر المسيحيين السوريين عرب أو يعتبرون أنفسهم كذلك). على أن كلا من حزب العمل والمنظمة الآثورية أرفق انضمامه للإعلان بتحفظات سنأتي لاحقا على ذكر بعضها.

 

تفاعلات “إعلان دمشق

 

كان مقررا أن يعلن عن الإعلان والائتلاف المتكون حوله في مؤتمر صحفي في دمشق، ظهيرة يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر). بيد أن السلطات علمت بالأمر فطوقت المكان المقرر ومنعت التئام المؤتمر. لم يكن رد الفعل هذا مفاجئا ولا مبالغا فيه في الواقع. ولن يجرد النظام حملة اعتقالات خاصة تستهدف الإعلان والقوى الموقعة عليه. بيد أنه ثمة دلائل غير مباشرة على أن السلطات عملت على محاور متعددة من أجل فرط ما اعتبرته عصب الإعلان، أي سعة الائتلاف المكون له، وأنها اجتهدت في سبيل بث الفرقة بين القوى المكونة له. من ناحية دعيت شخصيات كردية مستقلة إلى الحوار مع نائبة الرئيس التي وعدت بالنظر في مظالم الأكراد وتسويتها. بعد أكثر من عام على ذلك اللقاء لم يتمخض عنه أي شيء ملموس، الأمر الذي يرجح أن الهدف منه هو محاولة فتح قناة مع أطراف كردية وإضعاف وعزل التنظيمات الموقعة على الإعلان. من ناحية ثانية ربما استفاد النظام من أزمة ثقة مزمنة بين من قد يمكن تسميتهم بالديمقراطيين والقوميين في التجمع الوطني الديمقراطي، بالتحديد حزب الشعب الديمقراطي (الحزب الشيوعي – المكتب السياسي سابقا) والاتحاد الاشتراكي العربي، وهذا تنظيم ناصري ذو رؤية قومية للعالم، لا تبتعد كثيرا عن الرؤية التي يعلنها خطاب السلطات السورية. والحزبان شريكان في تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي”، بيد أنهما متباعدان اليوم، فكريا ونفسيا، بقدر ما يمكن لأي حزبين أن يتباعدا.

 

وفي المقام الثالث ووجه الإعلان بنقد “يساري” يرى أنه يهمل المطالب الاجتماعية للجماهير، ولا يهتم بحالة القطاع العام، وأنه ليبرالي الهوى ولا يتخذ موقفا واضحا من الهيمنة الأميركية..، وفي المقام الرابع شن “كتاب مستقلون” حملة واسعة على الإعلان وصفوه بأنه إعلان طائفي، ويمثل قوى مسلمة سنية، أو حتى أصولية. وكانت سهلت هذا النقد الأخير فقرة في الإعلان، ركيكة البناء وغير مقبولة المعنى، في رأي كاتب هذا السطور، تقول: “الإسلام الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب. تشكلت حضارتنا العربية في إطار أفكاره وقيمه وأخلاقه، وبالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا، ومن خلال الاعتدال والتسامح والتفاعل المشترك، بعيداً عن التعصب والعنف والإقصاء. مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية، والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة”. فقرة سيئة بالفعل. إذ من غير المقبول الكلام عن أكثرية وأقلية دينيتين أو ثقافيتين في وثيقة سياسية عملية، ولو لم تكن برنامجا سياسيا. هذا مكانه الكتابات النظرية وليس الوثائق العملية، ونصوص المثقفين وليس الوثائق البرنامجية للحركات والتحالفات السياسية. ثم إنه لا ينبغي أن يكون ثمة “آخرين” بين مواطني البلاد. هنا الجميع “أولون”، ومواطنون، ومتساوون، واحترام عقائدهم وثقافتهم وخصوصيتهم مبني على الحرية الدينية وتساوي عقائد المواطنين عند الدولة وليس تفضلا من أية أكثرية. وليس للعقائد الدينية أو غير الدينية مدخل إلى المساس بمواطنتهم وتساويهم السياسي والقانوني. الإعلان الذي أظهر حسا واقعيا بارزا خانه الحس السياسي في هذه النقطة. فمن المعلوم أن قرابة 40 من السوريين هم من غير المسلمين السنة، وأن نسبة يصعب تقديرها، لكنها ليست ضئيلة من المسلمين السنة تنحاز إلى تصور علماني للدولة والقانون والتعليم. هذا يعني أن نصف السوريين على الأقل يشكلون قاعدة اجتماعية لعلمانية من نوع ما، الأمر الذي يقتضي مخاطبة هذا الجمهور وأخذ مطالباته ومخاوفه بعين الاعتبار، وإن دون استعداء مجاني للإسلاميين. لم تكن معظم الانتقادات التي وجهت للإعلان مخلصة، ولا بالخصوص علمانية متسقة، لكن الإعلان وفر لها مستمسكا مقنعا بالفعل. والحال ما كان من الممكن إدراج تلك الفقرة المنكودة لولا افتقار الديمقراطيين السوريين إلى الثقة بأنفسهم. فهم مستبعدون ومقموعون من قبل النظام، وهم لا يستندون إلى قواعد اجتماعية واسعة يعتقد، خطأ في رأينا، أن ما ينفرد بتوجيه سلوكها وخياراتها هو الدين. وتبدو الحداثة التي قد يعرفون أنفسهم بها، خطأ أيضا، متماهية مع الغرب. هذا يجعلهم قلقين، وربما يفسر اقترابهم من الإسلاميين الذين يشاركونهم المعارضة وذاكرة القمع. وينسب إلى رياض الترك قولا يفيد أن الفقرة هذه كانت هدية مجانية وغير مبررة للإسلاميين بينما كان علمانيون هم من تصدر النشاط العام داخل البلاد في السنوات المنقضية من العهد الحالي.

 

إضافة إلى ذلك، هل ثمة عنصر طائفي غير واع في هذه الفقرة، كما صرح كثيرون فور صدور الإعلان؟ هذا أمر لا يصح استبعاده منهجيا.

 

على أن التفاعلات المضادة لإعلان دمشق كان يمكن أن تكون محدودة الأثر لولا أن جملة الشروط المحلية والإقليمية أخذت تتبدل بثبات باتجاه تعزيز تماسك النظام وارتفاع معنوياته وتراجع الضغوط التي كان يتعرض لها. كان “إعلان دمشق” قد صدر للتو حين انتخب المتشدد والشعبوي أحمدي نجاد رئيسا في إيران. وابتدأ عام 2006 بفوز حركة حماس في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية، وبتصاعد كارثي في العنف الطائفي في العراق والمزيد من تخبط الأميركيين فيه. وكان لبنان منقسما بعمق حول كل ما يمس العلاقة مع سورية والتحقيق الدولي في اغتيال الحريري، وأوضاعه تتجه نحو استعصاء أو شلل سياسي.

 

إلى ذلك يفتقر السوريون إلى نموذج جذاب وقريب منهم نفسيا وثقافيا. مصر أفقر من أن تكون النموذج، الأردن والسعودية أدنى ثقافيا و”حضاريا”، لبنان أقل استقرارا، العراق متفجر، تركيا ليست عربية وغير مفهومة جيدا، وإيران ليست عربية ولا جذابة، رغم العلاقة الطيبة بين النظامين. هذا يخدم دوام الواقع الحالي.

 

ولعل العامل الأهم بين هذه جميعا هو تفجر الوضع في العراق، ومتابعة السوريين عبر الفضائيات اختلاجات البلد الجار الذي يشبه بلدهم من وجوه متعددة، وكان يحكمه نظام يشبه نظامهم، بالخصوص إثر المقتلة البشعة التي تلت تفجير مرقد الإمامين في سامراء في شباط (فبراير) 2006. هنا أخذ يبرز ما قد تصح تسميته الخوف من التغيير، الخوف من أن يقود التغيير إلى الفوضى والتنازع الأهلي. لا مجال للاستهانة بهذا العامل السيكولوجي الذي استفاد منه النظام إلى أقصى حد. وقد عمل هذا بأقصى جهده على أن يثبت في أذهان السوريين أن البديل الوحيد عنه هو الفوضى. والرئيس بشار الأسد نفسه قال في خطاب ألقاه في جامعة دمشق بعد صدور وثيقة “إعلان دمشق” بأسابيع قليلة إن الخيار الذي يواجه سورية هو المقاومة (أي نظامه) أو الفوضى. وهذا ليس تخييرا مجردا، فقد انبنت سياسات النظام منذ مطالع العهد البعثي على أن يكون هو مبدأ الانتظام الوحيد للحياة السياسية والعامة في البلاد، وعلى فرط وبعثرة جميع أشكال الانتظام الاجتماعي المستقلة، وإخلاء المجتمع السوري من ما قد تكون نويات لتماسكه الذاتي في حال تداعي النظام الماسك به.

 

تواطأت جملة التبدلات الإقليمية المشار إليها على خلق بؤر توتر واستقطاب جديدة أو تنشيط القديمة منها، ما قلل من الانتباه الدولي إلى النظام السوري من جهة، وما أنشأ من جهة أخرى أوضاعا إقليمية متفجرة وشديدة عدم الاستقرار، الأمر الذي لطالما كان مناسبا للنظام السوري منذ أرسيت في عهد الرئيس حافظ الأسد أسس دور سورية كلاعب إقليمي أساسي.

 

وبهذا فقد “إعلان دمشق” أحدى ركائز قوته النسبية، ركيزة الديناميات الإقليمية التي بدت طوال شهور سائرة بالنظام إلى مزيد من التداعي والوهن. فالإعلان قام على افتراض أن البلاد مقبلة على تغيرات كبيرة ووشيكة، وأنها تحتاج إلى قوة منظمة واسعة الطيف لاستيعاب هذه التغيرات والتأثير على وجهتها بما يوافق المصلحة الوطنية. وإذا سار كل شيء في وجهة تتعارض مع مضمون هذا الافتراض، فإن من سيتهدده التداعي هو “إعلان دمشق” ذاته، هذا إن لم يخضع لإعادة هيكلة باتجاه وعي ذاتي ودور سياسي جديد له. ويبدو لنا منذ الآن أن عملية إعادة الهيكلة هذه لم تجر كما ينبغي، وأن قوى الإعلان تباطأت في إدراك وضعها الحالي والدور الذي يمكن أن تقوم به بعد إخفاق الرهان التغييري الأصلي للإعلان.

 

وفي هذه الأثناء، في آذار (مارس) 2006 أعلن عن تحالف “الإخوان المسلمين” السوريين مع عبد الحليم خدام الذي كان أعلن انفصاله عن النظام قبل شهور. وعلى الفور أثار التحالف تباينا في الرأي وسط قوى “إعلان دمشق”. ثمة من اعترض على التحالف لأسباب سياسية وأخلاقية تتصل بكون خدام أحد أركان النظام حتى قبل شهور قليلة من “انشقاقه”، وأنه لم يعتذر للشعب السوري عن مسؤوليته عن جرائر النظام، إن على مستوى القمع أو الفساد الذي تورط فيه وأبناؤه حسب اعتقاد شائع يبلغ مرتبة اليقين. وثمة من اعترض، بالخصوص في أوساط كانت تتحفظ من قبل على الإخوان أو تعاديهم، لأن تحالف خدام مع الإخوان يوحي بقيام جبهة سنية ضد النظام. وثمة من سكت على التحالف الجديد لأسباب براغماتية: هذا يضعف النظام، إذاً هو جيد. وثمة من دعا إلى تقبل اعتبار “جبهة الإنقاذ الوطني” نفسها جزءا من ائتلاف “إعلان دمشق“.

 

أيا يكن الرأي في هذه المواقف المختلفة، فإن قيام جبهة الإنقاذ عنى عمليا قيام مركزين ثقل غير متطابقين، إن لم نقل متنافرين، لحركة المعارضة السورية. وبينما كانت أجواء من الثقة والشعور بوحدة الحال تشمل الديمقراطيين والإسلاميين، فإن الفتور هو الذي سيطبع أجواء العلاقة بين الطرفين بعد انخراط الإخوان في جبهة الإنقاذ. يمكن القول إنه لم تكن ثمة أية مشكلة مبدئية في العلاقة بين مكوني المعارضة السورية العلمانية والديني طوال السنوات الخمسة أو الستة الأولى من القرن الحالي، التي حضرت فيها بكثافة واقعة كون الطرفين شركاء في التعرض لقمع عنيف من النظام في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. لكن العلاقة ضعفت مع ذلك منذ تشكلت جبهة الإنقاذ في ربيع 2006، وربما أيضا لأن الديمقراطيين كانوا يزدادون ليبرالية، فيما كانت ديمقراطية الإسلاميين شعبوية أو إجرائية في أحسن أحوالها. و”المشروع السياسي لسورية المستقبل”، المشار إليه فوق، يصف تصور الديمقراطية لدى الإخوان السوريين بأنه إجرائي بصراحة.

 

يوحي اسم التحالف الجديد، “جبهة الإنقاذ الوطني”، بالإلحاحية وبمنح مسألة السلطة أهمية قصوى وفورية. هذا في وقت كانت الديناميات المحلية والإقليمية تتجه نحو تقوية النظام وإضعاف المعارضة، وإن كانت لن تقرأ كذلك إلا بعد شهور من قيام الجبهة. على أنه من غير المنصف تحميل المسؤولية للإخوان وحدهم. تشارك في تحمل المسؤولية نزعة سياسوية مفرطة اصطبغ بها العمل العام المعارض في موجته التالية لعام 2000، وهي نزعة ترد النشاط العام إلى السياسة والسياسة إلى مسألة السلطة وحدها. ولا ريب أن في أصل النزعة الطابع الشمولي للنظام، الذي يجمع بين تسييس كل شيء وبين احتكار السياسة، والذي طور خلال عقود حكمه المتمادية سياسة حيال المجتمع تمحورت حول حرق الأرض الاجتماعية كيلا تنبت عليها أحزاب سياسية وقوى اجتماعية مستقلة. ومن المفهوم أنه حين تكون التنظيمات المستقلة محرومة من الماء السياسي الذي تسبح وتتنفس فيه فإنها لن تفكر في غيره، أي في غير السياسة ومسألة السلطة، بوصفها هي ذاتها مسألة الحريات وشرط العمل العام. يضاف إلى ذلك أن قيادات العمل العام الوازنة في سورية كانت في معظمها من المعتقلين السياسيين السابقين الذين عوملوا بقسوة ووحشية في سنوات اعتقالهم الطويلة في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. في هذا يتوحد الإسلاميون واليساريون. ومن الطبيعي أن ينجذب كل تفكيرهم نحو مسألة السلطة والحرية. فسيكولوجية المعتقل السياسي السابق تفسر بوضوح هذا التثبت شبه الحصري على السلطة والسياسة. بيد أن هذا الاستعداد الطبيعي ليس هو الاستعداد الأنسب لسياسة ديمقراطية معارضة في سورية بالضرورة. يتولد لدينا الشعور أحيانا بأن من تعرضوا للوطأة الأقسى من قمع النظام يفقدون أهليتهم لقيادة عملية تغييره، بل معارضته، هذا لأنهم طوروا في سجونهم ميولا واستعدادات نفسية غير ملائمة لسياسات متوازنة. قول هذا غير منصف لهم، لكنه واقع يفرض نفسه.

 

نريد القول إن السياسوية المفرطة لموجة ما بعد 2000 من العمل المعارض سهلت انزلاق الإخوان إلى التحالف مع خدام بأقل قدر من الوساوس.

 

إعادة هيكلة “إعلان دمشق

 

وبحصيلة إجمالية يبدو لنا أن تحالف “جبهة الإنقاذ الوطني” قد أسهم في إضعاف المعارضة لا في تقويتها، وفي ثلم سمعتها لا في رفع شأنها. وبتفاعل هذا الشرط مع ارتفاع الضغوط عن النظام واستعادته قسطا من الثقة بنفسه وجدت المعارضة نفسها أمام ضرورة إجراء انعطاف في سياستها وتوجهها النفسي، إن شاءت تجنب الاصطدام العنيف بالنظام، لكنه انعطاف لا تتوفر على عدته الفكرية والتنظيمية والسياسية. بل ينبغي القول إن الواقع تكفل بفرض الانعطاف فعلا، لكن دون استيعابه بالفكر ودون تأهيل صيغ التنظيم المناسبة وصوغه في سياسة متسقة جديدة. لا أحد يتحدث اليوم عن تغيير جذري وإنقاذي، أو يعتقد بضرورة التأهب لدرأ مخاطر الانهيار والفوضى التي بدت محدقة بالبلاد وقتها. لكن لا أحد كذلك بلور تصورا جديدا لدور “إعلان دمشق” بعد الانعطاف.

 

بتراجع رهانه السياسي العملي أخذ “إعلان دمشق” يتحول إلى إطار تنسيق وتفاعل بين القوى المؤتلفة ضمنه. وهذا شيء مهم، بالخصوص من أجل التعارف وبناء الثقة بين المجموعات العربية والكردية التي افتقرت على الدوام إلى علاقات منظمة بينها. بيد أنه تنال من هذا الإطار أزمات ثقة بين بعض أطرافه (ألمحنا إلى بعضها فوق)، وحساسيات موروثة تتصل بتمايزات إيديولوجية وسياسية، قد تغتذي كذلك من تمايزات أهلية أيضا.

 

يشغل “إعلان دمشق” متن الحراك المعارض في البلاد، بحكم تكون القوى المشاركة فيه الاجتماعي والثقافي المنفتح على السورية والعربية والإسلامية، وهو تاليا الإطار الأقدر سيكولوجيا وفكريا على المبادرة السياسية والميدانية على المستوى الوطني، أي التي يمكن أن يلتف حولها أكثرية وطنية سورية من حيث المبدأ. في سورية تيارات معارضة أخرى، لكنها غير “متنيّة”، وقدرتها على المبادرة الوطنية أدنى، ويتعذر أن تتكون حولها أكثرية وطنية ولو من حيث المبدأ. إن “إعلان دمشق” مؤهل لموقع ودور هيمني، لا يمكن مضاهاته من قبل تيارات أخرى تميل إلى تعريف نفسها بالتمايز عنه، إن لم نقل بالاعتراض عليه. بيد أن كثيرا من الشغل الفكري والسياسي والنفسي يلزم قبل أن يتحقق الدور الهيمني هذا في الواقع.

 

ورغم عودة النظام إلى احتلال مطلق للميدان العام في السنوات الأخيرة فإن الأنشطة الاحتجاجية العلنية هي تلك التي يدعو لها أو ينظمها أو يشارك فيها ائتلاف “إعلان دمشق”. من ذلك الاعتصام في ذكرى إعلان حالة الطوارئ يوم استولى حزب البعث على السلطة في 8 آذار (مارس) 1963، أو المشاركة في اعتصام بذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول (ديسمبر). على أن الاعتصامات هذه لم تستقطب في أي يوم ما يتجاوز بضعة مئات أو أقل من الناشطين والمهتمين. وهي لم تبلغ أبدا عتبة الكسر النهائي لما يسمى في سورية جدار الخوف، كما لا تثير فضول أو اهتمام الجمهور المار أمام المعتصمين الذين تعرضوا في كل المرات إلى قمع مباشر يتراوح بين الاعتداء الفيزيائي عليهم والاعتقال. وفي آخر اعتصام في ذكرى حالة الطوارئ في آذار الماضي اعتقلت السلطات عشرات المعتصمين، لكنها تركتهم بعد ساعات قليلة على مسافات متفاوتة من مدينة دمشق.

 

هنا تظهر المشكلة الجيلية التي تعاني منها المعارضة السورية بحدة متزايدة منذ بدايات موجة النشاط العام المعارض في عام 2000. يتعلق الأمر باكتهال قيادات المعارضة وقواعدها وضعف نسبة الشباب في أوساطها، وتاليا نقص حيويتها وتثاقل حركتها وقلة الأفكار والمبادرات الإبداعية في أوساطها على المستويات الميدانية والتنظيمية والفكرية والسياسية. هذه مشكلة يعيها النظام جيدا ويحرص على استمرارها، بدليل التعامل القاسي وغير المسبوق مع مجموعة من الشبان، اعتقلوا قبل عام بتهم من بينها تأسيس منظمة طلابية موازية، ولم يسمح لعائلاتهم بزيارتهم منذ اعتقالهم.

 

إلى ذلك يفتقر الإعلان إلى وسيلة إعلام جماهيرية، كالإذاعة والتلفزيون والصحف العلنية، تتيح له مخاطبة دوائر تتعدى المنخرطين مباشرة في أنشطته. ولا يعوض عن هذا الغياب موقع الإعلان على شبكة الإنترنت damdec.orgالذي ينشر أخبارا ووثائق ومقالات تتصل بنشاط المعارضة أو بالأوضاع السورية. فالانترنت لا يزال وسيلة اتصال وإعلام نخبوية في سورية. هذا فوق كونه مراقبا من قبل السلطات التي طورت في السنوات الأخيرة قدراتها التقنية والبشرية على مراقبة الاتصالات الهاتفية والإلكترونية. وفوق ذلك كله بادرت السلطات إلى حجب موقع الإعلان في الثالث من شهر أيار (مايو) 2007، كما كان سبق لها أن فعلت مع مواقع معارضة أخرى.

 

ما يمكن أن نخلص عليه من هذا العرض المجمل أن ائتلاف “إعلان دمشق” يواجه اليوم مهمة إعادة بناء ذاته والخروج من منطق المواجهة المحموم نحو تأهيل حركة معارضة ديمقراطية قادرة على التعاطي بمرونة وكفاءة مع مطالب السوريين، بما فيها المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك مع التحديات التي ستواجه البلاد من كل بد في بضع السنين القادمة. هذه مهمة أطول نفسا وأشد مشقة. ولعل من شأن العمل الجاري اليوم على تشكيل مجلس وطني يضم ممثلي قوى الإعلان وناشطين ومثقفين ديمقراطيين أن يكون خطوة نحو إعادة تأهيل الذات المطلوبة والإعداد لموجة جديدة من الحراك الديمقراطي. وفي تقدير شخصي لكاتب هذه السطور أن البلاد مقبلة على أزمة سياسية كبيرة خلال عامين أو ثلاثة نتيجة التقاء تفاقم مفاعيل اللبرلة الاقتصادية وتعنت النظام حيال الداخل وإصراره على سياسة القبضة الحديدية وعجزه عن اقتراح أية مخارج إيجابية لمشكلات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودورات التأزم الشرق أوسطية التي تتكرر كل عقد تقريبا. سيكون من المهم جدا تجنيب سوريا حالة فراغ سياسي قد تنفتح على مخاطر الفوضى والتنازع الأهلي. هذا يرتب على الديمقراطيين السوريين، وقوى “إعلان دمشق” بالخصوص، دورا كبيرا يتعين تأهيل الذات منذ الآن للقيام به، أعني دور القوى المنظمة التي تستطيع أن تفرض على النظام تنازلات حقيقية من أجل السوريين، أو تتدارك أسوأ الاحتمالات إن شهدت البلاد طور فراغ سياسي.

 

ختاما، كان “إعلان دمشق” دفقة حيوية وحرية في بلد تعرض مجتمعه لقسوة رهيبة طوال عقود. مثل الإعلان أفضل ما لدى السوريين من إرادة تحرر وإبداع وحب لبلدهم. ووقفت في وجهه وأعاقت تطوره أسوأ مصاعبهم وأشد أمراضهم استعصاء على المعالجة. فإذا كانت قطاعات مهمة منهم قد توافقت على الائتلاف حول تلك الوثيقة، فإنه لا شيء يمنع أن يطورا في أيام مقبلة أفكارا أصيلة وأشكال تعاون مبتكرة لمستقبل ديمقراطي لسورية.

 

دمشق، 13 أيار 2007

 

*ورقة قدمت في ورشة عمل نظمها “مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان” تحت عنوان “أي مستقبل لحركات النغيير الديمراطي في العالم العربي” في 17 و18 أيار الماضي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى